الباحث القرآني

﴿وهُوَ الَّذِي أنْشَأكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ أيْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو تَذْكِيرٌ لِنِعْمَةٍ أُخْرى فَإنَّ رُجُوعَ الكَثْرَةِ إلى أصْلٍ واحِدٍ أقْرَبُ إلى التَّوادِّ والتَّعاطُفِ. وفِيهِ أيْضًا دَلالَةٌ عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿فَمُسْتَقَرٌّ ومُسْتَوْدَعٌ﴾ أيْ فَلَكُمُ اسْتِقْرارٌ في الأصْلابِ أوْ فَوْقَ الأرْضِ، واسْتِيداعٌ في الأرْحامِ أوْ في القَبْرِ أوْ مَوْضِعُ اسْتِقْرارٍ واسْتِيداعٍ فِيما ذُكِرَ، وجُعِلَ الصُّلْبُ مَقَرَّ النُّطْفَةِ والرَّحِمُ مُسْتَوْدَعَها لِأنَّها تَحْصُلُ في الصُّلْبِ لا مِن قِبَلِ شَخْصٍ آخَرَ وفي الرَّحِمِ مِن قِبَلِ الأبِ فَأشْبَهَتِ الوَدِيعَةَ كَأنَّ الرَّجُلَ أوْدَعَها ما كانَ عِنْدَهُ. وجُعِلَ وجْهُ الأرْضِ مُسْتَقَرًّا وبَطْنُها مُسْتَوْدَعًا لِتَوَطُّنِهِمْ في الأوَّلِ واتِّخاذِهِمُ المَنازِلَ والبُيُوتَ فِيهِ وعَدَمِ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ في الثّانِي، وقِيلَ: التَّعْبِيرُ عَنْ كَوْنِهِمْ في الأصْلابِ أوْ فَوْقَ الأرْضِ بِالِاسْتِقْرارِ لِأنَّهُما مَقَرُّهُمُ الطَّبِيعِيُّ كَما أنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ كَوْنِهِمْ في الأرْحامِ أوْ في القَبْرِ بِالِاسْتِيداعِ لِما أنَّ كُلًّا مِنهُما لَيْسَ بِمَقَرِّهِمُ الطَّبِيعِيِّ وأخْرَجَ جَماعَةٌ مِنهُمُ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ المُسْتَقَرَّ الرَّحِمُ، والمُسْتَوْدَعَ الأصْلابُ، وجاءَ في رِوايَةٍ أنَّ حَبْرَ تَيْما كَتَبَ إلَيْهِ يَسَألُهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ فَأجابَهُ بِما ذُكِرَ (p-236)ويُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ المُسْتَقَرِّ بِالرَّحِمِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونُقِرُّ في الأرْحامِ ما نَشاءُ﴾ وأمّا تَفْسِيرُ المُسْتَوْدَعِ بِالأصْلابِ فَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ: إنَّهُ لَيْسَ بِواضِحٍ ولَيْسَ كَما قالَ، فَقَدْ ذَكَرَ الإمامُ بَعْدَ أنْ فَرَّقَ بَيْنَ المُسْتَقَرِّ والمُسْتَوْدَعِ بِأنَّ المُسْتَقَرَّ أقْرَبُ إلى الثَّباتِ مِنَ المُسْتَوْدَعِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى قُوَّةِ هَذا القَوْلِ -يَعْنِي المَرْوِيَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما- أنَّ النُّطْفَةَ الواحِدَةَ لا تَبْقى في صُلْبِ الأبِ زَمانًا طَوِيلًا والجَنِينَ يَبْقى زَمانًا طَوِيلًا، ولَمّا كانَ المُكْثُ في الرَّحِمِ أكْثَرَ مِمّا في صُلْبِ الأبِ كانَ حَمْلُ الِاسْتِقْرارِ عَلى المُكْثِ في الرَّحِمِ أوْلى. ويَلْزَمُ ذَلِكَ أنَّ حَمْلَ الِاسْتِيداعِ عَلى المُكْثِ في الصُّلْبِ أوْلى. وأنا أقُولُ: لَعَلَّ حَمْلَ المُسْتَوْدَعِ عَلى الصُّلْبِ بِاعْتِبارِ أنَّ اللَّهَ تَعالى بَعْدَ أنْ أخْرَجَ مِن بَنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهم يَوْمَ المِيثاقِ وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ وكانَ ما كانَ رَدَّهم إلى ما أخْرَجَهم مِنهُ فَكَأنَّهم ودِيعَةٌ هُناكَ تَخْرُجُ حِينَ يَشاءُ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ، وقَدْ أطْلَقَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما اسْمَ الوَدِيعَةِ عَلى ما في الصُّلْبِ صَرِيحًا. فَقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: قالَ لِيَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أتَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لا وما ذَلِكَ في نَفْسِي اليَوْمَ قالَ: إنْ كانَ في صُلْبِكَ ودِيعَةٌ فَسَتَخْرُجُ. ورُوِيَ تَفْسِيرُ المُسْتَوْدَعِ بِالدُّنْيا والمُسْتَقَرِّ بِالقَبْرِ عَنِ الحَسَنِ وكانَ: يَقُولُ يا ابْنَ آدَمَ أنْتَ ودِيعَةٌ في أهْلِكَ ويُوشِكُ أنْ تَلْحَقَ بِصاحِبِكَ ويُنْشِدَ قَوْلَ لَبِيَدٍ: ؎وما المالُ والأهْلُونَ إلّا ودِيعَةٌ ولا بُدَّ يَوْمًا أنْ تُرَدَّ الوَدائِعُ وقالَ سُلَيْمانُ بْنُ زَيْدٍ العَدَوِيُّ في هَذا المَعْنى: فُجِعَ الأحِبَّةُ بِالأحِبَّةِ قَبْلَنا فالنّاسُ مَفْجُوعٌ بِهِ ومُفْجَعُ مُسْتَوْدَعٌ أوْ مُسْتَقِرٌّ مَدْخَلًا فالمُسْتَقِرُّ يَزُورُهُ المُسْتَوْدَعُ وعَنْ أبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ أنَّ المُسْتَقَرَّ الذَّكَرُ لِأنَّ النُّطْفَةَ إنَّما تَتَوَلَّدُ في صُلْبِهِ، والمُسْتَوْدَعُ الأُنْثى لِأنَّ رَحِمَها شَبِيهٌ بِالمُسْتَوْدَعِ لِتِلْكَ النُّطْفَةِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: وهو الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمِنكم ذَكَرٌ ومِنكم أُنْثى وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو (فَمُسْتَقِرٌّ) بِكَسْرِ القافِ وهو حِينَئِذٍ اسْمُ فاعِلٍ بِمَعْنى قارٍّ ﴿ومُسْتَوْدَعٌ﴾ اسْمُ مَفْعُولٍ، والمُرادُ: فَمِنكم مُسْتَقِرٌّ ومِنكم مُسْتَوْدَعٌ. ووَجْهُ كَوْنِ الأوَّلِ مَعْلُومًا والثّانِي مَجْهُولًا أنَّ الِاسْتِقْرارَ هُنا بِخِلافِ الِاسْتِيداعِ والمُتَعاطِفانِ عَلى القِراءَةِ الأُولى مَصْدَرانِ أوِ اسْما مَكانٍ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الأوَّلُ اسْمَ مَفْعُولٍ لِأنَّ ”اسْتَقَرَّ“ لا يَتَعَدّى وكَذا الثّانِي لِيَكُونَ كالأوَّلِ ﴿قَدْ فَصَّلْنا الآياتِ﴾ المُبَيِّنَةَ لِتَفاصِيلِ خَلْقِ البَشَرِ ومِن جُمْلَتِها هَذِهِ الآيَةُ ﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ 98 - مَعانِيَ ذَلِكَ، قِيلَ: ذُكِرَ مَعَ ذِكْرِ النُّجُومِ ﴿يَعْلَمُونَ﴾ ومَعَ ذِكْرِ إنْشاءِ بَنِي آدَمَ ﴿يَفْقَهُونَ﴾ لِأنَّ الإنْشاءَ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وتَصْرِيفَهم بَيْنَ أحْوالِهِمُ المُخْتَلِفَةِ ألْطَفُ وأدَقُّ صَنْعَةً وتَدْبِيرًا فَكانَ ذِكْرُ الفِقْهِ الَّذِي هو اسْتِعْمالُ فِطْنَةٍ وتَدْقِيقُ نَظَرٍ مُطابِقًا لَهُ وهو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الفِقْهَ أبْلَغُ مِنَ العِلْمِ، وقِيلَ: هَما بِمَعْنى إلّا أنَّهُ لَمّا أُرِيدَ فَصْلُ كَلِّ آيَةٍ بِفاصِلَةٍ تَنْبِيهًا عَلى اسْتِقْلالِ كُلٍّ مِنهُما بِالمَقْصُودِ مِنَ الحُجَّةِ وكُرِهَ الفَصْلُ بِفاصِلَتَيْنِ مُتَساوِيَتَيْنِ لَفْظًا لِلتَّكْرارِ عُدِلَ إلى فاصِلَةٍ مُخالِفَةٍ تَحْسِينًا لِلنَّظْمِ وافْتِنانًا في البَلاغَةِ وذَكَرَ ابْنُ المُنِيرِ وجْهًا ءاخَرَ في تَخْصِيصِ الأُولى بِالعِلْمِ والثّانِيَةِ بِالفِقْهِ وهو أنَّهُ لَمّا كانَ المَقْصُودُ التَّعْرِيضَ بِمَن لا يَتَدَبَّرُ ءاياتِ اللَّهِ تَعالى ولا يَعْتَبِرُ بِمَخْلُوقاتِهِ وكانَتِ الآياتُ المَذْكُورَةُ أوَّلًا خارِجَةً عَنْ أنْفُسِ النُّظّارِ إذِ النُّجُومُ والنَّظَرُ فِيها وعِلْمُ الحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ في تَدْبِيرِهِ لَها أمْرٌ خارِجٌ عَنْ نَفْسِ النّاظِرِ ولا كَذَلِكَ النَّظَرِ في إنْشائِهِمْ مِن نَفْسٍ (p-237)واحِدَةٍ وتَقْلِيبِهِمْ في أطْوارٍ مُخْتَلِفَةٍ وأحْوالٍ مُتَغايِرَةٍ فَإنَّهُ نَظَرٌ لا يَعْدُو نَفْسَ النّاظِرِ ولا يَتَجاوَزُها فَإذا تَمَهَّدَ هَذا فَجَهْلُ الإنْسانِ بِنَفْسِهِ وأحْوالِهِ وعَدَمُ النَّظَرِ والتَّفَكُّرِ فِيها أبْشَعُ مِن جَهْلِهِ بِالأُمُورِ الخارِجَةِ عَنْهُ كالنُّجُومِ والأفْلاكِ ومَقادِيرِ سَيْرِها وتَقَلُّبِها، فَلَمّا كانَ الفِقْهُ أدْنى دَرَجاتِ العِلْمِ إذْ هو عِبارَةٌ عَنِ الفَهْمِ نُفِيَ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ عَنْ أبْشَعِ القَبِيلَتَيْنِ جَهْلًا وهُمُ الَّذِينَ لا يَتَبَصَّرُونَ في أنْفُسِهِمْ، ونَفْيُ الأدْنى أبْشَعُ مِن نَفْيِ الأعْلى فَخَصَّ بِهِ أسْوَأ الفَرِيقَيْنِ حالًا و(يَفْقَهُونَ) هَهُنا مُضارِعُ فَقِهَ الشَّيْءَ بِكَسْرِ القافِ إذا فَهِمَهُ ولَوْ أدْنى فَهْمٍ ولَيْسَ مِن فَقُهَ بِالضَّمِّ لِأنَّ تِلْكَ دَرَجَةٌ عالِيَةٌ ومَعْناهُ صارَ فَقِيهًا. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ إذا قِيلَ: فَلانٌ لا يَفْقَهُ شَيْئًا كانَ أذَمَّ في العُرْفِ مِن قَوْلِكَ: فُلانٌ لا يَعْلَمُ شَيْئًا وكانَ مَعْنى قَوْلِكَ: لا يَفْقَهُ شَيْئًا؛ لَيْسَتْ لَهُ أهْلِيَّةُ الفَهْمِ وإنْ فَهِمَ، وأمّا قَوْلُكَ: لا يَعْلَمُ شَيْئًا فَغايَتُهُ عَدَمُ حُصُولِ العِلْمِ لَهُ وقَدْ يَكُونُ لَهُ أهْلِيَّةُ الفَهْمِ والعِلْمِ لَوْ تَعَلَّمَ. واسْتُدِلَّ عَلى أنَّ التّارِكَ لِلتَّفَكُّرِ في نَفْسِهِ أجْهَلُ وأسْوَأُ حالًا مِنَ التّارِكِ لِلْفِكْرَةِ في غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وفِي الأرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ.﴾ ﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ فَخَصَّ التَّبَصُّرَ في النَّفْسِ بَعْدَ انْدِراجِها فِيما في الأرْضِ مِنَ الآياتِ، وأنْكَرَ عَلى مَن لا يَتَبَصَّرُ في نَفْسِهِ إنْكارًا مُسْتَأْنَفًا واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِأسْرارِ كَلامِهِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب