الباحث القرآني
﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ أيْ مَفاتِيحُهُ كَما قُرِئَ بِهِ؛ فَهو جَمْعُ مِفْتَحٍ بِكَسْرِ المِيمِ وهو كَمِفْتاحٍ آلَةِ الفَتْحِ، وقِيلَ: أنَّهُ جَمْعُ مِفْتاحٍ كَما قِيلَ في جَمْعِ مِحْرابٍ مَحارِبَ، والكَلامُ عَلى الِاسْتِعارَةِ حَيْثُ شَبَّهَ الغَيْبَ بِالأشْياءِ المُسْتَوْثَقِ مِنها بِالأقْفالِ. وأثْبَتَ لَهُ المَفاتِيحَ تَخْيِيلًا وهي باقِيَةٌ عَلى مَعْناها الحَقِيقِيِّ، وجَعْلُها بِمَعْنى العِلْمِ قَرِينَةَ المُكْنِيَّةِ بِناءً عَلى أنَّهُ لا يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ حَقِيقَةً؛ بَعِيدٌ، وأبْعَدُ مِنهُ تَكَلُّفُ التَّمْثِيلِ، وقِيلَ: الأقْرَبُ أنْ يَعْتَبِرَ هُناكَ اسْتِعارَةً مُصَرِّحَةً تَحْقِيقِيَّةً بِأنْ يُسْتَعارَ العِلْمُ لِلْمَفاتِحِ وتُجْعَلَ القَرِينَةُ الإضافَةَ إلى الغَيْبِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّ المُرادَ مِنَ المَفاتِحِ: الخَزائِنُ فَهي حِينَئِذٍ جَمْعُ مَفْتَحٍ بِفَتْحِ المِيمِ وهو المَخْزَنُ
وجَوَّزَ الواحِدِيُّ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنى الفَتْحِ ولَيْسَ بِالمُتَبادِرِ. وفي الكَلامِ اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ تَخْيِيِلِيَّةٌ، وتَقْدِيمُ الخَبَرِ لِإفادَةِ الحَصْرِ. والمُرادُ بِالغَيْبِ المُغَيَّباتُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِغْراقِ، والمَقْصُودُ عَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ أنَّهُ سُبْحانَهُ هو العالِمُ بِالمُغَيَّباتِ جَمِيعِها كَما هي ابْتِداءٌ، ﴿لا يَعْلَمُها إلا هُوَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ﴿مَفاتِحُ﴾، والعامِلُ فِيها -كَما قالَ أبُو البَقاءِ- ما تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ أوْ نَفْسُهُ إنْ رُفِعْتَ بِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ، والكَلامُ إمّا مَسُوقٌ لِبَيانِ اخْتِصاصِ المَقْدُوراتِ الغَيْبِيَّةِ بِهِ سُبْحانَهُ مِن حَيْثُ العِلْمِ إثْرَ بَيانِ اخْتِصاصِ كُلِّها بِهِ تَعالى مِن حَيْثُ القُدْرَةِ، والمَعْنى إنَّ ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ العَذابِ لَيْسَ مَقْدُورًا لِي حَتّى أُلْزِمَكم بِتَعْجِيلِهِ ولا (p-171)مَعْلُومًا لَدَيَّ حَتّى أُخْبِرَكم بِوَقْتِ نُزُولِهِ؛ بَلْ هو مِمّا يَخْتَصُّ بِهِ جَلَّ شَأْنُهُ قُدْرَةً وعِلْمًا فَيُنْزِلُهُ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ المَبْنِيَّةُ عَلى الحِكَمِ، وإمّا لِإثْباتِ العِلْمِ العامِّ لَهُ سُبْحانَهُ وهو عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَعْدَ إثْباتِ العِلْمِ الخاصِّ وهو عِلْمُهُ بِالظّالِمِينَ، وذَكَرَ الإمامُ أنَّ مَعْنى الآيَةِ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُرادَ بِالمَفاتِحِ الخَزائِنُ أنَّهُ سُبْحانَهُ القادِرُ عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: مَفاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ وتَلا ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ الآيَةَ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وأخْرَجَ أحْمَدُ والبُخارِيُّ وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما مَرْفُوعًا نَحْوَ ذَلِكَ، ولَعَلَّ الحَمْلَ عَلى الِاسْتِغْراقِ أوْلى، وما في الأخْبارِ يُحْمَلُ عَلى بَيانِ البَعْضِ المُهِمِّ لا عَلى دَعْوى الحَصْرِ إذْ لا شُبْهَةَ في أنَّ ما عَدا الخَمْسِ مِنَ المُغَيَّباتِ لا يَعْلَمُهُ أيْضًا إلّا اللَّهُ تَعالى
﴿ويَعْلَمُ ما في البَرِّ والبَحْرِ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ﴾ إلَخْ أوْ عَلى الجُمْلَةِ قَبْلَهُ وهو ظاهِرٌ عَلى تَقْدِيرِ حالِيَّتِها، وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها تَأْكِيدًا فَقَدْ مَنَعَهُ البَعْضُ لِأنَّ المَعْطُوفَ لا يَصْلُحُ لِلتَّأْكِيدِ ولَوْ كانَ عِلْمُهُ سُبْحانَهُ بِالمُغَيَّباتِ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ المُحِقِّينَ عَلى وجْهِ التَّفْصِيلِ والِاخْتِصاصِ لِأنَّ عِلْمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ مُتَغايِرانِ فَلا يُؤَكِّدُ أحَدُهُما الآخَرَ، نَعَمْ قِيلَ: مَن لَمْ يَجْعَلْها مُؤَكِّدَةً جَوَّزَ العَطْفَ عَلَيْها فَيَكُونُ الجُمْلَتانِ مُسْتَأْنِفَتَيْنِ لِتَفْصِيلِ عِلْمِهِ سُبْحانَهُ وشُمُولِهِ لا غَيْرَ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المَجْمُوعُ مُؤَكِّدًا لِاشْتِمالِهِ عَلى مَضْمُونِ ما قَبْلَهُ لِأنَّ لَيْسَ تَوْكِيدًا اصْطِلاحِيًّا، والمُرادُ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ -كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ- بَيانُ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعالى بِالمُشاهَداتِ إثْرَ بَيانِ تَعَلُّقِهِ بِالمُغَيَّباتِ تَكْمِلَةً لَهُ وتَنْبِيهًا عَلى أنَّ الكُلَّ بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِهِ المُحِيطِ سَواءٌ، والمُرادُ مِنَ (البَرِّ) الصَّحْراءُ، ومِنَ (البَحْرِ) خِلافُهُ، وفي القامُوسِ أنَّهُ الماءُ الكَثِيرُ أوِ المِلْحُ فَقَطْ ويُجْمَعُ وجَمْعُهُ أبْحُرٍ وبُحُورٍ وبِحارٍ وتَصْغِيرُهُ أُبَيْحِرٌ لا بُحَيْرٌ. وعَنْ مُجاهِدٍ أنَّ المُرادَ بِالبَرِّ القِفارُ وبِالبَحْرِ كُلُّ قَرْيَةٍ فِيها ماءٌ وهو خِلافُ الظّاهِرِ، وأيًّا ما كانَ فالمَعْنى يَعْلَمُ ما فِيهِما مِنَ المَوْجُوداتِ مُفَصَّلَةً عَلى اخْتِلافِ أجْناسِها وأنْواعِها وتَكَثُّرِ أفْرادِها
﴿وما تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلا يَعْلَمُها﴾ أيْ وما تَسْقُطُ ورَقَةٌ مِن أيِّ شَجَرَةٍ كانَتْ إلّا عالِمًا بِها، فَـ (مِن) زائِدَةٌ في الفاعِلِ، والجُمْلَةُ بَعْدَ إلّا في مَوْضِعِ الحالِ مِنهُ، وجاءَتِ الحالُ مِنَ النَّكِرَةِ لِاعْتِمادِها عَلى النَّفْيِ، والتَّفْرِيغُ في الحالِ شائِعٌ سائِغٌ
وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ النَّعْتِ لِلنَّكِرَةِ، والكَلامُ مَسُوقٌ كَما قِيلَ لِبَيانِ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِأحْوالِ المُشاهَداتِ المُتَغَيِّرَةِ بَعْدَ بَيانِ تَعَلُّقِهِ بِذَواتِها فَإنَّ تَخْصِيصَ حالِ السُّقُوطِ بِالذِّكْرِ لَيْسَ إلّا بِطَرِيقِ الإكْفاءِ بِذِكْرِها عَنْ ذِكْرِ سائِرِ الأحْوالِ كَما أنَّ ذِكْرَ أحْوالِ الوَرَقَةِ وما عُطِفَ عَلَيْها خاصَّةً دُونَ أحْوالِ سائِرِ ما في البَرِّ والبَحْرِ مِنَ المَوْجُوداتِ الَّتِي لا يُحِيطُ بِها نِطاقُ الحَصْرِ بِاعْتِبارِ أنَّها أنَمُوذَجٌ لِأحْوالِ سائِرِها، قِيلَ: ولَعَلَّ الِاكْتِفاءَ بِحالِ السُّقُوطِ دُونَ الِاكْتِفاءِ بِغَيْرِها مِنَ الأحْوالِ لِشِدَّةِ مُلاءَمَتِها لِما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في آيَةِ التَّوَفِّي، ولِأنَّ التَّغْيِيرَ فِيها أظْهَرُ فَهو أوْفَقُ بِما سِيقَتْ لَهُ الآيَةُ، وقِيلَ: لِأنَّ العِلْمَ بِالسُّقُوطِ لِكَوْنِهِ مِنَ الأحْوالِ السّاقِطَةِ الَّتِي يُغْفَلُ عَنْها يَسْتَلْزِمُ العِلْمَ بِغَيْرِهِ مِنَ الأحْوالِ المُعْتَنى بِها فَتَدَبَّرْ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وما تَتَغَيَّرُ ورَقَةٌ مِن حالٍ إلى حالٍ إلّا يَعْلَمُها ﴿ولا حَبَّةٍ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿ورَقَةٍ﴾ (p-172)وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فِي ظُلُماتِ الأرْضِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِـ ﴿حَبَّةٍ﴾ مُفِيدَةٌ لِكَمالِ ظُهُورِ عِلْمِهِ تَعالى، والمُرادُ مِن ظُلُماتِ الأرْضِ بُطُونُها وكَنّى بِالظُّلْمَةِ عَنِ البَطْنِ لِأنَّهُ لا يُدْرَكُ فِيهِ كَما لا يُدْرَكُ في الظُّلْمَةِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما المُرادُ ظُلُماتُ الأرْضِ ما تَحْتَ الصَّخْرَةِ في أسْفَلِ الأرَضِينَ السَّبْعِ أوْ تَحْتَ حَجَرٍ أوْ شَيْءٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿ورَقَةٍ﴾ أيْضًا داخِلٌ مَعَها في حُكْمِها، والمُرادُ بِالرَّطْبِ واليابِسِ رَطْبٌ ويابِسٌ مِن شَأْنِهِما السُّقُوطُ كالثِّمارِ مَثَلًا لِاقْتِضاءِ العَطْفِ ذَلِكَ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إلا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾
95
- كالتَّكْرِيرِ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ إلّا يَعْلَمُها لِأنَّ مَعْناها واحِدٌ في المَآلِ سَواءٌ أُرِيدَ بِالكِتابِ المُبِينِ عِلْمُهُ تَعالى أوِ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ الَّذِي هو مَحَلُّ مَعْلُوماتِهِ سُبْحانَهُ وإلى هَذا ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وأرادَ كَما قالَ السَّعْدُ أنَّهُ تَكْرِيرٌ مِن جِهَةِ المَعْنى، وأمّا مِن جِهَةِ اللَّفْظِ فَهو صِفَةٌ لِلْمَذْكُوراتِ كَما أنَّ ﴿إلا يَعْلَمُها﴾ صِفَةٌ لِوَرَقَةٍ، وأُورِدَ عَلَيْهِ بِأنَّ صِفَةَ شَيْءٍ كَيْفَ تَكُونُ تَكْرِيرًا لِصِفَةِ شَيْءٍ آخَرَ مَعْنًى وأُجِيبَ بِأنَّهُ غَيْرُ وارِدٍ لِأنَّ الوَرَقَةَ داخِلَةٌ في الرُّطَبِ واليابِسِ فَلا تَغايُرَ بِحَسْبِ المَعْنى فَيَصِحُّ ما ذُكِرَ، وقِيلَ: إنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الِاسْتِثْناءِ الأوَّلِ بَدَلُ الكُلِّ إنْ فُسِّرَ الكِتابُ بِالعِلْمِ وبَدَلُ الِاشْتِمالِ إنْ فُسِّرَ بِاللَّوْحِ وفِيهِ تَأمُّلٌ، وقُرِئَ ولا حَبَّةٌ ولا رَطْبٌ ولا يابِسٌ بِالرَّفْعِ عَلى العَطْفِ عَلى مَحَلِّ ورَقَةٍ، وخَصَّ بَعْضُهم هَذِهِ القِراءَةَ بِالأخِيرَيْنِ
وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرُ ﴿إلا في كِتابٍ﴾، قِيلَ: وهو الأنْسَبُ بِالمَقامِ لِشُمُولِ الرَّطْبِ واليابِسِ حِينَئِذٍ لِما لَيْسَ مِن شَأْنِهِ السُّقُوطُ، وقَدْ جَعَلَهُما غَيْرُ واحِدٍ شامِلَيْنِ لِجَمِيعِ الأشْياءِ لِأنَّ الأجْسامَ كُلَّها لا تَخْلُو مِن أنْ تَكُونَ رَطْبَةً أوْ يابِسَةً ويَدْخُلَ في ذَلِكَ الحارِّ والبارِدِ، والمُرادُ مِن كُلٍّ مَعْناهُ اللُّغَوِيُّ لا مُصْطَلَحَ الأطِبّاءِ كَما لا يَخْفى، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ المُرادَ بِالرَّطْبِ ما يَنْبُتُ واليابِسِ ما لا يَنْبُتُ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ أنَّ الأوَّلَ الماءُ والثّانِيَ الثَّرى، ورَوى أبُو الشَّيْخِ عَنْهُ ما يُفِيدُ العُمُومُ ولَعَلَّهُ الأوْلى بِالقَبُولِ، وقِيلَ: الرَّطْبُ الحَيُّ واليابِسُ المَيِّتُ
ورَوى الإمامِيَّةُ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: الوَرَقَةُ السِّقْطُ والحَبَّةُ الوَلَدُ وظُلُماتُ الأرْضِ والرُّطَبُ ما يَحْيى واليابِسُ ما يَغِيضُ، وأنا أجِلُّ أبا عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عَنِ التَّفَوُّهِ بِهَذا التَّفْسِيرِ إذْ هو خِلافُ الظّاهِرِ جَدًّا، ومِثْلُهُ في عَدَمِ التَّبادُرِ ما أخْرَجَهُ أبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحادَةَ أنَّهُ قالَ: إنَّ لِلَّهِ تَعالى شَجَرَةً تَحْتَ العَرْشِ لَيْسَ مَخْلُوقٌ إلّا لَهُ فِيها ورَقَةٌ فَإذا سَقَطَتْ ورَقَتُهُ خَرَجَتْ رُوحُهُ مِن جَسَدِهِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وما تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ﴾ ثُمَّ إنَّ تَفْسِيرَ الكِتابِ بِاللَّوْحِ هو الَّذِي مَشى عَلَيْهِ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ مِنهُمُ الزَّجّاجُ فَقَدْ قالَ: إنَّهُ تَعالى أثْبَتَ المَعْلُوماتِ في كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿إلا في كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها﴾، وفي رِوايَةٍ لِمُسْلِمٍ «إنَّ اللَّهَ تَعالى كَتَبَ مَقادِيرَ الخُلُقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماءَ والأرْضَ بِخَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ»، وفائِدَةُ ذَلِكَ أُمُورٌ: أحَدُها اعْتِبارُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مُوافِقاتُ المُحْدَثاتِ لِلْمَعْلُوماتِ الإلَهِيَّةِ، وثانِيهُما وعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الحَسَنُ تَنْبِيهَ المُكَلَّفِينَ عَلى عَدَمِ إهْمالِ أحْوالِهِمُ المُشْتَمِلَةِ عَلى الثَّوابِ والعِقابِ حَيْثُ ذَكَرَ أنَّ الوَرَقَةَ والحَبَّةَ في الكِتابِ، وثالِثُها عَدَمُ تَغْيِيرِ المَوْجُوداتِ عَنِ التَّرْتِيبِ السّابِقِ في الكِتابِ، ولِذا جاءَ جَفَّ القَلَمُ بِما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وهَذا الكِتابُ يُسَمّى اللَّوْحَ المَحْفُوظَ لِحِفْظِهِ عَنِ التَّحْرِيفِ ووُصُولِ الشَّياطِينِ إلَيْهِ أوْ مِنَ المَحْوِ والإثْباتِ بِناءً عَلى أنَّهُما إنَّما يَكُونانِ في صُحُفِ المَلائِكَةِ دُونَهُ، والبَلْخِيُّ اخْتارَ (p-173)أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ أنَّهُ مَحْفُوظٌ غَيْرُ مَنسِيٍّ ولا مَغْفُولٍ عَنْهُ كَما يَقُولُ القائِلُ لِغَيْرِهِ: ما تَصْنَعُهُ مَسْطُورٌ مَكْتُوبٌ عِنْدِي فَإنَّهُ إنَّما يُرِيدُ أنَّهُ حافِظٌ لَهُ يُرِيدُ مُكافَأتَهُ عَلَيْهِ وأنْشُدُ لِذَلِكَ:
؎إنَّ لِسَلْمى عِنْدَنا دِيوانًا
وذَكَرَ الإمامُ هَهُنا ما سَمّاهُ دَقِيقَةً، وهو أنَّ القَضايا العَقْلِيَّةَ المَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ العِلْمِ عَلى سَبِيلِ التَّمامِ والكَمالِ إلّا لِلْعُقَلاءِ الكامِلِينَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا الإعْراضَ عَنْ قَضايا الحِسِّ والخَيالِ وألِفُوا اسْتِحْضارَ المَعْقُولاتِ المُجَرَّدَةِ وهم كالكِبْرِيتِ الأحْمَرِ ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ مِن تِلْكَ القَضايا وحَيْثُ أُرِيدَ إيصالُها إلى كُلِّ عَقْلٍ لِأنَّ القُرْآنَ إنَّما نَزَلَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ جَمِيعُ الخَلْقِ، ذَكَرَ مِثالًا مِنَ الأُمُورِ المَحْسُوسَةِ الدّاخِلَةِ تَحْتَ تِلْكَ القَضِيَّةِ العَقْلِيَّةِ الكُلِّيَّةِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ المَعْقُولِ بِمُعاوَنَةِ هَذا المِثالِ المَحْسُوسِ مَفْهُومًا لِكُلِّ واحِدٍ فَذَكَرَ ﴿ويَعْلَمُ ما في البَرِّ والبَحْرِ﴾ لِيَكْشِفَ بِهِ عَنْ حَقِيقَةِ عِظَةِ المَعْقُولِ وقِدَمِ ذِكْرِ البَرِّ لِأنَّ الإنْسانَ قَدْ شاهَدَ أحْوالَهُ وكَثْرَةَ ما فِيهِ
وأمّا البَحْرُ فَإحاطَةُ العَقْلِ بِأحْوالِهِ أقَلُّ إلّا أنَّ الحِسَّ يَدُلُّ عَلى أنَّ عَجائِبَ البِحارِ في الجُمْلَةِ أكْثَرُ وطُولَها وعَرْضَها أعْظَمُ وما فِيها مِنَ الحَيْواناتِ وأجْناسِ المَخْلُوقاتِ أعْجَبُ فَإذا اسْتَحْضَرَ الخَيالُ مَعْلُوماتِ البَرِّ والبَحْرِ وعَرَفَ أنَّ مَجْمُوعَها حَقِيرٌ جَنْبِ ما دَخَلَ في دائِرَةِ عُمُومٍ، ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ يَصِيرُ ذَلِكَ مُقَوِّيًا ومُكَمِّلًا لِلْعَظَمَةِ الحاصِلَةِ تَحْتَ ذَلِكَ ثُمَّ كَشَفَ سُبْحانَهُ عَنْ عَظَمَةِ البَرِّ والبَحْرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وما تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلا يَعْلَمُها﴾ وذَلِكَ لِأنَّ العَقْلَ يَسْتَحْضِرُ جَمِيعَ ما في الأرْضِ مِنَ المُدُنِ والقُرى والمَفاوِزِ والمَهالِكِ، ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ كَمْ فِيها مِنَ النَّجْمِ والشَّجَرِ ثُمَّ يَسْتَحْضِرُ أنَّهُ لا يَتَغَيَّرُ حالُ ورَقَةٍ إلّا والحَقُّ يَعْلَمُها ثُمَّ ذَكَرَ مِثالًا أشَدَّ هَيْبَةً وهو ﴿ولا حَبَّةٍ﴾ إلَخْ
وذَلِكَ لِأنَّ الحَبَّةَ تَكُونُ في غايَةِ الصِّغَرِ، وظُلُماتُ الأرْضِ يَخْفى فِيها أكْبَرُ الأجْسامِ وأعْظَمُها فَإذا سَمِعَ العاقِلُ أنَّ تِلْكَ الحَبَّةَ الصَّغِيرَةَ المُلْقاةَ في ظُلُماتِ الأرْضِ عَلى اتِّساعِها وعَظَمَتِها لا تَخْرُجُ مَن عِلْمِهِ سُبْحانَهُ انْتَبَهَ غايَةَ الِانْتِباهِ وفازَ مِن مَجْمُوعِ ذَلِكَ بِالحَظِّ الأوْفَرِ مِنَ المَعْنى المُشارِ إلَيْهِ في صَدْرِ الآيَةِ، ثُمَّ أنَّهُ تَعالى لَمّا قَوِيَ ذَلِكَ المَعْقُولُ المَحْضُ المُجَرَّدُ بِذِكْرِ هَذِهِ الجُزْئِيّاتِ المَحْسُوسَةِ عادَ إلى ذِكْرِ تِلْكَ القَضِيَّةِ بِعِبارَةٍ أُخْرى وهي قَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ: ﴿ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إلا في كِتابٍ﴾ فَإنَّهُ عَيَّنَ ما تَقَدَّمَ وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى أحَدِ الوُجُوهِ في الآيَةِ فَلا تُغْفَلُ، وفِيها دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى عالِمٌ بِالجُزْئِيّاتِ
ونُسِبَتِ المُخالَفَةُ فِيهِ لِلْفَلاسِفَةِ، والحَقُّ أنَّهم لا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وإنَّما يُنْكِرُونَ عِلْمَهُ سُبْحانَهُ بِها بِوَجْهٍ جُزْئِيٍّ، وهو بَحْثٌ طَوِيلُ الذَّيْلِ وكَذا بَحْثُ عِلْمِهِ تَعالى مِن حَيْثُ هو وقَدْ أُلِّفَتْ فِيهِ الرَّسائِلُ وصارَ مُعْتَرَكَ أفْهامِ الأواخِرِ والأوائِلِ، وسُبْحانَ مَن لا يَقْدُرُ قَدْرَهُ غَيْرُهُ
{"ayah":"۞ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَیۡبِ لَا یَعۡلَمُهَاۤ إِلَّا هُوَۚ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا یَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةࣲ فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبࣲ وَلَا یَابِسٍ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق