الباحث القرآني

﴿قُلْ فَلِلَّهِ﴾ خاصَّةً ﴿الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ أيِ البَيِّنَةُ الواضِحَةُ الَّتِي بَلَغَتْ غايَةَ المَتانَةِ والقُوَّةِ عَلى الإثْباتِ أوْ بَلَغَ بِها صاحِبُها صِحَّةَ دَعَواهُ كَعِيشَةٍ راضِيَةٍ والمُرادُ بِها في المَشْهُورِ الكِتابُ والرَّسُولُ والبَيانُ وقالَ شَيْخُ مَشايِخِنا الكُورانِيُّ: ﴿الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ العِلْمَ تابِعٌ لِلْمَعْلُومِ وأنَّ إرادَةَ اللَّهِ تَعالى مُتَعَلِّقَةٌ بِإظْهارِ ما اقْتَضاهُ اسْتِعْدادُ المَعْلُومِ في نَفْسِهِ مُراعاةً لِلْحِكْمَةِ جُودًا ورَحْمَةً لا وُجُوبًا وهي مِنَ الحَجِّ بِمَعْنى القَصْدِ كَأنَّها يُقْصَدُ بِها إثْباتُ الحُكْمِ وتَطَلُّبُهُ أوْ بِمَعْنى الغَلَبَةِ وهو المَشْهُورُ والفاءُ جَوابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أيْ إذا ظَهَرَ أنْ لا حُجَّةَ لَكم قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ ﴿فَلَوْ شاءَ﴾ هِدايَتَكم جَمِيعًا ﴿لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ (149) بِالتَّوْفِيقِ لَها والحَمْلِ عَلَيْها ولَكِنْ شاءَ هِدايَةَ البَعْضِ الصّارِفِينَ اخْتِيارَهم إلى سُلُوكِ طَرِيقِ الحَقِّ وضَلالَ آخَرِينَ صَرَفُوهُ إلى خِلافِ ذَلِكَ. وقالَ الكُورانِيُّ: المُرادُ لَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ إذْ لَمْ يَعْلَمْ أنَّ لَكم هِدايَةً يَقْتَضِيها اسْتِعْدادُكم بَلِ المَعْلُومُ لَهُ عَدَمُ هِدايَتِكم وهو مُقْتَضى اسْتِعْدادِكُمُ الأزَلِيِّ الغَيْرِ المَجْعُولِ وهَذا تَحْقِيقٌ لِلْحَقِّ ولا يُنافِي ما في صَدْرِ الآيَةِ لِما عَلِمْتَ مِن مُرادِهِمْ بِهِ وفائِدَةُ إرْسالِ الرُّسُلِ عَلى القَوْلِ بِالِاسْتِعْدادِ تَحْرِيكُ الدَّواعِيَ لِلْفِعْلِ والتَّرْكُ بِاخْتِيارِ المُكَلَّفِ النّاشِئِ مِن ذَلِكَ الِاسْتِعْدادِ وقَطْعُ اعْتِذارِ الظّالِمِينَ وقَدْ أشَرْنا إلى ذَلِكَ مِن قَبْلُ فَتَذَكَّرْ وذَكَرَ ابْنُ المُنِيرِ وجْهًا آخَرَ في تَوْجِيهِ ما في الآيَةِ وهو أنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِمُ إنَّما كانَ لِاعْتِقادِهِمْ أنَّهم مَسْلُوبُونَ اخْتِيارَهم وقُدْرَتَهم وأنَّ إشْراكَهم إنَّما صَدَرَ مِنهم عَلى وجْهِ الِاضْطِرارِ وزَعَمُوا أنَّهم يُقِيمُونَ الحُجَّةَ عَلى اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِذَلِكَ فَرَدَّ اللَّهُ تَعالى قَوْلَهم في دَعْواهم عَدَمَ الِاخْتِيارِ لِأنْفُسِهِمْ وشُبْهَتُهم بِمَنِ اغْتَرَّ قَبْلَهم بِهَذا (p-52)الخَيالِ فَكَذَّبَ الرُّسُلَ وأشْرَكَ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ واعْتَمَدَ عَلى أنَّهُ إنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى ورامَ إفْحامَ الرُّسُلِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهم لا حُجَّةَ لَهم في ذَلِكَ وأنَّ الحُجَّةَ البالِغَةَ لَهُ جَلَّ وعَلا لا لَهم ثُمَّ أوْضَحَ سُبْحانَهُ أنَّ كُلَّ واقِعٍ واقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ وأنَّهُ لَمْ يَشَأْ مِنهُمُ إلّا ما صَدَرَ عَنْهم وأنَّهُ تَعالى لَوْ شاءَ مِنهُمُ الهِدايَةَ لاهْتَدَوْا أجْمَعُونَ. والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ أنْ يَتَمَحَّضَ وجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ ويَتَخَلَّصَ عَقِيدَةُ نُفُوذِ المَشِيئَةِ وعُمُومُ تَعَلُّقِها بِكُلِّ كائِنٍ عَنِ الرَّدِّ ويَنْصَرِفَ الرَّدُّ إلى دَعْواهم سَلْبَ الِاخْتِيارِ لِأنْفُسِهِمْ وأنَّ إقامَتَهُمُ الحُجَّةَ بِذَلِكَ خاصَّةٌ وإذا تَدَبَّرْتَ الآيَةَ وجَدْتَ صَدْرَها دافِعًا بِصُدُورِ الجَبْرِيَّةِ وعَجْزَها مُعْجِزًا لِلْمُعْتَزِلَةِ إذِ الأوَّلُ مُثْبِتٌ أنَّ لِلْعَبْدِ اخْتِيارًا وقُدْرَةً عَلى وجْهٍ يَقْطَعُ حُجَّتَهُ وعُذْرَهُ في المُخالَفَةِ والعِصْيانِ والثّانِي مُثْبِتٌ نُفُوذَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى في العَبْدِ وأنَّ جَمِيعَ أفْعالِهِ عَلى وفْقِ المَشِيئَةِ الإلَهِيَّةِ وبِذَلِكَ تَقُومُ الحُجَّةُ البالِغَةُ لِأهْلِ السُّنَّةِ عَلى المُعْتَزِلَةِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ. ووَجَّهَ القُطْبُ الآيَةَ بِأنَّ مُرادَهم رَدُّ دَعْوَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلى مَعْنى أنَّ اللَّهَ تَعالى شاءَ شِرْكَنا وأرادَهُ مِنّا وأنْتُمْ تُخالِفُونَ إرادَتَهُ حَيْثُ تَدْعُونا إلى الإيمانِ فَوَبَّخَهم سُبْحانَهُ بِوُجُوهٍ عَدَّ مِنها قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ فَإنَّهُ بِتَقْدِيرِ الشَّرْطِ أيْ إذا كانَ الأمْرُ كَما زَعَمْتُمْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَلَوْ شاءَ﴾ .. إلَخْ. بَدَلٌ مِنهُ عَلى سَبِيلِ البَيانِ أيْ لَوْ شاءَ لَدَلَّ كُلًّا مِنكم ومِن مُخالِفِيكم عَلى دِينِهِ فَلَوْ كانَ الأمْرُ كَما تَزْعُمُونَ لَكانَ الإسْلامُ أيْضًا بِالمَشِيئَةِ فَيَجِبُ أنْ لا تَمْنَعُوا المُسْلِمِينَ مِنَ الإسْلامِ كَما وجَبَ بِزَعْمِكم أنْ لا يَمْنَعَكُمُ الأنْبِياءُ عَنِ الشِّرْكِ فَيَلْزَمَكم أنْ لا يَكُونَ بَيْنَكم وبَيْنَ المُسْلِمِينَ مُخالَفَةٌ ومُعاداةٌ بَلْ مُوافَقَةٌ ومُوالاةٌ ثُمَّ قالَ: ورُبَّما يُوَجَّهُ هَذا الِاحْتِجاجُ بِأنَّ ما خالَفَ مَذْهَبَكم مِنَ النِّحَلِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ عِنْدَكم حَقًّا لِأنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى فَيَلْزَمُ تَصْحِيحُ الأدْيانِ المُتَناقِضَةِ وفِيهِ مَنعٌ لِأنَّ الصِّحَّةَ إنَّما تَكُونُ بِالجَرَيانِ عَلى مَنهَجِ الشَّرْعِ ولا يَلْزَمُ مِن تَعْلِيقِ مَشِيئَتِهِ تَعالى بِشَيْءٍ جَرَيانُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ولا يَخْفى أنَّ التَّوْجِيهَ الأوَّلَ كَهَذا التَّوْجِيهِ لا يَخْلُو عَنْ دَغْدَغَةٍ فَتَدَبَّرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب