﴿ومِنهم مَن يَسْتَمِعُ إلَيْكَ﴾ كَلامٌ مَسُوقٌ لِحِكايَةِ ما صَدَرَ في الدُّنْيا عَنْ بَعْضِ المُشْرِكِينَ مِن أحْكامِ الكُفْرِ ثُمَّ بَيانِ ما سَيَصْدُرُ عَنْهم يَوْمَ الحَشْرِ تَقْرِيرًا لِما قَبْلَهُ وتَحْقِيقًا لِمَضْمُونِهِ، وضَمِيرُ (مِنهُمْ) لِلَّذِينِ أشْرَكُوا، والِاسْتِماعُ بِمَعْنى الإصْغاءُ وهو لازِمٌ يُعَدّى بِاللّامِ وإلى ما صَرَّحَ بِهِ أهْلُ اللُّغَةِ، وقِيلَ: إنَّهُ مُضَمَّنٌ مَعْنى الإصْغاءِ ومَفْعُولُهُ مُقَدَّرٌ وهو القُرْآنُ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما في رِوايَةِ أبِي صالِحٍ: «إنَّ أبا سُفْيانَ بْنَ حَرْبٍ والوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ والنَّضْرَ بْنَ الحَرْثِ وعُتْبَةَ وشَيْبَةَ ابْنا رَبِيعَةَ وأُمَيَّةَ وأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ اسْتَمَعُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (p-125)وهُوَ يَقْرَأُ القُرْآنَ فَقالُوا لِلنَّضِرِ: يا أبا قُتَيْلَةَ ما يَقُولُ مُحَمَّدٌ فَقالَ: والَّذِي جَعَلَها بَيْتَهُ ما أدْرِي ما يَقُولُ إلّا أنِّي أرى تَحَرُّكَ شَفَتَيْهِ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ فَما يَقُولُ إلّا أساطِيرَ الأوَّلِينَ مِثْلَ ما كُنْتُ أُحَدِّثُكم عَنِ القُرُونِ الماضِيَةِ، وكانَ النَّضْرُ كَثِيرَ الحَدِيثِ عَنِ القُرُونِ الأُولى، وكانَ يُحَدِّثُ قُرَيْشًا فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ»
وأفْرَدَ ضَمِيرَ (مَن) في يَسْتَمِعُ وجَمَعَهُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً﴾ نَظَرًا إلى لَفْظِهِ ومَعْناهُ، وعَنِ الكَرْخِيِّ إنَّما قِيلَ: هُنا يَسْتَمِعُ وفي يُونُسَ يَسْتَمِعُونَ لِأنَّ ما هُنا في قَوْمِ قَلِيلِينَ فَنَزَلُوا مَنزِلَةَ الواحِدِ، وما هُناكَ في جَمْعِ الكُفّارِ فَناسَبَ الجَمْعَ، وإنَّما لَمْ يَجْمَعْ ثَمَّ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ومِنهم مَن يَنْظُرُ إلَيْكَ﴾ لِأنَّ المُرادَ النَّظَرُ المُسْتَتْبِعُ لِمُعايَنَةِ أدِلَّةِ الصِّدْقِ وأعْلامِ النُّبُوَّةِ، والنّاظِرُونَ كَذَلِكَ أقَلُّ مِنَ المُسْتَمِعِينَ لِلْقُرْآنِ، والجَعْلُ بِمَعْنى الإنْشاءِ والأكِنَّةُ جَمْعُ كِنانٍ كَغِطاءٍ وأغْطِيَةٍ لَفْظًا ومَعْنى لِأنَّ فَعالًا بِفَتْحِ الفاءِ وكَسْرِها يُجْمَعُ في القِلَّةِ عَلى أفْعِلَةٍ كَأحْمِرَةٍ وأقْذِلَةٍ، وفي الكَثْرَةِ عَلى فُعْلٍ كَحُمْرٍ إلّا أنْ يَكُونَ مُضاعَفًا أوْ مُعْتَلَّ اللّامِ فَيَلْزَمُ جَمْعُهُ عَلى أفْعِلَةٍ كَأكِنَّةٍ وأخْبِيَةٍ إلّا نادِرًا، وفِعْلُ الكَنِّ ثَلاثِيٌّ ومَزِيدٌ يُقالُ: كَنَّهُ وأكَنَّهُ كَما قالَ الطَّبَرْسِيُّ وغَيْرُهُ، وفَرَّقَ بَيْنَهُما الرّاغِبُ فَقالَ: أكْنَنْتُ يُسْتَعْمَلُ لِما يُسْتَرُ في النَّفْسِ، والثُّلاثِيُّ لِغَيْرِهِ والتَّنْوِينُ لِلتَّفْخِيمِ والواوُ لِلْعَطْفِ والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ قَبْلَها عَطْفَ الفِعْلِيَّةِ عَلى الِاسْمِيَّةِ، وقِيلَ: الواوُ لِلْحالِ أيْ وقَدْ جَعَلْنا، و﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ قَبْلَهُ
وزَعَمَ أبُو حَيّانَ أنَّهُ إنْ كانَ بِمَعْنى ألْقى فالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وإنْ كانَ بِمَعْنى صَيَّرَ فَمُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ إذْ هو في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي، والمَعْنى عَلى ما ذَكَرْنا: وأنْشَأْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أغْطِيَةً كَثِيرَةً لا يُقادَرُ قَدْرُها ﴿أنْ يَفْقَهُوهُ﴾ أيْ كَراهَةَ أنْ يَفْهَمُوا ما يَسْتَمِعُونَهُ مِنَ القُرْآنِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الِاسْتِماعِ فالكَلامُ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، ومِنهم مَن قَدَّرَ (لا) دُونُهُ أيْ أنْ لا يَفْقَهُوهُ، وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ في أمْثالِهِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ لِما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً﴾ أيْ مَنَعْناهم أنْ يَفْقَهُوهُ أوْ لِما دَلَّ عَلَيْهِ (أكِنَّةً) وحْدَهُ مِن ذَلِكَ، ﴿وفِي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ أيْ صَمَمًا وثِقَلًا في السَّمْعِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِماعِهِ عَلى ما هو حَقُّهُ، والكَلامُ عِنْدَ غَيْرِ واحِدٍ تَمْثِيلٌ مُعْرِبٌ عَنْ كَمالِ جَهْلِهِمْ بِشُئُونِ النَّبِيِّ ﷺ وفَرْطِ نَبْوِ قُلُوبِهِمْ عَنْ فَهْمِ القُرْآنِ الكَرِيمِ ومَجِّ أسْماعِهِمْ أصَمَّها اللَّهُ تَعالى، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ هُناكَ اسْتِعارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ أوْ مُكَنِّيَةٌ أوْ مُشاكَلَةٌ وقَدْ مَرَّ لَكَ في البَقَرَةِ ما يَنْفَعُكَ هُنا فَتَذَكَّرْهُ
وقَرَأ طَلْحَةُ (وِقْرًا) بِالكَسْرِ وهو عَلى ما نَصَّ عَلَيْهِ الزَّجّاجُ حِمْلُ البَغْلِ ونَحْوُهُ، ونَصْبُهُ عَلى القِراءَتَيْنِ بِالعَطْفِ عَلى أكِنَّةٍ كَما قالَ أبُو البَقاءِ، ﴿وإنْ يَرَوْا﴾ أيْ يُشاهِدُوا ويُبْصِرُوا كُلَّ آية أيْ مُعْجِزَةً دالَّةً عَلى صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ عَلى ما نُقِلَ عَنِ الزَّجّاجِ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما كانْشِقاقِ القَمَرِ ونَبْعِ الماءِ بَيْنَ أصابِعِهِ الشَّرِيفَةِ وتَكْثِيرِ القَلِيلِ مِنَ الطَّعامِ وما أشْبَهَ ذَلِكَ ﴿لا يُؤْمِنُوا بِها﴾ لِفَرْطِ عِنادِهِمْ واسْتِحْكامِ التَّقْلِيدِ فِيهِمْ، والكَلامُ مِن بابِ عُمُومِ النَّفْيِ كَكُلِّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لا مِن بابِ نَفْيِ العُمُومِ
والمُرادُ ذَمُّهم بِعَدَمِ الِانْتِفاعِ بِحاسَّةِ البَصَرِ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ سُبْحانَهُ عَدَمَ انْتِفاعِهِمْ بِعُقُولِهِمْ وأسْماعِهِمْ، ونُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ لا بُدَّ مِن تَخْصِيصِ الآيَةِ بِغَيْرِ المُلْجِئَةِ دَفْعًا لِلْمُخالَفَةِ بَيْنَ هَذا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أعْناقُهم لَها خاضِعِينَ﴾ واكْتَفى بَعْضُهم بِحَمْلِ الإيمانِ عَلى الإيمانِ بِالِاخْتِيارِ وفَرَّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ خُضُوعِ الأعْناقِ فَلْيُفْهَمْ، وخَصَّ شَيْخُ الإسْلامِ الآيَةَ بِما كانَ مِنَ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ أيْ وإنْ يَرَوْا (p-126)شَيْئًا مِن ذَلِكَ بِأنْ يُشاهِدُوهُ بِسَماعِهِ لا يُؤْمِنُوا بِهِ، ولَعَلَّ ما قَدَّمْناهُ أحْلى لَدى الذَّوْقِ السَّلِيمِ
﴿حَتّى إذا جاءُوكَ يُجادِلُونَكَ﴾ أيْ يُخاصِمُونَكَ ويُنازِعُونَكَ و (حَتّى) هي الَّتِي تَقَعُ بَعْدَها الجُمَلُ ويُقالُ لَها: حَتّى الِابْتِدائِيَّةُ ولا مَحَلَّ لِلْجُمْلَةِ الواقِعَةِ بَعْدَها خِلافًا لِلزُّجاجِ وابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ زَعْمًا أنَّها في مَحَلِّ جَرٍّ بِحَتّى، ويَرُدُّهُ أنَّ حُرُوفَ الجَرِّ لا تُعَلَّقُ عَنِ العَمَلِ إنَّما تَدْخُلُ عَلى المُفْرَدِ أوْ ما في تَأْوِيلِهِ، والجُمْلَةُ هُنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا جاءُوكَ﴾ مَعَ جَوابِ الشَّرْطِ أعْنِي قَوْلَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وما بَيْنَهُما حالٌ مِن فاعِلِ جاءُوا، وإنَّما وُضِعَ المَوْصُولُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ذَمًّا لَهم بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ وإشْعارٍ بِعِلَّةِ الحُكْمِ، و(إذا) مَنصُوبَةُ المَحَلِّ عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِالشَّرْطِ أوِ الجَوابِ عَلى الخِلافِ الشَّهِيرِ في ذَلِكَ واعْتُرِضَ بِأنَّ جَعْلَ (يُجادِلُونَكَ) في مَوْضِعِ الحالِ (ويَقُولُ الَّذِينَ) جَوابًا مُفْضٍ إلى جَعْلِ الكَلامِ لَغْوًا لِأنَّ المُجادَلَةَ نَفْسُ هَذا القَوْلِ إلّا أنْ تُؤَوَّلَ المُجادِلَةُ بِقَصْدِها
ولا يَخْفى ما فِيهِ فَإنَّ المُجادَلَةَ مُطْلَقُ المُنازَعَةِ وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِما فِيها مِنَ الشِّدَّةِ أوْ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المُتَجادِلَيْنِ يُرِيدُ أنْ يُلْقِيَ صاحِبَهُ عَلى الجَدالَةِ أيِ الأرْضِ، والقَوْلُ المَذْكُورُ فَرْدٌ مِنها فالكَلامُ مُفِيدٌ أبْلَغَ فائِدَةً كَقَوْلِكَ: إذا أهانَكَ زَيْدٌ شَتَمَكَ، وذَكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أنَّ (حَتّى) إذا وقَعَ بَعْدَها (إذا) يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الفاءِ وأنْ تَكُونَ بِمَعْنى (إلى) والغايَةُ مُعْتَبَرَةٌ في الوَجْهَيْنِ أيْ بَلَغُوا مِنَ التَّكْذِيبِ والمُكابَرَةِ إلى أنَّهم إذا جاءُوكَ مُجادِلِينَ لَكَ لا يَكْتَفُونَ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الإيمانِ بَلْ يَقُولُونَ (إنْ هَذا) أيْ ما هَذا ﴿إلا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾
52
- أيْ أحادِيثُهُمُ المَسْطُورَةُ الَّتِي لا يُعَوَّلُ عَلَيْها، وقالَ قَتادَةُ: كَذِبُهم وباطِلُهُمْ
وحاصِلُ ما ذُكِرَ أنَّ تَكْذِيبَهم بَلَغَ النِّهايَةَ بِما ذُكِرَ لِأنَّهُ الفَرْدُ الكامِلُ، ونَظِيرُ ذَلِكَ ماتَ النّاسُ حَتّى الأنْبِياءِ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ (حَتّى) هي الجارَّةَ، ﴿وإذا جاءُوكَ﴾: في مَوْضِعِ الجَرِّ وهو قَوْلُ الأخْفَشِ وتَبِعَهُ ابْنُ مالِكٍ في التَّسْهِيلِ، ورَدَّهُ أبُو حَيّانَ في شَرْحِهِ وعَلَيْهِ فَـ (إذا) خارِجَةٌ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ كَما صَرَّحُوا بِهِ وعَنِ الشَّرْطِيَّةِ أيْضًا فَلا جَوابَ لَها فَيَقُولُ حِينَئِذٍ: تَفْسِيرٌ (لَيُجادِلُونَكَ) وهو في مَوْضِعِ الحالِ أيْضًا. والأساطِيرُ عِنْدَ الأخْفَشِ جَمْعٌ لا مُفْرَدَ لَهُ كَأبابِيلَ ومَذاكِيرَ، وقالَ بَعْضُهم: لَهُ مُفْرَدٌ. وفي القامُوسِ إنَّهُ جَمْعُ إسْطارٍ وإسْطِيرٍ بِكَسْرِهِما وأُسْطُورٍ وبِالهاءِ في الكُلِّ، وقِيلَ: جَمْعُ أسْطارٍ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ جَمْعُ سَطْرٍ بِفَتْحَتَيْنِ كَسَبَبٍ وأسْبابٍ فَهو جَمْعُ جَمْعٍ وأصْلُ السَّطْرَ بِمَعْنى الخَطِّ
{"ayah":"وَمِنۡهُم مَّن یَسۡتَمِعُ إِلَیۡكَۖ وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن یَفۡقَهُوهُ وَفِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرࣰاۚ وَإِن یَرَوۡا۟ كُلَّ ءَایَةࣲ لَّا یُؤۡمِنُوا۟ بِهَاۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُوكَ یُجَـٰدِلُونَكَ یَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّاۤ أَسَـٰطِیرُ ٱلۡأَوَّلِینَ"}