الباحث القرآني

﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ أيْ بِبَلِيَّةٍ كَمَرَضٍ وحاجَةٍ ﴿فَلا كاشِفَ﴾ أيْ لا مُزِيلَ ولا مُفْرِّجَ (لَهُ) عَنْكَ ﴿إلا هُوَ﴾ والمُرادُ لا قادِرَ عَلى كَشْفِهِ سِواهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مِنَ الأصْنامِ وغَيْرِها ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ مِن صِحَّةٍ وغِنًى ﴿فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ 71 - ومِن جُمْلَتِهِ ذَلِكَ فَيَقْدِرُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَيْهِ فَيُمْسِكُ بِهِ ويَحْفَظُهُ عَلَيْكَ (p-113)مِن غَيْرِ أنْ يَقْدِرَ عَلى دَفْعِهِ ورَفْعِهِ أحَدٌ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ﴾ ويَظْهَرُ مِن هَذا ارْتِباطُ الجَزاءِ بِالشَّرْطِ وقِيلَ: إنَّ الجَوابَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَلا رادَّ لَهُ غَيْرُهُ تَعالى، والمَذْكُورُ تَأْكِيدٌ لِلْجَوابَيْنِ لِأنَّ قُدْرَتَهُ تَعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ تُؤَكِّدُ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى كاشِفُ الضُّرِّ وحافِظُ النِّعَمِ ومُدِيمُها، وزَعْمُ أنَّهُ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالجَوابِ الأوَّلِ بَلْ هو عِلَّةُ الجَوابِ الثّانِي ظاهِرُ البُطْلانِ إذِ القُدْرَةُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ تُؤَكِّدُ كَشْفَ الضُّرِّ بِلا شُبْهَةٍ وإنْكارُ ذَلِكَ مُكابَرَةٌ، وأصِلُ المَسِّ -كَما قالَ أبُو حَيّانَ- تَلاقِي الجِسْمَيْنِ، والمُرادُ بِهِ هُنا الإصابَةُ. وجَعَلَ غَيْرُ واحِدٍ الباءَ في (بِضُرٍّ) وفي (بِخَيْرٍ) لِلتَّعْدِيَةِ وإنْ كانَ الفِعْلُ مُتَعَدِّيًا كَأنَّهُ قِيلَ: (وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ الضُّرَّ) وفَسَّرُوا الضُّرَّ بِالضَّمِّ بِسُوءِ الحالِ في الجِسْمِ، وغَيْرَهُ بِالفَتْحِ بِضِدِّ النَّفْعِ، وعَدَلَ عَنِ الشَّرِّ المُقابِلِ لِلْخَيْرِ إلى الضُّرِّ -عَلى ما في البَحْرِ- لِأنَّ الشَّرَّ أعَمُّ فَأُتِيَ بِلَفْظِ الأخَصِّ مَعَ الخَيْرِ الَّذِي هو عامٌّ رِعايَةً لِجِهَةِ الرَّحْمَةِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّ مُقابَلَةَ الخَيْرِ بِالضُّرِّ مَعَ أنَّ مُقابِلَهُ الشَّرُّ وهو أخَصُّ مِنهُ مِن خَفْيِّ الفَصاحَةِ لِلْعُدُولِ عَنْ قانُونِ الضَّعَةِ وطَرْحِ رِداءِ التَّكَلُّفِ وهو أنْ يُقْرَنَ بِأخَصَّ مِن ضِدِّهِ ونَحْوِهِ لِكَوْنِهِ أوْفَقَ بِالمَعْنى وألْصَقَ بِالمَقامِ كَقَوْلِهِ تَعالى:﴿إنَّ لَكَ ألا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى﴾ ﴿وأنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيها ولا تَضْحى﴾ فَجِيءَ بِالجُوعِ مَعَ العُرْيِ وبِالظَّمَإ مَعَ الضَّحْوِ وكانَ الظّاهِرُ خِلافَهُ. ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎كَأنِّي لَمْ أرْكَبْ جَوادًا لِلَذَّةٍ ولَمْ أتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخالٍ ؎ولَمْ أسْبَإ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ∗∗∗ ولَمْ أقُلْ لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إجْفالِ وإيضاحُهُ أنَّهُ في الآيَةِ قَرَنَ الجُوعَ الَّذِي هو خُلُوُّ الباطِنِ بِالعُرْيِ الَّذِي هو خُلُوُّ الظّاهِرِ، والظَّمَأ الَّذِي فِيهِ حَرارَةُ الباطِنِ بِالضُّحى الَّذِي فِيهِ حَرارَةُ الظّاهِرِ. وكَذَلِكَ قَرَنَ امْرُؤُ القَيْسِ عُلُوَّهُ عَلى الجَوادِ بِعُلُوِّهِ عَلى الكاعِبِ لِأنَّهُما لَذَّتانِ في الِاسْتِعْلاءِ، وبَذْلَ المالِ في شِراءِ الرّاحِ بِبَذْلِ الأنْفُسِ في الكِفاحِ لِأنَّ في الأوَّلِ سُرُورَ الطَّرَبِ وفي الثّانِي سُرُورَ الظَّفَرِ. وكَذا هُنا أُوثِرَ الضُّرُّ لِمُناسَبَتِهِ ما قَبْلَهُ مِنَ التَّرْهِيبِ فَإنَّ انْتِقامَ العَظِيمِ عَظِيمٌ. ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ الإحْسانَ أتى بِما يَعُمُّ أنْواعَهُ، والآيَةُ مِن قَبِيلِ اللَّفِّ والنَّشْرِ فَإنَّ مَسَّ الضُّرِّ ناظِرٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنِّي أخافُ﴾ إلَخْ ومَسَّ الخَيْرِ ناظِرٌ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿مَن يُصْرَفْ عَنْهُ﴾ إلَخْ. وهي عَلى ما قِيلَ داخِلَةٌ في حَيِّزِ (قُلْ) والخِطابُ عامُّ لِكُلِّ مَن يَقِفُ عَلَيْهِ أوْ لِسَيِّدِ المُخاطَبِينَ ﷺ، ولا نافِيَةٌ لِلْجِنْسِ، و(كاشِفَ) اسْمُها، و(لَهُ) خَبَرُها والضَّمِيرُ المُنْفَصِلِ بَدَلٌ مِن مَوْضِعِ (لا كاشِفَ) أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في الظَّرْفِ، ولا يَجُوزُ -عَلى ما قالَ أبُو البَقاءِ- أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِكاشِفٍ ولا بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِيهِ لِأنَّكَ في الحالَيْنِ تُعْمِلُ اسْمَ لا ومَتى أعْمَلْتَهُ في ظاهِرٍ نَوَّنْتَهُ. وفي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ رَدٌّ عَلى مَن رَجا كَشْفَ الضُّرِّ مِن غَيْرِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وأمَّلَ أحَدًا سِواهُ وفِي فُتُوحِ الغَيْبِ لِلْقُطْبِ الرَّبّانِيِّ سَيِّدِي عَبْدِ القادِرِ الجِيلانِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى سِرَّهُ مِن كَلامٍ طَوِيلٍ: إنَّ مَن أرادَ السَّلامَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ فَعَلَيْهِ بِالصَّبْرِ، والرِّضا، وتَرْكِ الشَّكْوى إلى خَلْقِهِ، وإنْزالِ حَوائِجِهِ بِرَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ، ولُزُومِ طاعَتِهِ، وانْتِظارِ الفَرَجِ مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، والِانْقِطاعِ إلَيْهِ؛ فَحِرْمانُهُ عَطاءٌ، وعُقُوبَتُهُ نَعْماءٌ، وبَلاؤُهُ دَواءٌ، ووَعْدُهُ حالٌّ، وقَوْلُهُ فِعْلٌ، وكُلُّ أفْعالِهِ حَسَنَةٌ وحِكْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ غَيْرَ أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ طَوى عِلْمَ المَصالِحِ عَنْ عِبادِهِ وتَفَرَّدَ بِهِ فَلَيْسَ إلّا الِاشْتِغالَ بِالعُبُودِيَّةِ مِن أداءِ الأوامِرِ، واجْتِنابِ النَّواهِي، والتَّسْلِيمِ في القَدَرِ، وتَرْكِ الِاشْتِغالَ (p-114)بِالرُّبُوبِيَّةِ، والسُّكُونِ عَنْ لِمَ وكَيْفَ ومَتى؟ وتَسْتَنِدُ هَذِهِ الجُمْلَةُ إلى حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: «بَيْنَما أنا رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ قالَ: يا غُلامُ احْفَظِ اللَّهَ تَعالى يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَعالى تَجِدْهُ أمامَكَ وإذا سَألْتَ فاسْألِ اللَّهَ وإذا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ بِاللَّهِ جَفَّ القَلَمُ بِما هو كائِنٌ ولَوْ جَهَدَ العِبادُ أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقَضِهِ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ولَوْ جَهِدُوا أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقَضِهِ اللَّهُ تَعالى عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ فَإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ تَعالى بِالصِّدْقِ في اليَقِينِ فاعْمَلْ فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإنَّ في الصَّبْرِ عَلى ما تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا واعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ وأنْ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا» فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أنْ يَجْعَلَ هَذا الحَدِيثَ مِرْآةَ قَلْبِهِ وشِعارَهُ ودِثارَهُ وحَدِيثَهُ فَيَعْمَلُ بِهِ مِن جِهَةِ حَرَكاتِهِ وسَكَناتِهِ حَتّى يَسْلَمَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ويَجِدَ العِزَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب