الباحث القرآني

﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ﴾ هُمُ الكُفّارُ الَّذِينَ حُكِيَتْ أحْوالُهم لَكِنَّ وضْعَ المَوْصُولِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلْإيذانِ بِتَسَبُّبِ خُسْرانِهِمْ عَمّا في حَيِّزِ الصِّلَةِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِلِقاءِ اللَّهِ تَعالى والِاسْتِمْرارِ عَلَيْهِ، والمُرادُ بِهِ لِقاءُ ما وعَدَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وصَرَّحَ بَعْضُهم بِتَقْدِيرِ المُضافِ أيْ لِقاءُ جَزاءٍ بِاللَّهِ تَعالى، وصَرَّحَ آخَرُونَ بِأنَّ لِقاءَ اللَّهِ تَعالى اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ عَنِ البَعْثِ وما يَتْبَعُهُ ﴿حَتّى إذا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ﴾ أيِ الوَقْتُ المَخْصُوصُ وهو يَوْمُ القِيامَةِ وأصِلُ السّاعَةِ القِطْعَةُ مِنَ الزَّمانِ، وغَلَبَتْ عَلى الوَقْتِ المَعْلُومِ كالنَّجْمِ لِلثُّرَيّا، وسُمِّيَ ساعَةً لِقِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِما بَعْدَهُ مِنَ الخُلُودِ أوْ بِسُرْعَةِ الحِسابِ فِيهِ عَلى البارِّي عَزَّ اسْمُهُ، وفَسَّرَها بَعْضُهم هُنا بِوَقْتِ المَوْتِ، والغايَةُ المَذْكُورَةُ لِلتَّكْذِيبِ وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ غايَةً لِلْخُسْرانِ لَكِنْ بِالمَعْنى المُتَعارَفِ، والكَلامُ حِينَئِذٍ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: (p-132)﴿وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلى يَوْمِ الدِّينِ﴾ أيْ إنَّكَ مَذْمُومٌ مَدْعُوٌّ عَلَيْكَ بِاللَّعْنَةِ إلى ذَلِكَ اليَوْمِ فَإذا جاءَ اليَوْمُ لَقِيتَ ما تَنْسى اللَّعْنَ مَعَهُ فَكَأنَّهُ قِيلَ: خَسِرَ المُكَذِّبُونَ إلى يَوْمِ قِيامِ السّاعَةِ بِأنْواعِ المِحَنِ والبَلاءِ فَإذا قامَتِ السّاعَةُ يَقَعُونَ فِيما يَنْسَوْنَ مَعَهُ هَذا الخُسْرانَ، وذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ ﴿بَغْتَةً﴾ أيْ فَجْأةً وبَغْتَةً بِالتَّحْرِيكِ مِثْلُها، وبَغَتَهُ كَمَنَعَهُ فَجْأةً أيْ هَجَمَ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ شُعُورِ، وانْتِصابُها عَلى أنَّها مَصْدَرٌ واقِعٌ مَوْقِعَ الحالِ مِن فاعِلِ (جاءَتْهُمْ) أيْ مُباغَتَةً أوْ مِن مَفْعُولِهِ أيْ مَبْغُوتِينَ وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مَنصُوبَةً عَلى أنَّها مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لَـ (جاءَتْهُمْ) عَلى حَدِّ رَجَعَ القَهْقَرى أوْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مِنَ اللَّفْظِ أوْ مِن غَيْرِهِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿قالُوا﴾ جَوابُ إذا ﴿يا حَسْرَتَنا﴾ نِداءٌ لِلْحَسْرَةِ وهي شِدَّةُ النَّدَمِ كَأنَّهُ قِيلَ: يا حَسْرَتَنا تَعالىْ فَهَذا أوانُكِ، قِيلَ: وهَذا التَّحَسُّرُ وإنْ كانَ يَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ المَوْتِ لَكِنْ لَمّا كانَ المَوْتُ مِن مُقَدِّماتِ الآخِرَةِ جُعِلَ مِن جِنْسِ السّاعَةِ، وسُمِّيَ بِاسْمِها ولِذا قالَ ﷺ: «مَن ماتَ فَقَدْ قامَتْ قِيامَتُهُ» أوْ جَعَلَ مَجِيءَ السّاعَةِ بَعْدَ المَوْتِ لِسُرْعَتِهِ كالواقِعِ بِغَيْرِ فَتْرَةٍ، وقالَ أبُو البَقاءِ: التَّقْدِيرُ يا حَسْرَةُ احْضُرِي هَذا أوانُكِ، وهو نِداءٌ مَجازِيٌّ ومَعْناهُ تَنْبِيهُ أنْفُسِهِمْ لِتَذْكِيرِ أسْبابِ الحَسْرَةِ لِأنَّ الحَسْرَةَ نَفْسَها لا تُطْلَبُ ولا يَتَأتّى إقْبالُها، وإنَّما المَعْنى عَلى المُبالَغَةِ في ذَلِكَ حَتّى كَأنَّهم ذُهِلُوا فَنادَوْها، ومِثْلُ ذَلِكَ نِداءُ الوَيْلِ ونَحْوِهِ ولا يَخْفى حُسْنُهُ ﴿عَلى ما فَرَّطْنا﴾ أيْ عَلى تَفْرِيطِنا فَـ (ما) مَصْدَرِيَّةٌ فالتَّفْرِيطُ التَّقْصِيرُ فِيما قُدِرَ عَلى فِعْلِهِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ مَعْناهُ التَّضْيِيعُ، وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: مَعْناهُ السَّبْقُ ومِنهُ الفارِطُ لِلسّابِقِ، ومَعْنى فَرَّطَ خَلا السَّبْقَ لِغَيْرِهِ فالتَّضْعِيفُ فِيهِ لِلسَّلْبِ كَجَلَّدْتُ البَعِيرَ أزَلْتُ جِلْدَهُ وسَلَبْتُهُ، (فِيها) أيِ الحَياةِ الدُّنْيا كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أوْ في السّاعَةِ كَما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، والمُرادُ مِنَ التَّفْرِيطِ في السّاعَةِ التَّقْصِيرُ في مُراعاةِ حَقِّها والِاسْتِعْدادِ لَها بِالإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْجَنَّةِ أيْ عَلى ما فَرَّطْنا في طَلَبِها، ونُسِبَ إلى السُّدِّيِّ ولا يَخْفى بُعْدُهُ، وقَوْلُ الطَّبَرْسِيِّ ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رَواهُ الأعْمَشُ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ”«يَرى أهْلُ النّارِ مَنازِلَهم مِنَ الجَنَّةِ فَيَقُولُونَ يا حَسْرَتَنا» إلَخْ، لا يَخْلُو مَن نَظَرٍ لِقِيامِ الِاحْتِمالِ بَعْدُ وهو يُبْطِلُ الِاسْتِدْلالَ، وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ أنَّ الهاءَ يَعُودُ إلى الصِّفَةِ لِدَلالَةِ الخُسْرانِ عَلَيْها وهو بَعِيدٌ أيْضًا، ومِثْلُ ذَلِكَ ما قِيلَ: إنَّ (ما) مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى (الَّتِي)، والمُرادُ بِها الأعْمالُ، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلَيْها كَأنَّهُ قِيلَ: يا حَسْرَتَنا عَلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ الَّتِي قَصَّرْنا فِيها، نَعَمْ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ عَلى هَذا مَذْكُورٌ في كَلامِهِمْ دُونَهُ عَلى الأقْوالِ السّابِقَةِ فَإنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيهِ بَلْ ولا في كَلامِهِ تَعالى في قَصِّ حالِ هَؤُلاءِ القائِلِينَ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ عِنْدَ بَعْضٍ فَتَدَبَّرْ، ﴿وهم يَحْمِلُونَ أوْزارَهم عَلى ظُهُورِهِمْ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن فاعِلِ (قالُوا) وهي حالٌ مُقارَنَةٌ أوْ مُقَدَّرَةٌ، والوِزْرُ في الأصْلِ الثِّقْلُ ويُقالُ: الذَّنْبُ وهو المُرادُ هُنا أيْ يَحْمِلُونَ ذُنُوبَهم وخَطاياهم كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وذَكَرَ الظُّهُورَ لِأنَّ المُعْتادَ الأغْلَبَ الحِمْلُ عَلَيْها كَما في ﴿كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ فَإنَّ الكَسْبَ في الأكْثَرِ بِالأيْدِي، وفي ذَلِكَ أيْضًا إشارَةٌ إلى مَزِيدِ ثِقَلِ المَحْمُولِ وجَعَلَ الذُّنُوبَ والآثامَ مَحْمُولَةً عَلى الظَّهْرِ مِن بابِ الِاسْتِعارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، والمُرادُ بَيانُ سُوءِ حالِهِمْ وشَدَّةِ ما يَجِدُونَهُ مِنَ المَشَقَّةِ والآلامِ والعُقُوباتِ العَظِيمَةِ بِسَبَبِ الذُّنُوبِ، وقِيلَ: حَمْلُها عَلى الظَّهْرِ حَقِيقَةٌ وإنَّها تُجَسَّمُ فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ قالَ: لَيْسَ مِن رَجُلٍ ظالِمٍ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ قَبْرَهُ إلّا جاءَهُ رَجُلٌ قَبِيحُ الوَجْهِ أسْوَدُ اللَّوْنِ مُنْتِنُ الرِّيحِ عَلَيْهِ ثِيابٌ (p-133)دَنِسَةٌ حَتّى يَدْخُلَ مَعَهُ قَبْرَهُ فَإذا رَآهُ قالَ ما أقْبَحَ وجْهَكَ قالَ كَذَلِكَ كانَ عَمَلُكَ قَبِيحًا، قالَ: ما أنْتَنَ رِيحَكَ، قالَ: كَذَلِكَ كانَ عَمَلُكَ مُنْتِنًا، قالَ: ما أدْنَسَ ثِيابَكَ فَيَقُولُ: إنَّ عَمَلَكَ كانَ دَنِسًا قالَ: مَن أنْتَ، قالَ: أنا عَمَلُكَ فَيَكُونُ مَعَهُ في قَبْرِهِ فَإذا بُعِثَ يَوْمَ القِيامَةِ قالَ لَهُ: إنِّي كُنْتُ أحْمِلُكَ في الدُّنْيا بِاللَّذّاتِ والشَّهَواتِ فَأنْتَ اليَوْمَ تَحْمِلُنِي فَيَرْكَبُ عَلى ظَهْرِهِ فَيَسُوقُهُ حَتّى يَدْخُلَهُ النّارَ، وأخْرَجا عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ قالَ: إنَّ المُؤْمِنَ إذا خَرَجَ مِن قَبْرِهِ اسْتَقْبَلَهُ عَمَلُهُ في أحْسَنِ شَيْءٍ صُورَةً وأطْيَبِهِ رِيحًا فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي فَيَقُولُ: لا إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ وحَسَّنَ صُورَتَكَ فَيَقُولُ: كَذَلِكَ كُنْتَ في الدُّنْيا أنا عَمَلُكَ الصّالِحُ طالَما رَكِبْتُكَ في الدُّنْيا فارْكَبْنِي أنْتَ اليَوْمَ وتَلا ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إلى الرَّحْمَنِ وفْدًا﴾، وإنْ كانَ الكافِرَ يَسْتَقْبِلُهُ أقْبَحَ شَيْءٍ صُورَةً وأنْتَنُهُ رِيحًا فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُنِي فَيَقُولُ: لا إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ قَبَّحَ صُورَتَكَ ونَتَّنَ رِيحَكَ فَيَقُولُ: كَذَلِكَ كُنْتَ في الدُّنْيا أنا عَمَلُكَ السَّيِّئُ طالَما رَكِبْتِنِي في الدُّنْيا فَأنا اليَوْمَ أرْكَبُكَ وتَلا ﴿وهم يَحْمِلُونَ﴾ الآيَةَ وبَعْضُهم يَجْعَلُ كُلَّ ما ورَدَ في هَذا البابِ مِمّا ذُكِرَ تَمْثِيلًا أيْضًا، ولا مانِعَ مِنَ الحَمْلِ عَلى الحَقِيقَةِ وإجْراءِ الكَلامِ عَلى ظاهِرِهِ، وقَدْ قالَ كَثِيرٌ مِن أهْلِ السُّنَّةِ بِتَجْسِيمِ الأعْمالِ في تِلْكَ الدّارِ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الوَزْنِ ألّا ساءَ ما يَزْرُونَ 13 - تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَهُ وتَكْمِلَةٌ لَهُ، و(ساءَ) تَحْتَمِلُ كَما قِيلَ هُنا ثَلاثَةَ أوْجُهٍ أحَدُها أنْ تَكُونَ المُتَعَدِّيَةَ المُتَصَرِّفَةَ وزْنُها فَعَلُ بِفَتْحِ العَيْنِ، والمَعْنى ألا ساءَ ما يَزِرُونَ و(ما) مَوْصُولَةٌ أوْ مَصْدَرِيَّةٌ أوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ فاعِلٌ لَها والكَلامُ خَبَرٌ، وثانِيهُما أنَّها حُوِّلَتْ إلى فِعْلِ اللّازِمِ بِضَمِّ العَيْنِ وأُشْرِبَتْ مَعْنى التَّعَجُّبِ، والمَعْنى ما أسْوَأ الَّذِي يَزِرُونَهُ أوْ ما أسْوَأ وِزْرَهُمْ، وثالِثُها أنَّها حُوِّلَتْ أيْضًا لِلْمُبالَغَةِ في الذَّمِّ فَتُساوِي“بِئْسَ" في المَعْنى والإحْكامِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب