الباحث القرآني
سُورَةُ الطَّلاقِ
وتُسَمّى سُورَةَ -النِّساءِ القُصْرى - كَذا سَمّاها ابْنُ مَسْعُودٍ كَما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ، وأنْكَرَهُ الدّاوُدِيُّ، فَقالَ: لا أرى القُصْرى مَحْفُوظًا ولا يُقالُ لِشَيْءٍ مِن سُورَةِ القُرْآنِ: قُصْرى ولا صُغْرى، وتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأنَّهُ رَدٌّ لِلْأخْبارِ الثّابِتَةِ بِلا مُسْتَنَدٍ والقِصَرُ والطُّولُ أمْرٌ نِسْبِيٌّ، وقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّهُ قالَ: طُولى الطُّولَيَيْنِ، وأرادَ بِذَلِكَ سُورَةَ الأعْرافِ -وهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفاقِ. .
واخْتُلِفَ في عَدَدِ آياتِها فَفي البَصْرِيِّ إحْدى عَشْرَةَ آيَةً، وفِيما عَداهُ اثْنَتا عَشْرَةَ آيَةً، ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ فِيما تَقَدَّمَ ﴿إنَّ مِن أزْواجِكم وأوْلادِكم عَدُوًّا لَكُمْ﴾ [التَّغابُنَ: 14] وكانَتِ العَداوَةُ قَدْ تُفْضِي إلى الطَّلاقِ ذَكَرَ جَلَّ شَأْنُهُ هُنا الطَّلاقَ وأرْشَدَ سُبْحانَهُ إلى الِانْفِصالِ مِنهُنَّ عَلى الوَجْهِ الجَمِيلِ، وذَكَرَ عَزَّ وجَلَّ أيْضًا ما يَتَعَلَّقُ بِالأوْلادِ في الجُمْلَةِ، فَقالَ عَزَّ مِن قائِلٍ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ﴾ خَصَّ النِّداءَ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وعَمَّ الخِطابَ بِالحُكْمِ لِأنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إمامُ أُمَّتِهِ كَما يُقالُ لِرَئِيسِ القَوْمِ وكَبِيرِهِمْ: يا فُلانُ افْعَلُوا كَيْتَ وكَيْتَ إظْهارًا لِتَقَدُّمِهِ واعْتِبارًا لِتَرَؤُّسِهِ، وأنَّهُ المُتَكَلِّمُ عَنْهم والَّذِي يُصْدِرُونَ عَنْ رَأْيِهِ ولا يَسْتَبِدُّونَ بِأمْرٍ دُونَهُ فَكانَ هو وحْدَهُ في حُكْمِهِمْ كُلِّهِمْ وسادًّا مَسَدَّ جَمِيعِهِمْ، وفي ذَلِكَ مِن إظْهارِ جَلالَةِ مَنصِبِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما فِيهِ، ولِذَلِكَ اخْتِيرَ لَفْظَ ”النَّبِيُّ“ لِما فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقِيلَ: الخِطابُ كالنِّداءِ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلّا أنَّهُ اخْتِيرَ ضَمِيرُ الجَمْعِ لِلتَّعْظِيمِ نَظِيرَ ما في قَوْلِهِ:
ألا فارْحَمُونِي يا إلَهَ مُحَمَّدٍ وقِيلَ: إنَّهُ بَعْدَ ما خاطَبَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالنِّداءِ صَرَفَ سُبْحانَهُ الخِطابَ عَنْهُ لِأُمَّتِهِ تَكْرِيمًا لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِما في الطَّلاقِ مِنَ الكَراهَةِ فَلَمْ يُخاطَبْ بِهِ تَعْظِيمًا، وجَعَلَ بَعْضُهُمُ الكَلامَ عَلى هَذا بِتَقْدِيرِ القَوْلِ أيْ قُلْ لِأُمَّتِكَ: ﴿إذا طَلَّقْتُمُ﴾، وقِيلَ: حُذِفَ نِداءُ الأُمَّةِ، والتَّقْدِيرُ يا أيُّها النَّبِيُّ (p-129)
وأُمَّةَ النَّبِيِّ إذا طَلَّقْتُمْ، وأيًّا ما كانَ فالمَعْنى إذا أرَدْتُمْ تَطْلِيقَهُنَّ عَلى تَنْزِيلِ المُشارِفِ لِلْفِعْلِ مَنزِلَةَ الشّارِعِ فِيهِ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ لَوْلا هَذا التَّجَوُّزُ لَمْ يَسْتَقِمِ الكَلامُ لِما فِيهِ مِن تَحْصِيلِ الحاصِلِ، أوْ كَوْنُ المَعْنى إذا طَلَّقْتُمْ فَطَلِّقُوهُنَّ مَرَّةً أُخْرى وهو غَيْرُ مُرادٍ، وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: لَكَ أنْ تَقُولَ: لا حاجَةَ إلى ذَلِكَ بَلْ هو مِن تَعْلِيقِ الخاصِّ بِالعامِّ وهو أبْلَغُ في الدَّلالَةِ عَلى اللُّزُومِ كَما يُقالُ: إنْ ضَرَبْتَ زَيْدًا فاضْرِبْهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا لِأنَّ المَعْنى إنْ يَصْدُرْ مِنكَ ضَرْبٌ فَلْيُكُنْ ضَرْبًا شَدِيدًا، وهو أحْسَنُ مِن تَأْوِيلِهِ بِالإرادَةِ فَتَدَبَّرِ. انْتَهى، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ المُتَبادَرَ فِيما ذَكَرَهُ كَوْنُهُ عَلى مَعْنى الإرادَةِ أيْضًا ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أيْ لِاسْتِقْبالِ عِدَّتِهِنَّ، واللّامُ لِلتَّوْقِيتِ نَحْوَ كَتَبْتُهُ لِأرْبَعِ لَيالٍ بَقِينَ مِن جُمادى الأُولى، أوْ مُسْتَقْبِلاتٍ لَها عَلى ما قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِما فِيهِ نَظَرُ واعْتِبارُ الِاسْتِقْبالِ - رَأْيُ مَن يَرى أنَّ العِدَّةَ بِالحَيْضِ وهي القُرُوءُ في آيَةِ البَقَرَةِ - كالإمامِ أبِي حَنِيفَةَ - لِيَكُونَ الطَّلاقُ في الطُّهْرِ وهو الطَّلاقُ المَأْمُورُ بِهِ، والمُرادُ بِالأمْرِ بِإيقاعِهِ في ذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ إيقاعِهِ في الحَيْضِ.
وقَدْ صَرَّحُوا جَمِيعًا بِأنَّ ذَلِكَ الطَّلاقَ بِدْعِيٌّ حَرامٌ، وقُيِّدَ الطُّهْرُ بِكَوْنِهِ لَمْ يُجامَعْنَ فِيهِ، واسْتُدِلَّ لِذَلِكَ، ولِاعْتِبارِ الِاسْتِقْبالِ بِما أخْرَجَهُ الإمامانِ: مالِكٌ والشّافِعِيُّ والشَّيْخانِ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ وآخِرُونَ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ثُمَّ قالَ: لِيُراجِعْها ثُمَّ يُمْسِكْها حَتّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ فَإنْ بَدا لَهُ أنْ يُطَلِّقَها فَلْيُطَلِّقْها طاهِرًا قَبْلَ أنْ يَمَسَّها فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُطَلَّقَ لَها النِّساءُ.
وقَرَأ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ في قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ -» وكانَ ابْنُ عُمَرَ كَما أخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ يَقْرَأُ كَذَلِكَ، وكَذَلِكَ ابْنُ عَبّاسٍ، وفي رِوايَةٍ عَنْهُما أنَّهُما قَرَآ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ ومَن يَرى أنَّ العِدَّةَ بِالِأطْهارِ -وهِيَ القُرُوءُ - في تِلْكَ الآيَةِ كالإمامِ الشّافِعِيِّ يُعَلِّقُ لامَ التَّوْقِيتِ بِالفِعْلِ ولا يَعْتَبِرُ الِاسْتِقْبالَ، واعْتُرِضَ عَلى التَّأْوِيلِ بِمُسْتَقْبِلاتٍ لِعِدَّتِهِنَّ بِأنَّهُ إنْ أُرِيدَ التَّلَبُّسُ بِأوَّلِها فَهو الشّافِعِيُّ، ومَن يَرى رَأْيَهُ لا عَلَيْهِ وعَلى المُخالِفِ لا لَهُ، وإنْ أُرِيدَ المُشارَفَةُ عادَةً فَخِلافُ مُقْتَضى اللَّفْظِ لِأنَّ اللّامَ إذا دَخَلَتِ الوَقْتَ أفادَتْ مَعْنى التَّأْقِيتِ والِاخْتِصاصِ بِذَلِكَ الوَقْتِ لا اسْتِقْبالَ الوَقْتِ، وعَلى الِاسْتِدْلالِ بِقِراءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَسْبَما تَضَمَّنَهُ الحَدِيثُ السّابِقُ بِأنَّ قُبُلَ الشَّيْءِ أوَّلُهُ نَقِيضُ دُبُرِهِ فَهي مُؤَكِّدَةٌ لِمَذْهَبِ الشّافِعِيِّ لا دافِعَةٌ لَهُ، ويَشْهَدُ لِكَوْنِ العِدَّةِ بِالأطْهارِ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - لِقُبُلِ طُهْرِهِنَّ - ومِنهم مَن قالَ: التَّقْدِيرُ لِأطْهارِ عِدَّتِهِنَّ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ إنْ جُعِلَتِ الإضافَةُ بِمَعْنى - مِن - دَلَّ عَلى أنَّ القُرْءَ هو الحَيْضُ والطُّهْرُ مَعًا، وإنْ جُعِلَتْ بِمَعْنى اللّامَ فَيَكْفِي ما في قَوْلِكَ لِأطْهارِ الحَيْضِ مِنَ التَّنافُرِ رَدًّا مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإضْمارِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ.
وفِي الكَشّافِ المُرادُ - أيْ مِنَ الآيَةِ - أنْ يُطَلَّقْنَ في طُهْرٍ لَمْ يُجامَعْنَ فِيهِ، ثُمَّ يُخَلَّيْنَ حَتّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ وهو أحْسَنُ الطَّلاقِ وأدْخَلُهُ في السُّنَّةِ وأبْعَدُ مِنَ النَّدَمِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنْ إبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ أنَّ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانُوا يَسْتَحِبُّونَ أنْ لا يُطَلِّقَها لِلسُّنَّةِ إلّا واحِدَةً ثُمَّ لا يُطْلِقُوا غَيْرَ ذَلِكَ حَتّى تَنْقَضِيَ العِدَّةُ، وكانَ أحْسَنُ عِنْدِهِمْ مِن أنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ ثَلاثًا في ثَلاثَةِ أطْهارٍ، وقالَ مالِكٌ: لا أعْرِفُ طَلاقَ السُّنَّةِ إلّا واحِدَةً وكانَ يَكْرَهُ الثَّلاثَ مَجْمُوعَةً كانَتْ أوْ مَفْرُوقَةً، وأمّا أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ فَإنَّما كَرِهُوا ما زادَ عَلى الواحِدَةِ في طُهْرٍ واحِدٍ (p-130)
فَأما مَفْرُوقًا في الأطْهارِ فَلا لِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ «أنَّهُ قالَ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ: «ما هَكَذا أمَرَكَ اللَّهُ إنَّما السُّنَّةُ أنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبالًا وتُطَلِّقَها لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً»» ورُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ لِعُمَرَ: ««مَرِ ابْنَكَ فَلْيُراجِعْها ثُمَّ لِيَدَعْها حَتّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ لِيُطْلِقْها إنْ شاءَ»» .
وعِنْدَ الشّافِعِيِّ لا بَأْسَ بِإرْسالِ الثَّلاثِ، وقالَ: لا أعْرِفُ في عَدَدِ الطَّلاقِ سُنَّةً ولا بِدْعَةً وهو مُباحٌ، فَمالِكٌ يُراعِي في طَلاقِ السُّنَّةِ الواحِدَةَ والوَقْتَ، وأبُو حَنِيفَةَ يُراعِي التَّفْرِيقَ والوَقْتَ، والشّافِعِيُّ يُراعِي الوَقْتَ. انْتَهى.
وفِي فَتْحِ القَدِيرِ في الِاحْتِجاجِ عَلى عَدَمِ كَراهَةِ التَّفْرِيقِ عَلى الأطْهارِ وكَوْنِهِ مِنَ الطَّلاقِ السُّنِّيِّ رِوايَةٌ غَيْرَ ما ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أيْضًا، وقَدْ قالَ فِيها ما قالَ إلّا أنَّهُ في الآخِرَةِ رَجَّحَ قَبُولَها، والمُرادُ بِإرْسالِ الثَّلاثِ دُفْعَةً ما يَعُمُّ كَوْنَها بِألْفاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَأنْ يُقالَ: أنْتِ طالِقٌ أنْتِ طالِقٌ أنْتِ طالِقٌ، أوْ بِلَفْظٍ واحِدٍ كَأنْ يُقالَ: أنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا، وفي وُقُوعِ هَذا ثَلاثًا خِلافٌ، وكَذا في وُقُوعِ الطَّلاقِ مُطْلَقًا في الحَيْضِ، فَعِنْدَ الإمامِيَّةِ لا يَقَعُ الطَّلاقُ بِلَفْظِ الثَّلاثِ. ولا في حالَةِ الحَيْضِ لِأنَّهُ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وقَدْ قالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ «: «مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أمَرُنا فَهو رَدٌّ»»، ونَقَلَهُ غَيْرُ واحِدٍ عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ وجَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ، وقالَ قَوْمٌ مِنهُمْ- فِيما قِيلَ - طاوُسٌ وعِكْرِمَةُ: الطَّلاقُ الثَّلاثُ بِفَمٍ واحِدٍ يَقَعُ بِهِ واحِدَةٌ، ورَوى هَذِهِ أبُو داوُدَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - وهو اخْتِيارُ ابْنِ تَيْمِيَةَ مِنَ الحَنابِلَةِ - وفي الصَّحِيحَيْنِ «أنَّ أبا الصَّهْباءِ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الثَّلاثَ كانَتْ تُجْعَلُ واحِدَةً عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأبِي بَكْرٍ وصَدْرٍ مِن خِلافَةِ عُمَرَ قالَ: نَعَمْ»، وفي رِوايَةٍ لِمُسْلِمٍ «أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قالَ: كانَ الطَّلاقُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأبِي بَكْرٍ وسَنَتَيْنِ مِن خِلافَةِ عُمَرَ طَلاقَ الثَّلاثِ واحِدَةً، فَقالَ عُمَرُ: إنَّ النّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا في أمْرٍ كانَ لَهم فِيهِ أناةٌ فَلَوْ أمْضَيْناهُ عَلَيْهِمْ فَأمْضاهُ عَلَيْهِمْ»، ومِنهم مَن قالَ في المَدْخُولِ بِها: يَقَعُ ثَلاثٌ، وفي الغَيْرِ واحِدَةٌ لِما في مُسْلِمٍ وأبِي داوُدَ والنَّسائِيِّ «أنَّ أبا الصَّهْباءِ كانَ كَثِيرَ السُّؤالِ مِنَ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ الرَّجُلَ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها جَعَلُوها واحِدَةً ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَلى كانَ الرَّجُلُ إذا طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها جَعَلُوا ذَلِكَ واحِدَةً عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأبِي بَكْرٍ وصَدْرٍ مِن خِلافَةِ عُمَرَ» الحَدِيثَ، والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، ومَن بَعْدَهم مِن أئِمَّةِ المُسْلِمِينَ - ومِنهُمُ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ - وُقُوعُ الثَّلاثِ بِفَمٍ واحِدٍ بَلْ ذَكَرَ الإمامُ ابْنُ الهُمامِ وُقُوعَ الإجْماعِ السُّكُوتِيِّ مِنَ الصَّحابَةِ عَلى الوُقُوعِ.
ونُقِلَ عَنْ أكْثَرِ مُجْتَهَدِيهِمْ كَعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي هُرَيْرَةَ وعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ الإفْتاءُ الصَّرِيحُ بِذَلِكَ، وذُكِرَ أيْضًا أنَّ إمْضاءَ عُمَرَ الثَّلاثَ عَلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ مُخالَفَتِهِ الصَّحابَةَ لَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّها كانَتْ واحِدَةً لا يُمْكِنُ إلّا لِأنَّهم قَدِ اطَّلَعُوا في الزَّمانِ المُتَأخِّرِ عَلى وُجُودِ ناسِخٍ، أوْ لِعِلْمِهِمْ بِانْتِهاءِ الحُكْمِ لِعِلْمِهِمْ بِإناطَتِهِ بِمَعانٍ عَلِمُوا انْتِهاءَها في الزَّمانِ المُتَأخِّرِ، واسْتَحْسَنَ ابْنُ حَجَرٍ في التُّحْفَةِ الجَوابَ بِالِاطِّلاعِ عَلى ناسِخٍ بَعْدَ نَقْلِهِ جَوابَيْنِ سِواهُ وتَزْيِيفِهِ لَهُما، وسَيَأْتِي قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بَعْضُ أخْبارٍ مَرْفُوعَةٍ يُسْتَدَلُّ بِها عَلى وُقُوعِ الثَّلاثِ، لَكِنْ قِيلَ: إنَّ الثَّلاثَ فِيها يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ بِألْفاظٍ ثَلاثَةٍ كَأنْتِ طالِقٌ أنْتِ طالِقٌ أنْتِ طالِقٌ، ولَعَلَّهُ هو الظّاهِرُ لا بِلَفْظٍ واحِدٍ كَأنْتِ طالِقٌ ثَلاثًا، وحِينَئِذٍ لا يَصْلُحُ ذَلِكَ لِلرَّدِّ عَلى مَن لَمْ يُوقِعِ الثَّلاثَ بِهَذا اللَّفْظِ لَكِنْ إذا صَحَّ الإجْماعُ ولَوْ سُكُوتِيًّا عَلى الوُقُوعِ لا يَنْبَغِي إلّا المُوافَقَةُ والسُّكُوتُ، وتَأْوِيلُ ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، ولِذا قالَ بَعْضُ الأئِمَّةِ: لَوْ حَكَمَ قاضٍ بِأنَّ الثَّلاثَ بِفَمٍ واحِدٍ واحِدَةٌ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ (p-131)
لِأنَّهُ لا يَسُوغُ الِاجْتِهادُ فِيهِ لِإجْماعِ الأئِمَّةِ المُعْتَبَرِينَ عَلَيْهِ، وإنِ اخْتَلَفُوا في مَعْصِيَةِ مَن يُوقِعُهُ كَذَلِكَ، ومَن قالَ: بِمَعْصِيَتِهِ اسْتَدَلَّ بِما رَوى النَّسائِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قالَ: ««أخْبَرْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثَلاثًا جَمِيعًا فَقامَ غَضْبانَ فَقالَ: أيُلْعَبُ بِكِتابِ اللَّهِ وأنا بَيْنَ أظْهُرِكم ؟ ! حَتّى قامَ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ألا أقْتُلُهُ»» وبِما أخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ «عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ أنَّ أباهُ طَلَّقَ امْرَأةً لَهُ ألْفَ تَطْلِيقَةٍ فانْطَلَقَ عُبادَةُ فَسَألَهُ ﷺ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «بانَتْ بِثَلاثٍ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ وبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ وسَبْعَةٌ وتِسْعُونَ عُدْوانٌ وظُلْمٌ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى عَذَّبَهُ وإنْ شاءَ غَفَرَ لَهُ»» ويُفْهَمُ مِن هَذا حُرْمَةُ إيقاعِ الزّائِدِ أيْضًا وهو ظاهِرُ كَلامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ، ومُقْتَضى قَوْلِ الرُّويانِيِّ - واعْتَمَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ. وغَيْرُهُ -أنَّهُ يُعَزَّرُ فاعِلُهُ، ووُجِّهَ بِأنَّهُ تَعاطى نَحْوَ عَقْدٍ فاسِدٍ وهو حَرامٌ، ونُوزِعَ في ذَلِكَ بِما فِيهِ نَظَرٌ، وبِما في سُنَنِ أبِي داوُدَ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ فَجاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: إنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلاثًا فَقالَ لَهُ: عَصَيْتَ رَبَّكَ وبانَتْ مِنكَ امْرَأتُكَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ.
ومَن قالَ بِعَدَمِها اسْتَدَلَّ بِما رَواهُ الشَّيْخانِ مِن أنَّ عُوَيْمِرًا العَجْلانِيَّ لَمّا لاعَنَ امْرَأتَهُ طَلَّقَها ثَلاثًا قَبْلَ أنْ يُخْبِرَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِحُرْمَتِها عَلَيْهِ، وقالَ: إنَّهُ لَوْ كانَ مَعْصِيَةً لَنَهاهُ عَنْهُ لِأنَّهُ أوْقَعَهُ مُعْتَقِدًا بَقاءَ الزَّوْجِيَّةِ، ومَعَ اعْتِقادِها يَحْرُمُ الجَمْعُ عِنْدَ المُخالِفِ، ومَعَ الحُرْمَةِ يَجِبُ الإنْكارُ عَلى العالِمِ وتَعْلِيمُ الجاهِلِ ولَمْ يُوجَدا، فَدَلَّ عَلى أنْ لا حُرْمَةَ وبِأنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ مِنهم عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ تُماضِرَ ثَلاثًا في مَوْضِعِهِ والحَسَنُ ابْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما طَلَقَّ زَوْجَتَهُ شَهْبانُوا ثَلاثًا لَمّا هَنَتْهُ بِالخِلافَةِ بَعْدَ وفاةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، وقالَ بَعْضُ الحَنَفِيَّةِ في ذَلِكَ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى أنَّهم قالُوا: ثَلاثًا لِلسُّنَّةِ، وهو أبْعَدُ مِن قَوْلِ بَعْضِ الشّافِعِيَّةِ فِيما رُوِيَ مِنَ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى العِصْيانِ فِيهِ أنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى أنَّهُ كانَ في الحَيْضِ فالمَعْصِيَةُ فِيهِ مِن تِلْكَ الحَيْثِيَّةِ.
واسْتُدِلَّ عَلى كَوْنِهِ مَعْصِيَةً إذا كانَ في الحَيْضِ بِما هو أظْهَرُ مِن ذَلِكَ كالرِّوايَتَيْنِ السّابِقَتَيْنِ فِيما نُقِلَ عَنِ الكَشّافِ، وفي الِاسْتِدْلالِ بِهِما عَلى حُرْمَةِ إرْسالِ الثَّلاثِ بَحْثٌ، ورُبَّما يُسْتَدَلُّ بِالثّانِيَةِ عَلى وُجُوبِ الرَّجْعَةِ لَكِنْ قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أجِلَّةِ الشّافِعِيَّةِ أنَّها لا تَجِبُ بَلْ تَنْدُبُ في الطَّلاقِ البِدْعِيِّ، وإنَّما لَمْ تَجِبْ لِأنَّ الأمْرَ بِالأمْرِ بِالشَّيْءِ لَيْسَ أمْرًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ، ولَيْسَ في - فَلْيُراجِعْها - أمْرٌ لِابْنِ عُمَرَ لِأنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلى أمْرِ عُمَرَ، فالمَعْنى فَلْيُراجِعْها لِأجْلِ أمْرِكَ لِكَوْنِكَ والِدَهُ، واسْتِفادَةُ النَّدْبِ مِنهُ حِينَئِذٍ إنَّما هي مِنَ القَرِينَةِ، وإذا راجَعَ ارْتَفَعَ الإثْمُ المُتَعَلِّقُ بِحَقِّ الزَّوْجَةِ لا في الرَّجْعَةِ قاطِعَةٌ لِلضَّرَرِ مِن أصْلِهِ فَكانَتْ بِمَنزِلَةِ التَّوْبَةِ تَرْفَعُ أصْلَ المَعْصِيَةِ، وبِهِ فارِقُ دَفْنِ البُصاقِ في المَسْجِدِ فَإنَّهُ قاطِعٌ لِدَوامِ ضَرَرِهِ لا لِأصْلِهِ لِأنَّ تَلْوِيثَ المَسْجِدِ بِهِ قَدْ حَصَلَ، ويَنْدَفِعُ بِما ذُكِرَ ما قِيلَ: رَفْعُ الرَّجْعَةِ لِلتَّحْرِيمِ كالتَّوْبَةِ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِها إذْ كَوْنُ الشَّيْءِ بِمَنزِلَةِ الواجِبِ في خُصُوصِيَّةٍ مِن خُصُوصِيّاتِهِ لا يَقْتَضِي وُجُوبَهُ، ولا يُسْتَدَلُّ بِما اقْتَضَتْهُ الآيَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنْ إيقاعِ الطَّلاقِ في الحَيْضِ عَلى فَسادِ الطَّلاقِ فِيهِ إذِ النَّهْيُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ لا يَسْتَلْزِمُ الفَسادَ مُطْلَقًا، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلى الفَسادِ في العِباداتِ وفي المُعامَلاتِ إذا رَجَعَ إلى نَفْسِ العَقْدِ أوْ إلى أمْرٍ داخِلٍ فِيهِ أوْ لازِمٍ لَهُ فَإنْ رَجَعَ إلى أمْرٍ مُقارَنٍ كالبَيْعِ وقْتَ النِّداءِ فَلا، وما نَحْنُ فِيهِ لِأمْرٍ مُقارَنٍ وهو زَمانُ الحَيْضِ فَهو عِنْدَهُ لا يَسْتَلْزِمُ الفَسادَ هُنا أيْضًا، وأُيِّدَ ذَلِكَ بِأمْرِ ابْنِ عُمَرَ بِالرَّجْعَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَقَعِ الطَّلاقُ لَمْ يُؤْمَرْ بِها قِيلَ: وما كانَ مِنهُ مِنَ التَّطْلِيقِ في الحَيْضِ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ والَّذِي رَواهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ مِن طَرِيقِ أبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ وحُكِيَ عَنِ السُّدِّيِّ.(p-132)
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُقاتِلٍ قالَ: بَلَغَنا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ﴾ الآيَةَ نَزَلَ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ وطُفَيْلِ بْنِ الحارِثِ وعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاصِ، وقالَ بَعْضُهم: فَعَلَهُ ناسٌ مِنهُمُ ابْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ. وعُتْبَةُ بْنُ غَزَوانَ فَنَزَلَتِ الآيَةُ، وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أنَّها نَزَلَتْ في حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ طَلَّقَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ واحِدَةً فَنَزَلَتْ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ فَراجَعَها عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ورَواهُ قَتادَةُ عَنْ أنَسٍ، وقالَ القُرْطُبِيُّ نَقْلًا عَنْ عُلَماءِ الحَدِيثِ: إنَّ الأصَحَّ أنَّها نَزَلَتِ ابْتِداءً لِبَيانِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وكُلُّ ما ذُكِرَ مِن أسْبابِ النُّزُولِ لَها لَمْ يَصِحَّ، وحَكى أبُو حَيّانَ نَحْوَهُ عَنِ الحافِظِ أبِي بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ، وظاهِرُها أنَّ نَفْسَ الطَّلاقِ مُباحٌ، واسْتَدَلَّ لَهُ أيْضًا بِما رَواهُ أبُو داوُدَ وابْنُ ماجَهْ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ««إنَّ مِن أبْغَضِ المُباحاتِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ الطَّلاقَ»» وفي لَفْظٍ ««أبْغَضُ الحَلالِ إلى اللَّهِ الطَّلاقُ»» لِوَصْفِهِ بِالإباحَةِ والحِلِّ لِأنَّ أفْعَلَ بَعْضُ ما يُضافُ إلَيْهِ، والمُرادُ مِن كَوْنِهِ مَبْغُوضًا التَّنْفِيرُ عَنْهُ أوْ كَوْنُهُ كَذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّهُ يُؤَدِّي إلى قَطْعِ الوَصْلَةِ وحَلِّ قَيْدِ العِصْمَةِ لا مِن حَيْثُ حَقِيقَتُهُ في نَفْسِهِ.
وقالَ البَيْهَقِيُّ: البُغْضُ عَلى إيقاعِهِ كُلَّ وقْتٍ مِن غَيْرِ رِعايَةٍ لِوَقْتِهِ المَسْنُونِ، وبِطَلاقِهِ ﷺ حَفْصَةَ ثُمَّ أمْرِهِ تَعالى إيّاهُ أنْ يُراجِعَها فَإنَّها صَوّامَةٌ قَوّامَةٌ، وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: هو مَحْظُورٌ لِما فِيهِ مِن كُفْرانِ نِعْمَةِ النِّكاحِ، ولِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ مِذْواقٍ مِطْلاقٍ»» وإنَّما أُبِيحَ لِلْحاجَةِ، قالَ ابْنُ الهُمامِ: وهَذا هو الأصَحُّ فَيُكْرَهُ إذا لَمْ يَكُنْ حاجَةً، ويُحْمَلُ لَفْظُ المُباحِ عَلى ما أُبِيحَ في بَعْضِ الأوْقاتِ أعْنِي أوْقاتَ تَحَقُّقِ الحاجَةِ المُبِيحَةِ وهو ظاهِرٌ في رِوايَةٍ لِأبِي داوُدَ - ما أحَلَّ اللَّهُ تَعالى شَيْئًا أبْغَضَ إلَيْهِ مِنَ الطَّلاقِ - فَإنَّ الفِعْلَ لا عُمُومَ لَهُ في الأزْمانِ، ومِنَ الحاجَةِ الكِبَرُ وعَدَمُ اشْتِهائِهِ جِماعَها بِحَيْثُ يَعْجَزُ أوْ يَتَضَرَّرُ بِإكْراهِهِ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وهي لا تَرْضى بِتَرْكِ ذَلِكَ، وما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ - وكانَ قِيلَ لَهُ في كَثْرَةِ تَزَوُّجِهِ وطَلاقِهِ مِن قَوْلِهِ: أُحِبُّ الغِنى - قالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ: ﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِن سَعَتِهِ﴾ [النِّساءَ: 130] فَهو رَأْيٌ مِنهُ إنْ كانَ عَلى ظاهِرِهِ، وكُلُّ ما نُقِلَ مِن طَلاقِ الصَّحابَةِ - كَطَلاقِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الزَّوْجاتِ الأرْبَعَ دُفْعَةً - فَقَدْ قالَ لَهُنَّ: أنْتُنَّ حَسَناتُ الأخْلاقِ ناعِماتُ الأطْواقِ طَوِيلاتُ الأعْناقِ اذْهَبْنَ فَأنْتُنَّ طَلاقٌ فَمَحْمَلُهُ وُجُودُ الحاجَةِ، وإنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِها، وقالَ ابْنُ حَجَرٍ: هو إمّا واجِبٌ كَطَلاقِ مُوَلٍّ لَمْ يُرِدِ الوَطْءَ وحَكَمَيْنِ رَأياهُ، أوْ مَندُوبٌ كَأنْ يَعْجَزَ عَنِ القِيامِ بِحُقُوقِها ولَوْ لِعَدَمِ المَيْلِ إلَيْها، أوْ تَكُونُ غَيْرَ عَفِيفَةٍ ما لَمْ يَخْشَ الفُجُورَ بِها، ومِن ثَمَّ أمَرَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَن قالَ: ««إنَّ زَوْجَتِي لا تَرُدُّ يَدَ لامِسٍ»» أيْ لا تَمْنَعُ مَن يُرِيدُ الفُجُورَ بِها عَلى أحَدِ أقْوالٍ مِن مَعْناهُ بِإمْساكِها خَشْيَةً مِن ذَلِكَ، ويَلْحَقُ بِخَشْيَةِ الفُجُورِ بِها حُصُولُ مَشَقَّةٍ لَهُ بِفِراقِها تُؤَدِّي إلى مُبِيحِ تَيَمُّمٍ، وكَوْنُ مَقامِها عِنْدَهُ أمْنَعُ لِفُجُورِها فِيما يَظْهَرُ فِيهِما، أوْ سَيِّئَةُ الخُلُقِ أيْ بِحَيْثُ لا يَصْبِرُ عَلى عِشْرَتِها عادَةً فِيما يَظْهَرُ، وإلّا فَغَيْرُ سَيِّئَةِ الخُلُقِ كالغُرابِ الأعْصَمِ أوْ يَأْمُرُهُ بِهِ أحَدُ والِدَيْهِ أيْ مِن غَيْرِ تَعَنُّتٍ كَما هو شَأْنُ الحَمْقى مِنَ الآباءِ والأُمَّهاتِ، ومَعَ عَدَمِ خَوْفِ فِتْنَةٍ أوْ مَشَقَّةٍ بِطَلاقِها فِيما يَظْهَرُ، أوْ حَرامٌ كالبِدْعِيِّ، أوْ مَكْرُوهٌ بِأنْ سَلِمَ الحالُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ ««لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الحَلالِ أبْغَضُ إلى اللَّهِ مِنَ الطَّلاقِ»» ولِدَلالَتِهِ عَلى زِيادَةِ التَّنْفِيرِ عَنْهُ قالُوا: لَيْسَ فِيهِ مُباحٌ لَكِنْ صَوَّرَهُ الإمامُ بِما إذا لَمْ يَشْتَهِها أيْ شَهْوَةً كامِلَةً ولا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِمُؤْنَتِها مِن غَيْرِ تَمَتُّعٍ. اهَـ.
والآيَةُ عَلى ما لا يَخْفى عَلى المُنْصِفِ لا تَدُلُّ عَلى أكْثَرِ مِن حُرْمَتِهِ في الحَيْضِ، والمُرادُ بِالنِّساءِ فِيها المَدْخُولُ بِهِنَّ مِنَ المُعْتَدّاتِ بِالحَيْضِ عَلى ما في الكَشّافِ، وغَيْرِهِ لِمَكانِ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ .(p-133)
﴿وأحْصُوا العِدَّةَ﴾ واضْبُطُوها وأكْمِلُوها ثَلاثَةَ قُرُوءٍ كَوامِلَ، وأصْلُ مَعْنى الإحْصاءِ العَدُّ بِالحَصى كَما كانَ مُعْتادًا قَدِيمًا ثُمَّ صارَ حَقِيقَةً فِيما ذُكِرَ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ في تَطْوِيلِ العِدَّةِ عَلَيْهِنَّ والإضْرارِ بِهِنَّ، وفي وصْفِهِ تَعالى بِرُبُوبِيَّتِهِ عَزَّ وجَلَّ لَهم تَأْكِيدٌ لِلْأمْرِ ومُبالَغَةٌ في إيجابِ الِاتِّقاءِ ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ مِن مَساكِنِهِنَّ عِنْدَ الطَّلاقِ إلى أنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ، وإضافَتُها إلَيْهِنَّ وهي لِأزْواجِهِنَّ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ بِبَيانِ كَمالِ اسْتِحْقاقِهِنَّ لِسُكْناها كَأنَّها أمْلاكُهُنَّ، وعَدَمُ العَطْفِ لِلْإيذانِ بِاسْتِقْلالِهِ بِالطَّلَبِ اعْتِناءً بِهِ، والنَّهْيُ عَنِ الإخْراجِ يَتَناوَلُ عَدَمَ إخْراجِهِنَّ غَضَبًا عَلَيْهِنَّ أوْ كَراهَةً لِمُساكَنَتِهِنَّ أوْ لِحاجَةٍ لَهم إلى المَساكِنِ أوْ مَحْضُ سَفَهٍ بِمَنطُوقِهِ، ويَتَناوَلُ عَدَمَ الإذْنِ لَهُنَّ في الخُرُوجِ بِإشارَتِهِ لِأنَّ خُرُوجَهُنَّ مُحَرَّمٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَخْرُجْنَ﴾ أمّا إذا كانَتْ لا ناهِيَةً كالَّتِي قَبْلَها فَظاهِرٌ، وأمّا إذا كانَتْ نافِيَةً فَلِأنَّ المُرادَ بِهِ النَّهْيُ، وهو أبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ كَما لا يَخْفى، والإذْنُ في فِعْلِ المُحَرَّمِ مُحَرَّمٌ فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا تُخْرِجُوهُنَّ ولا تَأْذَنُوا لَهُنَّ في الخُرُوجِ إذا طَلَبْنَ ذَلِكَ ولا يَخْرُجْنَ بِأنْفُسِهِنَّ إنْ أرَدْنَ فَهُناكَ دَلالَةٌ عَلى أنَّ سُكُونَهُنَّ في البُيُوتِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ مُؤَكَّدٌ فَلا يَسْقُطُ بِالإذْنِ، وهَذا عَلى ما ذَكَرَهُ الجَلَبِيُّ مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ، ومَذْهَبُ الشّافِعِيَّةِ أنَّهُما لَوِ اتَّفَقا عَلى الِانْتِقالِ جازَ إذِ الحَقُّ لا يَعْدُوهُما، فالمَعْنى لا تُخْرِجُوهُنَّ ولا يَخْرُجْنَ بِاسْتِبْدادِهِنَّ وتَعَقَّبَ الشِّهابُ كَوْنَ ذَلِكَ مَذْهَبَ الحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: فِيهِ نَظَرٌ، وقَدْ ذَكَرَ الرّازِيُّ في الأحْكامِ ما يَدُلُّ عَلى خِلافِهِ وأنَّ السُّكْنى كالنَّفَقَةِ تَسْقُطُ بِالإسْقاطِ. انْتَهى.
والَّذِي يَظْهَرُ مِن كَلامِهِمْ ما ذَكَرَهُ الجَلَبِيُّ، وقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الحَصْكَفِيُّ في الدُّرِّ المُخْتارِ، وعَلَّلَهُ بِأنَّ ذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعالى فَلا يَسْقُطُ بِالإذْنِ، وفي الفَتْحِ لَوِ اخْتَلَعَتْ عَلى أنْ لا سُكْنى لَها تَبْطُلُ مُؤْنَةُ السُّكْنى عَنِ الزَّوْجِ ويَلْزَمُها أنْ تَكْتَرِيَ بَيْتَهُ، وأمّا أنْ يَحِلَّ لَها الخُرُوجُ فَلا ﴿إلا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ أيْ ظاهِرَةٍ هي نَفْسُ الخُرُوجِ قَبْلَ انْقِضاءِ العِدَّةِ كَما أخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ورُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ وابْنِ السّائِبِ والنَّخَعِيِّ - وبِهِ أخَذَ أبُو حَنِيفَةَ - والِاسْتِثْناءُ عَلَيْهِ راجِعٌ إلى ”لا يَخْرُجْنَ“ والمَعْنى لا يُطْلَقُ لَهُنَّ في الخُرُوجِ إلّا في الخُرُوجِ الَّذِي هو فاحِشَةٌ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ لا يُطْلَقُ لَهُنَّ فِيهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنعًا عَنِ الخُرُوجِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ، وقالَ الإمامُ ابْنُ الهُمامِ: هَذا كَما يُقالُ في الخَطّابِيَّةِ: لا تَزْنِ إلّا أنْ تَكُونَ فاسِقًا ولا تَشْتُمْ أُمَّكَ إلّا أنْ تَكُونَ قاطِعَ رَحِمٍ، ونَحْوَ ذَلِكَ وهو بَدِيعٌ وبَلِيغٌ جِدًّا، والزِّنا عَلى ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ والحَسَنِ والشَّعْبِيِّ وزَيْدِ بْنِ أسْلَمَ والضَّحّاكِ وعِكْرِمَةَ وحَمّادٍ واللَّيْثِ، وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وبِهِ أخَذَ أبُو يُوسُفَ، والِاسْتِثْناءُ عَلَيْهِ راجِعٌ إلى لا تُخْرِجُوهُنَّ عَلى ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ كَلامِ جَمْعٍ أيْ لا تُخْرِجُوهُنَّ إلّا إنْ زَنَيْنَ فَأخْرِجُوهُنَّ لِإقامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِنَّ، وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: هو راجِعٌ إلى الكُلِّ وما يُوجِبُ حَدًّا مِن زِنًا أوْ سَرِقَةٍ أوْ غَيْرِهِما - كَما أخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ - واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ، والبَذاءُ عَلى الأحْماءِ أيْ أوْ عَلى الزَّوْجِ - كَما أخْرَجَهُ جَماعَةٌ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - والِاسْتِثْناءُ راجِعٌ إلى الأوَّلِ أيْ لا تُخْرِجُوهُنَّ إلّا إذا طالَتْ ألْسِنَتُهُنَّ وتَكَلَّمْنَ بِالكَلامِ الفاحِشِ القَبِيحِ عَلى أزْواجِهِنَّ أوْ أحْمائِهِنَّ، وأُيِّدَ بِقِراءَةِ أُبَيٍّ «إلّا أنْ يَفْحُشْنَ عَلَيْكم» بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الحاءِ، وفي مُوَضَّحِ الأهْوازِيِّ «يُفْحِشْنَ» مِن أفْحَشَ، قالَ الجَوْهَرِيُّ: أفْحَشَ عَلَيْهِ في النُّطْقِ أيْ أتى بِالفُحْشِ، وفي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ - إلّا أنْ يَفْحُشْنَ - بِدُونِ عَلَيْكم والنُّشُوزُ، والمُرادُ إلّا أنْ (p-134)
يُطَلَّقْنَ عَلى النُّشُوزِ عَلى ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أيْضًا، والِاسْتِثْناءُ عَلَيْهِ قِيلَ: راجِعٌ إلى الأوَّلِ أيْضًا، وفي الكَشْفِ هو راجِعٌ إلى الكُلِّ لِأنَّهُ إذا سَقَطَ حَقُّها في السُّكْنى حَلَّ الإخْراجُ والخُرُوجُ أيْضًا، وأيًّا ما كانَ فَلَيْسَ في الآيَةِ حَصْرُ المُبِيحِ لِفِعْلِ المَنهِيِّ عَنْهُ بِالإتْيانِ بِالفاحِشَةِ، وقَدْ بُيِّنَتِ المُبِيحاتُ في كُتُبِ الفُرُوعِ فَلْيُراجِعْها مَن أرادَ ذَلِكَ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو بَكْرٍ «مُبَيَّنَةٍ» بِالفَتْحِ ﴿وتِلْكَ﴾ إشارَةٌ إلى ما ذُكِرَ مِنَ الأحْكامِ أيْ تِلْكَ الأحْكامُ الجَلِيلَةُ الشَّأْنِ ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ الَّتِي عَيَّنَها لِعِبادِهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ﴾ أيْ حُدُودَهُ تَعالى المَذْكُورَةَ بِأنْ أخَلَّ بِشَيْءٍ مِنها عَلى أنَّ الإظْهارَ في مَوْضِعِ الإضْمارِ لِتَهْوِيلِ أمْرِ التَّعَدِّي والإشْعارِ بِعِلَّةِ الحُكْمِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أيْ أضَرَّ بِها كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ، ونَقَلَ عَنْ بَعْضِ تَفْسِيرِ الظُّلْمِ بِتَعْرِيضِها لِلْعِقابِ، وتَعَقَّبَهُ بِأنَّهُ يَأْباهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمْرًا﴾ فَإنَّهُ اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ لِتَعْلِيلِ مَضْمُونِ الشَّرْطِيَّةِ، وقَدْ قالُوا: إنَّ الأمْرَ الَّذِي يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعالى أنْ يُقَلِّبَ قَلْبَهُ عَمّا فَعَلَهُ بِالتَّعَدِّي إلى خِلافِهِ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ الظُّلْمُ عَنْ ضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ يَلْحَقُهُ بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ ولا يُمْكِنُهُ تَدارُكُهُ، أوْ عَنْ مُطْلَقِ الضَّرَرِ الشّامِلِ لِلدُّنْيَوِيِّ والأُخْرَوِيِّ، وخُصَّ التَّعْلِيلُ بِالدُّنْيَوِيِّ لِكَوْنِ احْتِرازِ أكْثَرِ النّاسِ مِنهُ أشَدَّ واهْتِمامِهِمْ بِدَفْعِهِ أقْوى.
ورُدَّ بِأنَّ الضَّرَرَ الدُّنْيَوِيَّ غَيْرُ مُحَقَّقٍ فَلا يَنْبَغِي تَفْسِيرُ الظُّلْمِ ها هُنا بِهِ، وأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تَدْرِي﴾ إلَخْ لَيْسَ تَعْلِيلًا لِما ذُكِرَ بَلْ هو تَرْغِيبٌ لِلْمُحافَظَةِ عَلى الحُدُودِ بَعْدَ التَّرْهِيبِ، وفِيهِ أنَّهُ بِالتَّرْهِيبِ أشْبَهُ مِنهُ بِالتَّرْغِيبِ، ولَعَلَّ المُرادَ مِن أضَرَّ بِها عَرَّضَها لِلضَّرَرِ، فالظُّلْمُ هو ذَلِكَ التَّعْرِيضُ ولا مَحْذُورَ في تَفْسِيرِهِ بِهِ فِيما يَظْهَرُ، وجُمْلَةُ التَّرَجِّي في مَوْضِعِ النَّصْبِ بِـ ﴿لا تَدْرِي﴾، وعْدَّ أبُو حَيّانَ ﴿لَعَلَّ﴾ مِنَ المُعَلِّقاتِ، والخِطابُ في ﴿لا تَدْرِي﴾ لِلْمُتَعَدِّي بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ لِمَزِيدِ الِاهْتِمامِ بِالزَّجْرِ عَنِ التَّعَدِّي لا لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَما قِيلَ، فالمَعْنى مَن يَتَعَدّى حُدُودَ اللَّهِ تَعالى فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلضَّرَرِ فَإنَّكَ لا تَدْرِي أيُّها المُتَعَدِّي عاقِبَةَ الأمْرِ ﴿لَعَلَّ اللَّهَ﴾ تَعالى يُحْدِثُ في قَلْبِكَ ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الَّذِي فَعَلْتَ مِنَ التَّعَدِّي ﴿أمْرًا﴾ يَقْتَضِي خِلافَ ما فَعَلْتَهُ فَيَكُونُ بَدَلُ بُغْضِها مَحَبَّةً وبَدَلُ الإعْراضِ عَنْها إقْبالًا إلَيْها، ولا يَتَسَنّى تَلافِيهِ بِرَجْعَةٍ أوِ اسْتِئْنافِ
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُوا۟ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخۡرُجۡنَ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِینَ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِی لَعَلَّ ٱللَّهَ یُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ أَمۡرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق