الباحث القرآني

﴿فاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ﴾ الَّذِي هو كُفْرُهم وتَكْذِيبُهم بِآياتِ اللَّهِ تَعالى ونَذُرِهِ ( عَزَّ وجَلَّ ﴿فَسُحْقًا لأصْحابِ السَّعِيرِ﴾ أيْ فَبَعُدا لَهم مِن رَحْمَتِهِ تَعالى وهو دُعاءٌ عَلَيْهِمْ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ والكِسائِيُّ «فَسُحْقًا» بِضَمِّ الحاءِ والسُّحْقُ مُطْلَقًا البُعْدُ، وانْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ أيْ سَحَقَهُمُ اللَّهُ تَعالى سَحْقًا قالَ الشّاعِرُ: ؎يَجُولُ بِأطْرافِ البِلادِ مَغْرِبًا وتَسْحَقُهُ رِيحُ الصِّبا كُلَّ مُسْحَقِ وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ إمّا فِعْلٌ مُتَعَدٍّ مِنَ المَزِيدِ بِحَذْفِ الزَّوائِدِ كَما في قَوْلِهِ: وإنْ أهْلِكُ فَذَلِكَ كانَ قَدَرِي أيْ تَقْدِيرِي والتَّقْدِيرُ فَأسْحَقَهُمُ اللَّهُ سَحْقًا أيْ إسْحاقًا، أوْ بِفِعْلٍ مُرَتَّبٍ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ أيْ فَأسْحَقَهُمُ اللَّهُ تَعالى فَسُحِقُوا سَحْقًا كَما في قَوْلِهِ: ؎وعَضَّةَ دَهْرٍ يا ابْنَ مَرْوانَ لَمْ تَدَعْ ∗∗∗ مِنَ المالِ إلّا مَسَحَتْ أوْ مُجَلَّفِ أيْ لَمْ تَدَعْ فَلَمْ يَبْقَ إلّا مَسَحَتْ وإلى أوَّلِ الوَجْهَيْنِ ذَهَبَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ والزَّجاجُ، وبَعْدَ ثُبُوتِ الفِعْلِ الثُّلاثِيِّ المُتَعَدِّي كَما في البَيْتِ وبِهِ قالَ أبُو حَيّانٍ لا يَحْتاجُ إلى ما ذَكَرَ. واللّامُ في ﴿لأصْحابِ﴾ لِلتَّبْيِينِ كَما في ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يُوسُفَ: 23] وسَقْيًا لَكَ وفي الآيَةِ عَلى ما قِيلَ تَغْلِيبٌ، ولَعَلَّ وجْهَهُ عِنْدَ القائِلِ وهو أنَّ السُّوقَ يَقْتَضِي أنْ يُقالَ فَسَحْقًا لَهم ولِأصْحابِ السَّعِيرِ فَإنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أوَّلًا أحْوال الشَّياطِينِ حَيْثُ قالَهُ سُبْحانَهُ ﴿وأعْتَدْنا لَهم عَذابَ السَّعِيرِ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ أحْوالَ الكُفّارِ حَيْثُ قالَ عَزَّ وجَلَّ ﴿ولِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ﴾ والأوْفَقُ بِقِراءَةِ النَّصْبِ والأبْعَدُ مِن شُبْهَةِ التَّكْرارِ أنْ يُرادَ بِالمَوْصُولِ غَيْرُ الشَّياطِينِ ثُمَّ قالَ تَعالى شَأْنُهُ ﴿فَسُحْقًا لأصْحابِ السَّعِيرِ﴾ فَكَأنَّ السَّوْقُ يَقْتَضِي فَسُحْقًا لَهم ولِأصْحابِ السَّعِيرِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ كَذَلِكَ لِأجْلِ التَّغْلِيبِ حَيْثُ أطْلَقَ أصْحابَ السَّعِيرِ عَلى الشَّياطِينِ والكُفّارِ جَمِيعًا. ولا يَضُرُّ في هَذا دَلالَةُ غَيْرِ آيَةٍ عَلى عَدَمِ اخْتِصاصِ أصْحابِ السَّعِيرِ بِالشَّياطِينِ بَلْ يُطْلَقُ عَلى سائِرِ الكَفَرَةِ أيْضًا لِأنَّهُ يَكْفِي في التَّغْلِيبِ الِاخْتِصاصُ المُتَبادِرُ مِنَ السَّوْقِ هُنا ولا تَوَقُّفَ لَهُ عَلى عَدَمِ جَوازِ إطْلاقِ ذَلِكَ عَلى غَيْرِ الشَّياطِينِ في شَيْءٍ مِنَ المَواضِعِ عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ لا حاجَةَ إلى التِزامِ اخْتِصاصِ أصْحابِ السَّعِيرِ بِالشَّياطِينِ أصْلًا ولَوْ بِحَسَبِ السَّوْقِ، بَلى يَكْفِي لِصِحَّةِ التَّوْجِيهِ كَوْنُهم أصِيلًا في دُخُولِ السَّعِيرِ والكُفّارُ مُلْحَقِينَ بِهِمْ كَما يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ما كُنّا في أصْحابِ السَّعِيرِ﴾ بِمَعْنى في عِدادِهِمْ وجُمْلَتِهِمْ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الدّاخِلُ في السَّعِيرِ قِسْمَيْنِ. وكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ ذِكْرُهُما مَعًا في الدُّعاءِ عَلَيْهِمْ بِالسَّحْقِ كَما يَشْهَدُ بِهِ سِياقُ الآيَةِ، لَكِنَّهُ عَدَّلَ وغَلَّبَ (p-13)أصْحابَ السَّعِيرِ الدّالِّ عَلى الأصالَةِ عَلى غَيْرِهِ مِنَ التَّوابِعِ وذَكَرَ أنَّ في هَذا التَّغَلُّبِ إيجازًا وهو ظاهِرٌ، ومُبالَغَةً أيْ في الإبْعادِ إذْ لَوْ أُفْرِدَ كُلٌّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ بِالذِّكْرِ لَأمْكَنَ أنْ يُتَوَهَّمَ تَفاوُتُ الإبْعادَيْنِ بِأنْ يَكُونَ إبْعادُ الكَفَرَةِ دُونَ إبْعادِ الشَّياطِينِ عَلى ما يُشْعِرُ بِهِ جَعْلُهُمُ الشَّياطِينَ أصِيلًا وأنْفُسَهم مُلْحَقَةً بِهِمْ، فَلَمّا ضُمُّوا إلَيْهِمْ في الحُكْمِ بِهِ دَلَّ عَلى أنَّ إبْعادَهم لَمْ يَقْصُرْ عَنْ إبْعادِ أُولَئِكَ وأيْضًا لَمّا غَلَّبَ سُبْحانَهُ وتَعالى أصْحابَ السَّعِيرِ وهُمُ الشَّياطِينُ عَلى الكُفّارِ فَقَدْ جَعَلَ الكَفّارَ مِن قَبِيلِ الشَّياطِينِ فَكَأنَّهم هم بِأعْيانِهِمْ، وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ ما لا يَخْفى وتَعْلِيلًا فَإنَّ تَرَقُّبَ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ وكَذا تَعَلُّقُهُ بِهِ يُشْعِرُ بِعِلِّيَتِهِ لَهُ فَيُشْعِرُ ذَلِكَ بِأنَّ الإبْعادَ حَصَلَ لَهم لِأجْلِ كَوْنِهِمْ أصْحابَ السَّعِيرِ. وقِيلَ في تَوْجِيهِ التَّغْلِيبِ وما فِيهِ مِنَ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ غَيْرُ هَذا، وقَدْ عُدَّ ذَلِكَ مِنَ المُشْكِلاتِ وغَدا مُعْتَرَكًا لِعُلَماءِ الرُّومِ وغَيْرِهِمْ مِنَ العُلَماءِ الأعْلامِ ولَعَلَّ ما ذَكَرْناهُ أقْرَبُ إلى الأفْهامِ وأبْعَدُ عَنِ النِّزاعِ والخِصامِ فَتَأمَّلْ واللَّهُ تَعالى ولِيُّ الأفْهامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب