الباحث القرآني

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ حِكايَةٌ لِفَنٍّ آخَرَ مِن أباطِيلِهِمْ والإخْبارُ قَبْلَ وُقُوعِهِ ثُمَّ وُقُوعُهُ حَسْبَما أُخْبِرُكُما يَحْكِيهِ قَوْلُهُ تَعالى عِنْدَ وُقُوعِهِ: ﴿وقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ صَرِيحٌ في أنَّهُ مِن (p-50)عِنْدِ اللَّهِ تَعالى وقَدْ نَصَّ غَيْرُ واحِدٍ عَلى أنَّ وُقُوعَ ما أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ مِنَ المُغَيَّباتِ مِن وُجُوهِ الإعْجازِ لِكَلامِهِ وإنْ لَمْ يَكُنِ الإعْجازُ بِهِ فَقَطْ كَما في قَوْلٍ مُضَعَّفٍ لَوْ شاءَ اللَّهُ عَدَمَ إشْراكِنا وعَدَمَ تَحْرِيمِنا شَيْئًا ﴿ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ﴾ لَمْ يُرِيدُوا بِهَذا الكَلامِ الِاعْتِذارَ عَنِ ارْتِكابِ القَبِيحِ إذْ لَمْ يَعْتَقِدُوا قُبْحَ أفْعالِهِمْ وهي أفْعى لَهم بَلْ هم كَما نَطَقَتْ بِهِ الآياتُ ﴿يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ وأنَّهم إنَّما يَعْبُدُونَ الأصْنامَ لِيُقَرِّبُوهم إلى اللَّهِ زُلْفى وأنَّ التَّحْرِيمَ إنَّما كانَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَما مُرادُهم بِذَلِكَ إلّا الِاحْتِجاجُ عَلى أنَّ ما ارْتَكَبُوهُ حَقٌّ ومَشْرُوعٌ ومَرَضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى بِناءً عَلى أنَّ المَشِيئَةَ والإرادَةَ تُساوِقُ الأمْرَ وتَسْتَلْزِمُ الرِّضا كَما زَعَمَتِ المُعْتَزِلَةُ فَيَكُونُ حاصِلُ كَلامِهِمْ إنَّ ما نَرْتَكِبُهُ مِنَ الشِّرْكِ والتَّحْرِيمِ وغَيْرِهِما تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعالى وإرادَتُهُ وكُلُّ ما تَعَلَّقَ بِهِ مَشِيئَتُهُ سُبْحانَهُ وإرادَتُهُ فَهو مَشْرُوعٌ ومَرَضِيٌّ عِنْدَهُ عَزَّ وجَلَّ فَيَنْتِجُ أنَّ ما نَرْتَكِبُهُ مِنَ الشِّرْكِ والتَّحْرِيمِ مَشْرُوعٌ ومَرَضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وبَعْدَ أنْ حَكى سُبْحانَهُ ذَلِكَ عَنْهم رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِن قائِلٍ ﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ مِثْلُ ما كَذَبَ هَؤُلاءِ ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ وهم أسْلافُهُمُ المُشْرِكُونَ وحاصِلُهُ أنَّ كَلامَهم يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وقَدْ دَلَّتِ المُعْجِزَةُ عَلى صِدْقِهِمْ ولا يَخْفى أنَّ المُقَدِّمَةَ الأُولى لا تَكْذِيبَ فِيها نَفْسُها بَلْ هي مُتَضَمِّنَةٌ لِتَصْدِيقِ ما تَطابَقَ فِيهِ العَقْلُ والشَّرْعُ مِن كَوْنِ كُلِّ كائِنٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى وامْتِناعِ أنْ يَجْرِيَ في مُلْكِهِ خِلافُ ما يَشاءُ فَمَنشَأُ التَّكْذِيبِ هو المُقَدِّمَةُ الثّانِيَةُ لِأنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ يَدْعُونَهم إلى التَّوْحِيدِ ويَقُولُونَ لَهم: إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ دِينًا ولا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ فَيَكُونُ قَوْلُهم: إنَّ ما نَرْتَكِبُهُ مَشْرُوعٌ ومَرَضِيٌّ عِنْدَهُ تَعالى تَكْذِيبٌ لِهَذا القَوْلِ وحَيْثُ كانَ فَسادُ هَذِهِ الحُجَّةِ بِاعْتِبارِ المُقَدِّمَةِ الثّانِيَةِ تَعَيَّنَ أنَّها لَيْسَتْ بِصادِقَةٍ وحِينَئِذٍ يَصْدُقُ نَقِيضُها وهي أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ ما تَعَلَّقَتْ بِهِ المَشِيئَةُ والإرادَةُ بِمَشْرُوعِ ومَرَضِيٍّ عِنْدَهُ سُبْحانَهُ بِناءً عَلى أنَّ الإرادَةَ لا تُساوِقُ الأمْرَ والرِّضا عَلى ما هو مَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ إذِ المَشِيئَةُ تُرَجِّحُ بَعْضَ المُمَكِناتِ عَلى بَعْضٍ مَأْمُورًا كانَ أوْ مَنهِيًّا حَسَنًا كانَ أوْ قَبِيحًا وعَلى هَذا فَلا حُجَّةَ في الآيَةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ بَلْ قَدِ انْقَلَبَ الأمْرُ فَصارَتِ الآيَةُ حُجَّةً لَنا عَلَيْهِمْ لِأنَّهم لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ المَأْمُورِ والمُرادِ واعْتَقَدُوا كالمُشْرِكِينَ بِأنَّ كُلَّ مُرادٍ مَأْمُورٌ ومَرَضِيٌّ ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يُقالَ مَقْصُودُ المُشْرِكِينَ مِن قَوْلِهِمْ ذَلِكَ رَدُّ دَعْوَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ورَفْعُ البَعْثَةِ والتَّكْلِيفِ وهو المَذْكُورُ في كَثِيرٍ مِنَ الكُتُبِ الكَلامِيَّةِ وحاصِلُهُ حِينَئِذٍ أنَّ ما شاءَ اللَّهُ تَعالى يَجِبُ وما لَمْ يَشَأْ يَمْتَنِعُ وكُلُّ ما هَذا شَأْنُهُ فَلا يُكَلَّفُ بِهِ لِكَوْنِهِ مَشْرُوطًا بِالِاسْتِطاعَةِ فَيَنْتُجُ أنَّ ما نَرْتَكِبُهُ مِنَ الشِّرْكِ وغَيْرِهِ لَمْ نُكَلَّفْ بِتَرْكِهِ ولَمْ يُبْعَثْ لَهُ نَبِيٌّ فَرَدَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بِأنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ صِدْقٍ أُرِيدَ بِها باطِلٌ لِأنَّهم أرادُوا بِها أنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في دَعْواهُمُ البَعْثَةَ والتَّكْلِيفَ كاذِبُونَ وقَدْ ثَبَتَ صِدْقُهم بِالدَّلائِلِ القَطْعِيَّةِ ولِكَوْنِ ذَلِكَ صِدْقًا أُرِيدَ بِهِ باطِلٌ ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعالى بِالتَّكْذِيبِ ووُجُوبُ وُقُوعِ مُتَعَلِّقٍ بِالمَشِيئَةِ لا يُنافِي صِدْقَ دَعْوى البَعْثَةِ والتَّكْلِيفِ لِأنَّهُما لِإظْهارِ المَحَجَّةِ وإبْلاغِ الحُجَّةِ وسَيَأْتِي تَوْجِيهٌ آخَرُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى قَرِيبًا لِلْآيَةِ. وعُطِفَ ﴿آباؤُنا﴾ عَلى الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ في ﴿أشْرَكْنا﴾ وساغَ ذَلِكَ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ وإنْ لَمْ يُؤَكَّدِ الضَّمِيرُ لِأنَّهُ يَكْفِي عِنْدَهم أيُّ فاصِلٍ كانَ وقَدْ فُصِلَ بِلا ها هُنا والكُوفِيُّونَ لا يَشْتَرِطُونَ في ذَلِكَ شَيْئًا ويَسْتَدِلُّونَ بِما هُنا ولا يَعْتَبِرُونَ هَذا الفَصْلَ لِأنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَتَقَدَّمَ حَرْفُ العَطْفِ لِيَدْفَعَ الهُجْنَةَ ولا يَكْفِيَ عِنْدَهُمُ الفَصْلُ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وتَوَقَّفَ أبُو عَلِيٍّ في كِفايَةِ الفَصْلِ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وإنْ لَمْ يَفْصِلْ (p-51)حَرْفُ العَطْفِ وادَّعى الإمامُ أنَّ في الكَلامِ تَقْدِيرًا لِأنَّ النَّفْيَ لا يُصْرَفُ إلى ذَواتِ الآباءِ بَلْ يَجِبُ صَرْفُهُ إلى فِعْلٍ صَدَرَ مِنهم وذَلِكَ هو الإشْراكُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ ما أشْرَكْنا ولا أشْرَكَ آباؤُنا وحِينَئِذٍ فَلا إشْكالَ. ﴿حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا﴾ أيْ نالُوا عَذابَنا الَّذِي أنْزَلْناهُ عَلَيْهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ وفِيهِ عَلى ما قِيلَ إيماءٌ إلى أنَّ لَهم عَذابًا مُدَّخَرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ الذَّوْقَ أوَّلُ إدْراكِ الشَّيْءِ. ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ﴾ أيْ مِن أمْرٍ مَعْلُومٍ يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ بِهِ عَلى زَعْمِكم ﴿فَتُخْرِجُوهُ﴾ أيْ فَتُظْهِرُوهُ ﴿لَنا﴾ عَلى أتَمِّ وجْهٍ وأوْضَحِ بَيانٍ وقِيلَ: المُرادُ هَلْ لَكم مِنَ اعْتِقادٍ ثابِتٍ مُطابِقٍ فِيما ادَّعَيْتُمْ أنَّ الإشْراكَ وسائِرَ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مَرْضِيٌّ لِلَّهِ تَعالى فَتُظْهِرُوهُ لَنا بِالبُرْهانِ وجَعَلَ إمامُ الحَرَمَيْنِ في الإرْشادِ هَذا وما بَعْدَهُ دَلِيلًا عَلى أنَّ المُشْرِكِينَ إنَّما اسْتَوْجَبُوا التَّوْبِيخَ عَلى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ لِأنَّهم كانُوا يَهْزَؤُنَ بِالدِّينِ ويَبْغُونَ رَدَّ دَعْوَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ حَيْثُ قَرَعَ مَسامِعَهم مِن شَرائِعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ تَفْوِيضُ الأُمُورِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ فَحِينَ طالَبُوهم بِالإسْلامِ والتِزامِ الأحْكامِ احْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِما أخَذُوهُ مِن كَلامِهِمْ مُسْتَهْزِئِينَ بِهِمْ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولَمْ يَكُنْ غَرَضُهم ذِكْرَ ما يَنْطَوِي عَلَيْهِ عَقْدُهم كَيْفَ لا والإيمانُ بِصِفاتِ اللَّهِ تَعالى فَرْعُ الإيمانِ بِهِ عَزَّ شَأْنُهُ وهو عَنْهم مَناطُ العَيُّوقِ. ﴿إنْ تَتَّبِعُونَ﴾ أيْ ما تَتَّبِعُونَ في ذَلِكَ ﴿إلا الظَّنَّ﴾ الباطِلَ الَّذِي لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا أوِ المُرادُ إنَّ عادَتَكم وجُلَّ أمْرِكم أنَّكم لا تَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ ﴿وإنْ أنْتُمْ إلا تَخْرُصُونَ﴾ (148) تَكْذِبُونَ عَلى اللَّهِ تَعالى وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في حُكْمِ اتِّباعِ الظَّنِّ عَلى التَّفْصِيلِ فَتَذْكَّرْ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب