الباحث القرآني

﴿إنْ يَثْقَفُوكُمْ﴾ أيْ إنْ يَظْفَرُوا بِكم، وأصْلُ الثَّقَفِ الحِذْقُ في إدْراكِ الشَّيْءِ وفِعْلِهِ، ومِنهُ رَجُلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ، وتُجُوِّزَ بِهِ عَنِ الظَّفَرِ والإدْراكِ مُطْلَقًا ﴿يَكُونُوا لَكم أعْداءً﴾ أيْ عَداوَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْها ضَرَرٌ بِالفِعْلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَبْسُطُوا إلَيْكم أيْدِيَهم وألْسِنَتَهم بِالسُّوءِ﴾ أيْ بِما يَسُوءُكم مِنَ القَتْلِ والأسْرِ والشَّتْمِ فَكَأنَّهُ عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، فَوُقُوعُ ﴿يَكُونُوا﴾ إلَخْ جَوابُ الشَّرْطِ بِالِاعْتِبارِ الَّذِي أشَرْنا إلَيْهِ وإلّا فَكَوْنُهم أعْداءً لِلْمُخاطَبِينَ أمْرٌ مُتَحَقِّقٌ قَبْلَ الشَّرْطِ بِدَلِيلِ ما في صَدْرِ السُّورَةِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أيْ يُظْهِرُوا ما في قُلُوبِهِمْ مِنَ العَداوَةِ ويُرَتِّبُوا عَلَيْها أحْكامَها، وقِيلَ: المُرادُ بِذَلِكَ لازِمُ العَداوَةِ وثَمَرَتُها وهو ظُهُورُ عَدَمِ نَفْعِ التَّوَدُّدِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنْ يَثْقَفُوكم يَظْهَرْ لَكم عَدَمُ نَفْعِ إلْقاءِ المَوَدَّةِ إلَيْهِمْ والتَّوَدُّدِ لَهم، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى الجَوابِ وهو مُسْتَقْبَلٌ مَعْنى كَما هو شَأْنُ الجَوابِ، ويُؤَوَّلُ كَما أُوِّلَ سابِقُهُ بِأنْ يُقالَ - عَلى ما في الكَشْفِ -المُرادُ وِدادَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْها القُدْرَةُ عَلى الرَّدِّ إلى الكُفْرِ، أوْ يُقالُ- عَلى ما قالَ البَعْضُ -المُرادُ إظْهارُ الوِدادَةِ وإجْراءُ ما تَقْتَضِيهِ، والتَّعْبِيرُ بِالماضِي وإنْ كانَ المَعْنى عَلى الِاسْتِقْبالِ لِلْإشْعارِ بِأنَّ وِدادَتَهم كُفْرُهم قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وأنَّها حاصِلَةٌ وإنْ لَمْ يَثْقَفُوهم. وتَحْقِيقُ ذَلِكَ أنَّ الوِدادَةَ سابِقَةٌ بِالنَّوْعِ مُتَأخِّرَةٌ بِاعْتِبارِ بَعْضِ الأفْرادِ، فَعُبِّرَ بِالماضِي نَظَرًا لِلْأوَّلِ وجُعِلَتْ جَوابًا مُتَأخِّرًا نَظَرًا لِلثّانِي، وآثَرَ الخَطِيبُ الدِّمَشْقِيُّ العَطْفَ عَلى مَجْمُوعِ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ [الحَشْرَ: 12] في السُّورَةِ قَبْلَ ﴿فَإذا جاءَ أجَلُهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً ولا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعْرافَ: 34] عِنْدَ جَمْعٍ قالَ: لِأنَّ وِدادَتَهم أنْ يَرْتَدُّوا كُفّارًا حاصِلَةً وإنْ لَمْ يَظْفَرُوا بِهِمْ فَلا يَكُونُ في التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ فائِدَةٌ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ أبُو حَيّانَ، وجَوابُهُ يُعْلَمُ مِمّا ذَكَرْنا، وقَرِيبٌ مِنهُ ما قِيلَ: إنَّ وِدادَةَ كُفْرِهِمْ بَعْدَ الظَّفَرِ لَمّا كانَتْ غَيْرَ ظاهِرَةٍ لِأنَّهم حِينَئِذٍ سَبْيٌ وخَدَمٌ لا يُعْتَدُّ بِهِمْ فَيَجُوزُ أنْ لا يُتَمَنّى كُفْرُهم فَيَحْتاجُ إلى الإخْبارِ عَنْهُ بِخِلافِ الوِدادَةِ قَبْلَ الظَّفَرِ فَيَكُونُ لِلتَّقْيِيدِ فائِدَةٌ لِأنَّها وِدادَةٌ أُخْرى مُتَأخِّرَةٌ. وقالَ بَعْضُ الأفاضِلِ: إنَّ المَعْطُوفَ عَلى الجَزاءِ في كَلامِ العَرَبِ عَلى أنْحاءَ: الأوَّلُ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنهُما جَزاءً وعِلَّةً نَحْوَ إنْ تَأْتِنِي آتِكَ وأُعْطِكَ. الثّانِي أنْ يَكُونَ الجَزاءُ أحَدَهُما وإنَّما ذُكِرَ الآخَرُ لِشِدَّةِ ارْتِباطِهِ بِهِ لِكَوْنِهِ مُسَبِّبًا لَهُ مَثَلًا نَحْوَ إذا جاءَ الأمِيرُ اسْتَأْذَنْتُ وخَرَجْتُ لِاسْتِقْبالِهِ ونَحْوَ حَبَسْتُ غَرِيمِي لِأسْتَوْفِيَ حَقِّي وأُخَلِّيَهُ. الثّالِثُ أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ جَمْعَ أمْرَيْنِ وحِينَئِذٍ لا يُنافِي تَقَدُّمَ أحَدِهِما نَحْوَ خَرَجْتُ مَعَ الحَجّاجِ لِأُرافِقَهم في الذَّهابِ ولا أُرافِقَهم في الإيابِ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: (p-69) ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفَتْحَ: 1، 2] الآيَةَ، وما في النَّظْمِ الجَلِيلِ هُنا قِيلَ: مُحْتَمِلٌ لِلْأوَّلِ لِاسْتِقْبال الوِدادَةِ مِن بَعْضِ الِاعْتِباراتِ كَما تَقَدَّمَ، وعَبَّرَ بِالماضِي اعْتِبارًا لِلتَّقَدُّمِ الرُّتْبِيِّ مِن حَيْثُ إنَّ الرَّدَّ عِنْدَ الكَفَرَةِ أشَقُّ المَضارِّ لِعِلْمِهِمْ أنَّ الدِّينَ أعَزُّ عَلى المُؤْمِنِينَ مِن أرْواحِهِمْ لِأنَّهم باذِلُونَ لَها دُونَهُ، وأهَمُّ شَيْءٍ عِنْدَ العَدُوِّ أنْ يَقْصِدَ أهَمَّ شَيْءٍ عِنْدَ صاحِبِهِ ومُحْتَمِلٌ لِلثّالِثِ بِأنْ يَكُونَ المُرادُ المَجْمُوعَ بِتَأْوِيلٍ يُرِيدُونَ لَكم مَضارَّ الدُّنْيا والآخِرَةِ، قِيلَ: ولِلثّانِي أيْضًا بِأنْ يَكُونَ الجَزاءُ هو - يَبْسُطُوا - وذَكَرَتْ عَداوَتُهم ووِدادَتُهُمُ الرَّدَّ لِشِدَّةِ الِارْتِباطِ لِما هُناكَ مِنَ السَّبَبِيَّةِ والمُسَبَّبِيَّةِ وهو كَما تَرى وجَعَلَ الطَّيِّبِيُّ المَجْمُوعَ مَجازًا مِن إطْلاقِ السَّبَبِ وإرادَةِ المُسَبَّبِ وهو مَضارُّ الدّارَيْنِ، وذَكَرَ أنَّ الجَوابَ في الحَقِيقَةِ مُقَدَّرٌ أيْ يُرِيدُوا لَكم مَضارَّ الدُّنْيا والدِّينِ، وما ذُكِرَ دَلِيلُهُ أُقِيمَ مَقامَهُ، وقِيلَ: عَبَّرَ في الوِدادَةِ بِالماضِي لِتَحَقُّقِها عِنْدَ المُؤْمِنِينَ أتَمَّ مِن تَحَقُّقِ ما قَبْلَها، وحُمِلَ عَلَيْهِ كَلامٌ لِصاحِبِ المِفْتاحِ. وعَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ الواوَ واوُ الحالِ لا واوُ العَطْفِ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ أوْ بِدُونِهِ، ولا يَخْفى أنَّ العَطْفَ هو المُتَبادَرُ، وكَوْنُهُ عَلى الجَزاءِ أبْعَدَ مَغْزًى، وإخْراجُ الشَّرْطِ والجَزاءِ عَلى نَحْوِ ذَلِكَ أكْثَرُ مِن أنْ يُحْصى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب