الباحث القرآني

﴿إنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ والنَّوى﴾ شُرُوعٌ في تَقْرِيرِ بَعْضِ أفاعِيلِهِ تَعالى العَجِيبَةِ الدّالَّةِ عَلى كَمالِ عِلْمِهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ ولَطِيفِ صُنْعِهِ وحِكْمَتِهِ إثْرَ تَقْرِيرِ أدِلَّةِ التَّوْحِيدِ، وفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ المَقْصُودَ مِن جَمِيعِ المَباحِثِ العَقْلِيَّةِ والنَّقْلِيَّةِ وكُلِّ المَطالِبِ الحُكْمِيَّةِ إنَّما هو مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعالى بِذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ سُبْحانَهُ. والفالِقُ المُوجِدُ والمُبْدِعُ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما والضَّحّاكِ. والحَبُّ مَعْلُومٌ. والنَّوى جَمْعُ نَواةِ التَّمْرِ كَما في القامُوسِ وغَيْرِهِ يُؤَنَّثُ ويُذَكَّرُ ويُجْمَعُ عَلى أنْواءٍ ونُوًى بِضَمِّ النُّونِ وكَسْرِها، وفَسَّرَهُ الإمامُ بِالشَّيْءِ المَوْجُودِ في داخِلِ الثَّمَرَةِ بِالمُثَلَّثَةِ أعَمُّ مِنَ التَّمْرِ بِالمُثَنّاةِ وغَيْرِهِ، والمَشْهُورُ أنَّ النَّوى إذا أُطْلِقَ فالمُرادُ مِنهُ ما في القامُوسِ وإذا أُرِيدَ غَيْرِهِ قُيِّدَ فَيُقالُ: نَوى الخَوْخِ ونَوى الإجاصِ ونَحْوُ ذَلِكَ. وأصْلُ الفَلْقِ الشَّقِّ وكانَ إطْلاقُ الفالِقِ عَلى المُوجِدِ بِاعْتِبارِ أنَّ العَقْلَ يَتَصَوَّرُ مِنَ العَدَمِ ظُلْمَةً مُتَّصِلَةً لا انْفِراجَ فِيها ولا انْفِلاقَ فَمَتى أوْجَدَ الشَّيْءَ تَخَيَّلَ الذِّهْنُ أنَّهُ شَقَّ ذَلِكَ العَدَمَ وفَلَقَهُ وأخْرَجَ ذَلِكَ المُبْدَعِ مِنهُ. وعَنِ الحَسَنِ وقَتادَةَ والسُّدِّيِّ أنَّ المَعْنى شاقُّ الحَبَّةِ اليابِسَةِ ومُخْرِجُ النَّباتِ مِنها وشاقُّ النَّواةِ ومُخْرِجُ النَّخْلِ والشَّجَرِ مِنها، وعَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ ولَعَلَّهُ الأوْلى وفِي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ لِما فِيهِ مِنَ العَجائِبِ الَّتِي تَصْدَحُ أطْيارُها عَلى أفْنانِ الحِكَمِ وتَطْفَحُ أنْهارُها في رِياضِ الكَرَمِ. وعَنْ مُجاهِدٍ وأبِي مالِكٍ أنَّ المُرادَ بِالفَلْقِ الشِّقُّ الَّذِي بِالحُبُوبِ؛ وبِالنَّوى أيْ أنَّهُ سُبْحانَهُ خالِقُهُما كَذَلِكَ كَما في قَوْلِكَ: ضَيَّقَ فَمَّ الرَّكِيَّةِ ووَسَّعَ أسْفَلَها، وضُعِّفَ بِأنَّهُ لا دَلالَةَ لَهُ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ كَما في سابِقِهِ ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ﴾ أيْ يُخْرِجُ ما يَنْمُو مِنَ الحَيَوانِ والنَّباتِ والشَّجَرِ مِمّا لا يَنْمُو مِنَ النُّطْفَةِ والحَبِّ والنَّوى. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِما قَبْلَها عَلى ما عَلَيْهِ الأكْثَرُ ولِذَلِكَ تُرِكَ العَطْفُ، وقِيلَ: خَبَرٌ ثانٍ ولَمْ يُعْطَفْ لِلْإيذانِ بِاسْتِقْلالِهِ في الدَّلالَةِ عَلى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعالى ﴿ومُخْرِجُ المَيِّتِ﴾ كالنُّطْفَةِ وأخَوَيْها ﴿مِنَ الحَيِّ﴾ كالحَيَوانِ وأخَوَيْهِ، وهَذا عِنْدَ بَعْضٍ عَطْفٌ عَلى ﴿فالِقُ﴾ لا عَلى ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ﴾ إلَخْ لِأنَّهُ كَما عَلِمْتَ بَيانٌ لِما قَبْلَهُ وهَذا لا يَصْلُحُ لِلْبَيانِ وإنْ صَحَّ عَطْفُ الِاسْمِ المُشْتَقِّ عَلى الفِعْلِ وعَكْسُهُ واخْتارَ ابْنُ المُنِيرِ كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلى (يُخْرِجُ) قالَ: وقَدْ ورَدا جَمِيعًا بِصِيغَةِ المُضارِعِ كَثِيرًا وهو دَلِيلٌ عَلى أنَّهُما تَوْأمانِ مُقْتَرِنانِ وهو يُبْعِدُ القِطَعَ، فالوَجْهُ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ أنْ يُقالَ: كانَ الأصْلُ أنْ يُؤْتى بِصِيغَةِ اسْمِ (p-227)الفاعِلِ أُسْوَةَ أمْثالِهِ في الآيَةِ إلّا أنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إلى المُضارِعِ في هَذا الوَصْفِ وحْدَهُ إرادَةً لِتَصَوُّرِ إخْراجِ الحَيِّ مِنَ المَيِّتِ واسْتِحْضارِهِ في ذِهْنِ السّامِعِ؛ وذَلِكَ إنَّما يَتَأتّى بِالمُضارِعِ دُونَ اسْمِ الفاعِلِ والماضِي ألَمْ تَرَ ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ كَيْفَ عَدَلَ عَنِ الماضِي المُطابِقِ لِأنْزَلَ لِذَلِكَ، وقَوْلُهُ: بِأنِّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ يَسْعى يُسْهِبُ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحانِ فَآخُذُهُ وأضْرِبُهُ فَخَرَّتْ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ ولِلْجِرانِ فَإنَّهُ عَدَلَ فِيهِ إلى المُضارِعِ إرادَةً لِتَصْوِيرِ شَجاعَتِهِ واسْتِحْضارِهِ لِذِهْنِ السّامِعِ إلى ما لا يُحْصى كَثْرَةً، وإنَّما يُنْتَحى فِيما تَكُونُ العِنايَةُ فِيهِ أقْوى، ولا شَكَّ أنَّ إخْراجَ الحَيِّ مِنَ المَيِّتِ أظْهَرُ في القُدْرَةِ مِن عَكْسِهِ وهو أيْضًا أوَّلُ الحالَيْنِ، والنَّظَرُ أوَّلُ ما يَبْدَأُ فِيهِ ثُمَّ القِسْمُ الآخَرُ ثانٍ عَنْهُ فَكانَ الأوَّلُ جَدِيرًا بِالتَّصْوِيرِ والتَّأْكِيدِ في النَّفْسِ ولِذَلِكَ هو مُقَدَّمٌ أبَدًا عَلى القِسْمِ الآخَرِ في الذَّكَرِ حَسَبَ تُرَتُّبِهِما في الواقِعِ، وسَهَّلَ عَطْفَ الِاسْمِ عَلى الفِعْلِ وحَسَّنَهُ أنَّ اسْمَ الفاعِلِ في مَعْنى المُضارِعِ، وكُلٌّ مِنهُما يُقَدَّرُ بِالآخَرِ فَلا جُناحَ في عَطْفِهِ عَلَيْهِ وقالَ الإمامُ في وجْهِ ذَلِكَ الِاخْتِلافِ: إنَّ لَفْظَ الفِعْلِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الفاعِلَ مُعْتَنٍ بِالفِعْلِ في كُلٍّ حِينٍ وأوانٍ وأمّا لَفْظُ الِاسْمِ فَإنَّهُ لا يُفِيدُ التَّجَدُّدَ والِاعْتِناءَ بِهِ ساعَةً فَساعَةً، ويُرْشِدُ إلى هَذا ما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ القاهِرِ في دَلائِلِ الإعْجازِ مِن أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكم مِن السَّماءِ﴾ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ الرِّزْقُ بِلَفْظِ الفِعْلِ لِأنَّهُ يُفِيدُ أنَّهُ تَعالى يَرْزُقُهم حالًا فَحالًا وساعَةً فَساعَةً، وقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿وكَلْبُهم باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالوَصِيدِ﴾ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ الِاسْمُ لِيُفِيدَ البَقاءَ عَلى تِلْكَ الحالَةِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ يُقالُ: لَمّا كانَ الحَيُّ أشْرَفَ مِنَ المَيِّتِ وجَبَ أنْ يَكُونَ الِاعْتِناءُ بِإخْراجِ الحَيِّ مِنَ المَيِّتِ أكْثَرَ مِنَ الِاعْتِناءِ بِإخْراجِ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ فَلِذا وقَعَ التَّعْبِيرُ عَنِ القِسْمِ الأوَّلِ بِصِيغَةِ الفِعْلِ وعَنِ الثّانِي بِصِيغَةِ الِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الِاعْتِناءَ بِإيجادِ الحَيِّ مِنَ المَيِّتِ أكْثَرُ وأكْمَلُ مِنَ الِاعْتِناءِ بِإيجادِ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ. ثُمَّ العَطْفُ لِاشْتِمالِ الكَلامِ بِهِ عَلى زِيادَةٍ لا يَضُرُّ بِكَوْنِ الجُمْلَةِ بَيانًا لِما تَقَدَّمَ كَما لا يَضُرُّ شُمُولُ الحَيِّ والمَيِّتِ في الجُمْلَةِ المَعْطُوفِ عَلَيْها لِلْحَيَوانِ والنَّباتِ فِيهِ وأيًّا ما كانَ فَلا بُدَّ مِنَ القَوْلِ بِعُمُومِ المَجازِ أوِ الجَمْعِ بَيْنَ المَجازِ والحَقِيقَةِ عَلى مَذْهَبِ مَن يَرى صِحَّتَهُ إنْ قُلْنا: إنَّ الحَيَّ حَقِيقَةً فِيمَن يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالحَياةِ وهي صِفَةٌ تُوجِبُ صِحَّةَ الِادِّراكِ والقُدْرَةَ والمَيِّتَ حَقِيقَةً فِيمَن فارَقَتْهُ تِلْكَ الصِّفَةُ أوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وأنَّ إطْلاقَهُ عَلى نَحْوِ النَّباتِ والشَّجَرِ الغَضِّ والنَّوى مَجازٌ. وبِهَذا يُشْعِرُ كَلامُ الإمامِ فَإنَّهُ جَعَلَ ما نُقِلَ عَنِ الزَّجّاجِ أنَّ المَعْنى يُخْرِجُ النَّباتَ الغَضَّ الطَّرِيَّ مِنَ الحَبِّ اليابِسِ ويُخْرِجُ الحَبَّ اليابِسَ مِنَ النَّباتِ الحَيِّ النّامِي مِنَ الوُجُودِ المَجازِيَّةِ؛ كالمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما مِن أنَّ المَعْنى يُخْرِجُ المُؤْمِنَ مِنَ الكافِرِ والكافِرَ مِنَ المُؤْمِنِ (ذَلِكُمُ) القادِرُ العَظِيمُ الشَّأْنِ السّاطِعُ البُرْهانِ هو (اللَّهُ) الذّاتُ الواجِبُ الوُجُودِ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ وحْدَهُ ﴿فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ 95 - فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وتُشْرِكُونَ بِهِ مِن لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لا سَبِيلَ إلى ذَلِكَ أصْلًا. وتَمَسَّكَ الصّاحِبُ بْنُ عَبّادٍ بِهَذا عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ لَيْسَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعالى لِأنَّهُ سُبْحانَهُ لَوْ خَلَقَ فِيهِ الإفْكَ لَمْ يَلِقْ بِهِ عَزَّ شَأْنُهُ أنْ يَقُولَ: ﴿فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ وقَدْ قَدَّمْنا الجَوابَ عَلى ذَلِكَ عَلى أتَمِّ وجْهٍ، فَتَذَكَّرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب