الباحث القرآني

﴿قُلْ إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ﴾ ولا تَجْسُرُونَ عَلى أنْ تَمَنَّوْهُ مَخافَةَ أنْ تُؤْخَذُوا بِوَبالِ أفْعالِكم ﴿فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ﴾ البَتَّةَ مِن غَيْرِ صارِفِ يَلْوِيهِ ولا عاطِفٍ يُثْنِيهِ والجُمْلَةُ خَبَرُ ”إنَّ“ والفاءُ لِتَضَمُّنِ الِاسْمِ مَعْنى الشَّرْطِ بِاعْتِبارِ وصْفِهِ بِالمَوْصُولِ، فَإنَّ الصِّفَةَ والمَوْصُوفَ كالشَّيْءِ الواحِدِ، فَلا يُقالُ: إنَّ الفاءَ إنَّما تَدْخُلُ الخَبَرَ (p-97) إذا تَضَمَّنَ المُبْتَدَأُ مَعْنى الشَّرْطِ، والمُتَضَمِّنُ لَهُ المَوْصُولُ ولَيْسَ بِمُبْتَدَأٍ، ودُخُولُها في مِثْلِ ذَلِكَ لَيْسَ بِلازِمٍ كَدُخُولِها في الجَوابِ الحَقِيقِيِّ، وإنَّما يَكُونُ لِنُكْتَةٍ تَلِيقُ بِالمَقامِ وهي ها هُنا المُبالَغَةُ في عَدَمِ الفَوْتِ، وذَلِكَ أنَّ الفِرارَ مِنَ الشَّيْءِ في مَجْرى العادَةِ سَبَبُ الفَوْتِ عَلَيْهِ فَجِيءَ بِالفاءِ لِإفادَةِ أنَّ الفِرارَ سَبَبُ المُلاقاةِ مُبالَغَةً فِيما ذُكِرَ وتَعْكِيسًا لِلْحالِ، وقِيلَ: ما في حَيِّزِها جَوابٌ مِن حَيْثُ المَعْنى عَلى مَعْنى الإعْلامِ فَتُفِيدُ أنَّ الفِرارَ المَظْنُونَ سَبَبًا لِلنَّجاةِ سَبَبٌ لِلْإعْلامِ بِمُلاقاتِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النَّحْلَ: 53] وهو وجْهٌ ضَعِيفٌ فِيما نَحْنُ فِيهِ لا مُبالَغَةَ فِيهِ مِن حَيْثُ المَعْنى، ومَنَعَ قَوْمٌ مِنهُمُ الفَرّاءُ دُخُولَ الفاءِ في نَحْوِ هَذا، وقالُوا: هي ها هُنا زائِدَةٌ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المَوْصُولُ خَبَرَ ”إنَّ“ والفاءُ عاطِفَةٌ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ المَوْتَ هو الشَّيْءُ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فَيُلاقِيكم. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «إنَّهُ مُلاقِيكم» بِدُونِ فاءٍ، وخُرِّجَ عَلى أنَّ الخَبَرَ هو المَوْصُولُ وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أوْ هي الخَبَرُ والمَوْصُولُ صِفَةٌ كَما في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ ﴿مُلاقِيكُمْ﴾ و- إنَّهُ - تَوْكِيدًا لِأنَّ المَوْتَ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا طالَ الكَلامُ أكَّدَ الحَرْفَ مَصْحُوبًا بِضَمِيرِ الِاسْمِ الَّذِي لِأنَّ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ «تَفِرُّونَ مِنهُ مُلاقِيكم» بِدُونِ الفاءِ ولا - إنَّهُ -وهِيَ ظاهِرَةٌ ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ الَّذِي لا يَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ. ﴿فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي بِأنْ يُجازِيَكم بِها، واسْتَشْعَرَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الآيَةِ ذَمَّ الفِرارِ مِنَ الطّاعُونِ، والكَلامُ في ذَلِكَ طَوِيلٌ، فَمِنهم مَن حَرَّمَهُ - كابْنِ خُزَيْمَةَ -فَإنَّهُ تَرْجَمَ في صَحِيحِهِ - بابَ الفِرارِ مِنَ الطّاعُونِ مِنَ الكَبائِرِ - وأنَّ اللَّهَ تَعالى يُعاقِبُ مَن وقَعَ مِنهُ ذَلِكَ ما لَمْ يَعْفُ عَنْهُ، واسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عائِشَةَ ««الفِرارُ مِنَ الطّاعُونِ كالفِرارِ مِنَ الزَّحْفِ»» رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ عَدِيٍّ وغَيْرُهم، وسَنَدُهُ حَسَنٌ. وذَكَرَ التّاجُ السُّبْكِيُّ أنَّ الأكْثَرَ عَلى تَحْرِيمِهِ، ومِنهم مَن قالَ بِكَراهَتِهِ كالإمامِ مالِكٍ، ونَقَلَ القاضِي عِياضٌ وغَيْرُهُ جَوازَ الخُرُوجِ عَنِ الأرْضِ الَّتِي يَقَعُ بِها عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ مِنهم أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ والمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وعَنِ التّابِعِينَ مِنهُمُ الأسْوَدُ بْنُ هِلالٍ ومَسْرُوقٌ، ورَوى الإمامُ أحْمَدُ والطَّبَرانِيُّ أنَّ عَمْرَو بْنَ العاصِ قالَ في الطّاعُونِ في آخِرِ خُطْبَتِهِ: إنَّ هَذا رِجْزٌ مِثْلُ السَّيْلِ مَن تَنَكَّبَهُ أخْطَأهُ ومِثْلُ النّارِ مَن تَنَكَّبَها أخْطَأها ومَن أقامَ أحْرَقَتْهُ، وفي لَفْظٍ إنَّ هَذا الطّاعُونَ رِجْسٌ فَتَفَرَّقُوا مِنهُ في الشِّعابِ وهَذِهِ الأوْدِيَةِ فَتَفَرَّقُوا فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَلَمْ يُنْكِرْهُ ولَمْ يَكْرَهْهُ، وعَنْ طارِقِ بْنِ شِهابٍ قالَ: كُنّا نَتَحَدَّثُ إلى أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ وهو في دارِهِ بِالكُوفَةِ فَقالَ لَنا وقَدْ وقَعَ الطّاعُونُ: لا عَلَيْكم أنْ تَنْزَحُوا عَنْ هَذِهِ القَرْيَةِ فَتَخْرُجُوا في فَسِيحِ بِلادِكم حَتّى يُرْفَعَ هَذا الوَباءُ فَإنِّي سَأُخْبِرُكم بِما يُكْرَهُ مِن ذَلِكَ، أنْ يَظُنَّ مَن خَرَجَ أنَّهُ لَوْ أقامَ فَأصابَهُ ذَلِكَ أنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمْ يُصِبْهُ فَإذا لَمْ يَظُنَّ هَذا فَلا عَلَيْهِ أنْ يَخْرُجَ ويَتَنَزَّهَ عَنْهُ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ وغَيْرُهُ عَنْهُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أنَّهُ قالَ: إنَّ هَذا الطّاعُونَ قَدْ وقَعَ فَمَن أرادَ أنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ واحْذَرُوا اثْنَتَيْنِ أنْ يَقُولَ قائِلٌ: خَرَجَ خارِجٌ فَسَلِمَ وجَلَسَ جالِسٌ فَأُصِيبَ، فَلَوْ كُنْتُ خَرَجْتُ لَسَلِمْتُ كَما سَلِمَ فُلانٌ ولَوْ كُنْتُ جَلَسْتُ أُصِبْتُ كَما أُصِيبَ فُلانٌ، ويُفْهَمُ أنَّهُ لا بَأْسَ بِالخُرُوجِ مَعَ اعْتِقادِ أنَّ كُلَّ مُقَدَّرٍ كائِنٌ، وكَأنِّي بِكَ تَخْتارُ ذَلِكَ، لَكِنْ في فَتاوى العَلّامَةِ ابْنِ حَجَرٍ أنَّ مَحَلَّ النِّزاعِ فِيما إذا خَرَجَ فارًّا مِنهُ مَعَ اعْتِقادِ أنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَأصابَهُ وأنَّ فِرارَهُ لا يُنْجِيهِ لَكِنْ يَخْرُجُ مُؤَمِّلًا أنْ يَنْجُوَ أمّا الخُرُوجُ مِن مَحَلِّهِ بِقَصْدِ (p-98) أنَّ لَهُ قُدْرَةَ عَلى التَّخَلُّصِ مِن قَضاءِ اللَّهِ تَعالى وأنَّ فِعْلَهُ هو المُنَجِّي لَهُ فَواضِحٌ أنَّهُ حَرامٌ بَلْ كُفْرٌ اتِّفاقًا. وأمّا الخُرُوجُ لِعارِضِ شُغْلٍ أوْ لِلتَّداوِي مِن عِلَّةٍ طُعِنَ فِيهِ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهو مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يُخْتَلَفَ في جَوازِهِ كَما صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، ومِن ذَلِكَ فِيما أرى عُرُوضُ وسْوَسَةٍ طَبِيعِيَّةٍ لَهُ لا يَقْدِرُ عَلى دَفْعِها تَضُرُّ بِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا وغَلَبَةُ ظَنِّ عَدَمِ دَفْنِهِ أوْ تَغْسِيلِهِ إذا ماتَ في ذَلِكَ المَحَلِّ قِيلَ: ولا يُقاسُ عَلى الفِرارِ مِنَ الطّاعُونِ الفِرارُ مِن غَيْرِهِ مِنَ المَهالِكِ فَإنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وقَدْ قالَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ: الفِرارُ مِنَ الوَباءِ كالحُمّى ومِن سائِرِ أسْبابِ الهَلاكِ جائِزٌ بِالإجْماعِ، والطّاعُونُ مُسْتَثْنى مِن عُمُومِ المَهالِكِ المَأْمُورِ بِالفِرارِ مِنها لِلنَّهْيِ التَّحْرِيمِيِّ أوِ التَّنْزِيهِيِّ عَنِ الفِرارِ مِنهُ واخْتَلَفُوا في عِلَّةِ النَّهْيِ فَقِيلَ: هي أنَّ الطّاعُونَ إذا وقَعَ في بَلَدٍ مَثَلًا عَمَّ جَمِيعَ مَن فِيهِ بِمُداخَلَةِ سَبَبِهِ فَلا يُفِيدُ الفِرارُ مِنهُ بَلْ إنْ كانَ أجَلُهُ قَدْ حَضَرَ فَهو مَيِّتٌ وإنْ رَحَلَ وإلّا فَلا، وإنْ أقامَ فَتَعَيَّنَتِ الإقامَةُ لِما في الخُرُوجِ مِنَ العَبَثِ الَّذِي لا يَلِيقُ بِالعُقَلاءِ، واعْتُرِضَ بِمَنعِ عُمُومِهِ إذا وقَعَ في بَلَدٍ جَمِيعُ مَن فِيهِ بِمُداخَلَةِ سَبَبِهِ ولَوْ سُلِّمَ فالوَباءُ مِثْلُهُ في أنَّ الشَّخْصَ الَّذِي في بَلَدِهِ إنْ كانَ أجَلُهُ قَدْ حَضَرَ فَهو مَيِّتٌ وإنْ رَحَلَ وإلّا فَلا وإنْ أقامَ مَعَ أنَّهم جَوَّزُوا الفِرارَ مِنهُ، وقِيلَ: هي أنَّ النّاسَ لَوْ تَوارَدُوا عَلى الخُرُوجِ لَضاعَتِ المَرْضى العاجِزُونَ عَنِ الخُرُوجِ لِفَقْدِ مَن يَتَعَهَّدُهم والمَوْتى لِفَقْدِ مَن يُجَهِّزُهم، وأيْضًا في خُرُوجِ الأقْوِياءِ كَسْرًا لِقُلُوبِ الضُّعَفاءِ عَنِ الخُرُوجِ، وأيْضًا إنَّ الخارِجَ يَقُولُ: لَوْ لَمْ أخْرُجْ لَمُتُّ، والمُقِيمُ: لَوْ خَرَجْتُ لَسَلِمْتُ فَيَقَعانِ في اللَّوِّ المَنهِيِّ عَنْهُ، واعْتُرِضَ كُلُّ ذَلِكَ بِأنَّهُ مَوْجُودٌ في الفِرارِ عَنِ الوَباءِ أيْضًا، وكَذا الدّاءُ الحادِثُ ظُهُورُهُ المَعْرُوفُ بَيْنَ النّاسِ بِأبِي زَوْعَةٍ الَّذِي أعْيا الأطِبّاءَ عِلاجُهُ ولَمْ يَنْفَعْ فِيهِ التَّحَفُّظُ والعُزْلَةُ عَلى الوَجْهِ المَعْرُوفِ في الطّاعُونِ، وقِيلَ: هي إنَّ لِلْمَيِّتِ بِهِ وكَذا لِلصّابِرِ المُحْتَسِبِ المُقِيمِ في مَحَلِّهِ وإنْ لَمْ يَمُتْ بِهِ أجْرُ شَهِيدٍ، وفي الفِرارِ إعْراضٌ عَنِ الشَّهادَةِ وهو مَحَلُّ التَّشْبِيهِ في حَدِيثِ عائِشَةَ عِنْدَ بَعْضٍ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ قَدْ صَحَّ «أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَرَّ بِحائِطٍ مائِلٍ فَأسْرَعَ ولَمْ يُمْنَعْ أحَدٌ مِن ذَلِكَ» . وكَذا مِنَ الفِرارِ مِنَ الحَرِيقِ مَعَ أنَّ المَيِّتَ بِذَلِكَ شَهِيدٌ أيْضًا، وذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى أنَّ النَّهْيَ تَعْبُدِيٌّ وكَأنَّهُ لَمّا رَأى أنَّهُ لا تَسْلَمُ عِلَّةٌ لَهُ عَنِ الطَّعْنِ قالَ ذَلِكَ، ولَهم في هَذِهِ المَسْألَةِ رَسائِلُ عَدِيدَةٌ فَمَن أرادَ اسْتِيفاءَ الكَلامِ فِيها فَلْيَرْجِعْ إلَيْها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب