الباحث القرآني

﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ﴾ وهو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ فَقِيلَ عَلى تَأْوِيلِ ﴿مَن في السَّماءِ﴾ أمْرُهُ سُبْحانَهُ وقَضاؤُهُ يَعْنِي أنَّهُ مِنَ التَّجَوُّزِ في الإسْنادِ أوْ أنَّ فِيهِ مُضافًا مُقَدَّرًا وأصْلُهُ مَن في السَّماءِ أمْرُهُ، فَلَمّا حُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ ارْتَفَعَ واسْتَتَرَ. وقِيلَ: عَلى تَقْدِيرِ خالِقِ مَن في السَّماءِ وقِيلَ: ﴿فِي﴾ بِمَعْنى عَلى ويُرادُ العُلُوُّ بِالقَهْرِ والقُدْرَةِ وقِيلَ هو مَبْنِيٌّ عَلى زَعْمِ العَرَبِ حَيْثُ كانُوا يَزْعُمُونَ أنَّهُ سُبْحانَهُ في السَّماءِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ( أأمِنتُمْ ) مَن تَزْعُمُونَ أنَّهُ ﴿فِي السَّماءِ﴾ وهو مُتَعالٍ عَنِ المَكانِ وهَذا في غايَةِ السَّخافَةِ فَكَيْفَ يُناسِبُ بِناءُ الكَلامِ في مِثْلِ هَذا المَقامِ عَلى زَعْمِ بَعْضِ زَعْمِ الجَهَلَةِ كَما لا يَخْفى عَلى المُنْصِفِ، أوْ هو غَيْرُهُ عَزَّ شَأْنُهُ وإلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُهم فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالمَوْصُولِ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ المُوَكَّلُونَ بِتَدْبِيرِ هَذا العالَمِ وقِيلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو المَلِكُ المُوَكَّلُ بِالخَسْفِ، وأئِمَّةُ السَّلَفِ لَمْ يَذْهَبُوا إلى غَيْرِهِ تَعالى والآيَةُ عِنْدَهم مِنَ المُتَشابِهِ. وقَدْ قالَ ﷺ: ««آمَنُوا بِمُتَشابِهِهِ»» . ولَمْ يَقُلْ أوَّلُوهُ فَهم مُؤْمِنُونَ بِأنَّهُ ( عَزَّ وجَلَّ ) في السَّماءِ عَلى المَعْنى الَّذِي أرادَهُ سُبْحانَهُ مَعَ كَمالِ التَّنْزِيهِ، وحَدِيثُ الجارِيَةِ مِن أقْوى الأدِلَّةِ لَهم في هَذا البابِ وتَأْوِيلُهُ بِما أوَّلَ ابْنُ الخَلَفِ خُرُوجٌ عَنْ دائِرَةِ الإنْصافِ عِنْدَ أُولِي الألْبابِ. وفي فَتْحِ البارِي لِلْحافِظِ ابْنِ حَجْرٍ أُسْنِدَ الَّلكائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ الشَّيْبانِيِّ قالَ: اتِّفاقُ الفُقَهاءِ كُلِّهِمْ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ عَلى الإيمانِ بِالقُرْآنِ والأحادِيثِ الَّتِي جاءَتْ بِها الثِّقاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في صِفَةِ الرَّبِّ مِن غَيْرِ تَشْبِيهٍ ولا تَفْسِيرٍ. وأسْنَدَ البَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أحْمَدَ بْنِ أبِي الحِوارِيِّ عَنْ سُفْيانَ بْنِ عُيَيَنْةَ: كُلُّ ما وصَفَ اللَّهُ تَعالى بِهِ نَفْسَهُ في كِتابِهِ فَتَفْسِيرُهُ تِلاوَتُهُ والسُّكُوتُ عَنْهُ وهَذِهِ طَرِيقَةُ (p-16)الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وقالَ إمامُ الحَرَمَيْنِ في الرِّسالَةِ النِّظامِيَّةِ: اخْتَلَفَ مَسالِكُ العُلَماءِ في هَذِهِ الظَّواهِرِ فَرَأى بَعْضُهم تَأْوِيلَها والتَزَمَ ذَلِكَ في آيِ الكِتابِ وما يَصِحُّ مِنَ السُّنَنِ، وذَهَبَ أئِمَّةُ السَّلَفِ إلى الِانْكِفافِ عَنِ التَّأْوِيلِ وإجْراءِ الظَّواهِرِ عَلى مَوارِدِها وتَفْوِيضِ مَعانِيها إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، والَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا ونَدِينُ اللَّهَ تَعالى بِهِ عَقِيدَةً اتِّباعُ سَلَفِ الأُمَّةِ لِلدَّلِيلِ القاطِعِ عَلى أنَّ إجْماعَ الأُمَّةِ حُجَّةٌ، فَلَوْ كانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّواهِرِ حَتْمًا لَأوْشَكَ أنْ يَكُونَ اهْتِمامُهم بِهِ فَوْقَ اهْتِمامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، إذِ انْصَرَمَ عَصْرُ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ عَلى الإضْرابِ عَنِ التَّأْوِيلِ كانَ ذَلِكَ هو الوَجْهَ المُتَّبَعَ انْتَهى كَلامُ الإمامِ. وقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ في ذَلِكَ عَنْ أهْلِ العَصْرِ الثّالِثِ وهم فُقَهاءُ الأمْصارِ كالثَّوْرِيِّ والأوْزاعِيِّ ومالِكٍ واللَّيْثِ ومَن عاصَرَهم وكَذا مَن أخَذَ عَنْهم مِنَ الأئِمَّةِ، فَكَيْفَ لا يُوثَقُ بِما اتَّفَقَ عَلَيْهِ أهْلُ القُرُونِ الثَّلاثَةِ وهم خَيْرُ القُرُونِ بِشَهادَةِ صاحِبِ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ انْتَهى كَلامُ الحافِظِ عَلى وجْهِ الِاخْتِصارِ. ونَقَلَ نُصُوصَ الأئِمَّةِ في إجْراءِ ذَلِكَ عَلى الظّاهِرِ مَعَ التَّنْزِيهِ مِن غَيْرِ تَأْوِيلٍ يُفْضِي إلى مَزِيدِ بَسْطٍ وتَطْوِيلٍ وقَدْ أُلِّفَتْ فِيهِ كُتُبٌ مُعْتَبَرَةً مُطَوَّلَةٌ ومُخْتَصَرَةٌ. وفي تَنْبِيهِ العُقُولِ لِشَيْخِ مَشايِخِنا إبْراهِيمَ الكُورانِيِّ أنَّ إجْماعَ القُرُونِ الثَّلاثَةِ عَلى إجْراءِ المُتَشابِهاتِ عَلى مَوارِدِها مَعَ التَّنْزِيهِ بِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورى: 11] دَلِيلٌ عَلى أنَّ الشّارِعَ صَلَواتُ اللَّهِ تَعالى وسَلامُهُ عَلَيْهِ أرادَ بِها ظَواهِرَها والجَزْمُ بِصِدْقِهِ ﷺ دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ المُعارِضِ العَقْلِيِّ الدّالِّ عَلى نَقِيضِ ما دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ في نَفْسِ الأمْرِ وإنْ تَوَهَمَهُ العاقِلُ في طَوْرِ النَّظَرِ والفِكْرِ. فَمَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى بِهَذا النَّحْوِ مِنَ الصِّفاتِ طَوْرٌ وراءَ ذَلِكَ انْتَهى. وأنا أقُولُ في التَّأْوِيلِ اتِّباعُ الظَّنِّ وقَوْلُ في اللَّهِ ( عَزَّ وجَلَّ ) بِغَيْرِ عِلْمٍ وإلّا لاتَّحَدَ ما يَذْكُرُونَهُ مِنَ المَعْنى فِيهِ مَعَ أنَّ الأمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ حَيْثُ يَذْكُرُونَ في تَأْوِيلِ شَيْءٍ واحِدٍ وُجُوهًا مِنَ الِاحْتِمالاتِ وفِيما عَلَيْهِ السَّلَفُ سَلامَةٌ مِن ذَلِكَ ويَكْفِي هَذا في كَوْنِهِ أحْسَنَ المَسالِكِ. ؎وما ( عَلَيَّ ) إذا ما قُلْتُ مُعْتَقَدِي دَعِ الجَهُولَ يَظُنُّ الجَهْلَ عُدْوانًا وقَرَأ نافِعٌ «أأمِنتُمْ» بِتَحْقِيقِ الهَمْزَةِ الأُولى وتَسْهِيلِ الثّانِيَةِ وأدْخَلَ أبُو عَمْرٍو وقالُونَ بَيْنَهُما ألِفًا. وقَرَأ قُنْبُلٌ بِإبْدالِ الأُولى واوًا لِضَمِّ ما قَبْلَها وهو راءُ النُّشُورِ وعَنْهُ وعَنْ ورْشٍ غَيْرُ ذَلِكَ أيْضًا. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن ( مَن ) وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ الجارِّ أيْ مِن أنْ يَخْسِفَ ومَحَلُّهُ حِينَئِذٍ النَّصْبُ أوِ الجَرُّ والباءُ لِلْمُلابَسَةِ والأرْضُ مَفْعُولٌ بِهِ لِيَخْسِفَ والخَسْفُ قَدْ يَتَعَدّى قالَ الرّاغِبُ يُقالُ خَسَفَهُ اللَّهُ تَعالى وخَسَفَ هو قالَ تَعالى: ﴿فَخَسَفْنا بِهِ وبِدارِهِ الأرْضَ﴾ [القَصَصِ: 81] . أيْ أأمِنتُمْ مِن أنْ يُذْهِبَ الأرْضَ إلى سُفْلٍ مُلْتَبِسَةً بِكم وزَعَمَ بَعْضُهم لُزُومَ لُزُومِهِ وأنَّ ﴿الأرْضَ﴾ نُصِبَ بِنَزْعِ الخافِضِ أيْ أنْ يَخْسِفَ بِكم في الأرْضِ ولَيْسَ كَذَلِكَ ﴿فَإذا هِيَ﴾ حِينَ الخَسْفِ ﴿تَمُورُ﴾ تَرْتَجُّ وتَهْتَزُّ اهْتِزازًا شَدِيدًا، وأصْلُ المَوْرِ التَّرَدُّدُ في المَجِيءِ والذَّهابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب