الباحث القرآني

﴿ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى (يُؤْمِنُونَ) داخِلٌ مَعَهُ في حُكْمِ ﴿وما يُشْعِرُكُمْ﴾ مُقَيَّدٌ بِما قُيِّدَ بِهِ أيْ وما يُشْعِرُكم أنّا نُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم عَنْ إدْراكِ الحَقِّ فَلا يُدْرِكُونَهُ وأبْصارَهم عَنِ اجْتِلائِهِ فَلا يُبْصِرُونَهُ. وهَذا -عَلى ما قالَ الإمامُ- تَقْرِيرٌ لِما في الآيَةِ الأُولى مِن أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ. وذَكَرَ شَيْخُ الإسْلامِ أنَّ هَذا التَّقْلِيبَ لَيْسَ مِن تَوَجُّهِ الأفْئِدَةِ والأبْصارِ إلى الحَقِّ واسْتِعْدادِها لَهُ بَلْ لِكَمالِ نُبُوِّها عَنْهُ وإعْراضِها بِالكُلِّيَّةِ؛ ولِذَلِكَ أخَّرَ ذِكْرَهُ عَنْ ذِكْرِ عَدَمِ إيمانِهِمْ إشْعارًا بِأصالَتِهِمْ في الكُفْرِ وحَسْمًا لِتَوَهُّمِ أنَّ عَدَمَ إيمانِهِمْ ناشِئٌ مِن تَقْلِيبِهِ تَعالى مَشاعِرَهم بِطَرِيقِ الإجْبارِ. وتَحْقِيقُهُ عَلى ما ذَكَرَهُ شَيْخُ مَشايِخِنا الكُورانِيُّ أنَّهُ سُبْحانَهُ حَيْثُ عَلِمَ في الأزَلِ سُوءَ اسْتِعْدادِهِمُ المَخْبُوءِ في ماهِيّاتِهِمْ أفاضَ عَلَيْهِمْ ما يَقْتَضِيهِ وفَعَلَ بِهِمْ ما سَألُوهُ بِلِسانِ الِاسْتِعْدادِ بَعْدَ أنْ رَغَّبَهم ورَهَّبَهم وأقامَ الحُجَّةَ وأوْضَحَ المَحَجَّةَ ولِلَّهِ تَعالى الحُجَّةُ البالِغَةُ وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ ﴿كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ﴾ أيْ بِما جاءَ مِنَ الآياتِ بِاللَّهِ تَعالى، وقِيلَ: بِالقُرْآنِ، وقِيلَ: بِمُحَمَّدٍ ﷺ وإنْ لَمْ يَجْرِ لِذَلِكَ ذِكْرٌ، وقِيلَ: بِالتَّقْلِيبِ، وهو كَما تَرى ﴿أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أيْ عِنْدَ وُرُودِ الآياتِ السّابِقَةِ، والكافُ في مَوْضِعِ النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَنصُوبٍ بِـ (لا يُؤْمِنُونَ) . و”ما“ مَصْدَرِيَّةٌ أيْ: لا يُؤْمِنُونَ بَلْ يَكْفُرُونَ كُفْرًا كائِنًا كَكُفْرِهِمْ أوَّلَ مَرَّةٍ. وتَوْسِيطُ تَقْلِيبِ الأفْئِدَةِ والأبْصارِ لِأنَّهُ مِن مُتَمِّماتِ عَدَمِ إيمانِهِمْ. وقالَ أبُو البَقاءِ: أنَّ الكافَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ تَقْلِيبًا كَكُفْرِهِمْ أيْ عُقُوبَةً مُساوِيَةً لِمَعْصِيَتِهِمْ أوَّلَ مَرَّةٍ، ولا يَخْفى ما فِيهِ. والآيَةُ ظاهِرَةٌ في أنَّ الإيمانَ والكُفْرَ بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى وقَدَرِهِ وأجابَ الكَعْبِيُّ عَنْها بِأنَّ المُرادَ مِن ﴿ونُقَلِّبُ﴾ إلَخْ: أنا لا نَفْعَلُ بِهِمْ ما نَفْعَلُهُ بِالمُؤْمِنِينَ مِنَ الفَوائِدِ والألْطافِ مِن حَيْثُ أخْرَجُوا أنْفُسَهم عَنْ هَذا الحَدِّ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ. والقاضِي بِأنَّ المُرادَ: ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم في الآياتِ الَّتِي ظَهَرَتْ فَلا نَجِدُهم يُؤْمِنُونَ بِها آخِرًا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِها أوَّلًا. والجَبائِيُّ بِأنَّ المُرادَ: ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهم في جَهَنَّمَ عَلى لَهَبِ النّارِ وجَمْرِها لِنُعَذِّبَهم كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ في الدُّنْيا. والكُلُّ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ (p-256)يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، وهَكَذا غالِبُ كَلامِ المُعْتَزِلَةِ ﴿ونَذَرُهُمْ﴾ أيْ نَدَعُهم ﴿فِي طُغْيانِهِمْ﴾ أيْ تَجاوُزِهِمُ الحَدَّ في العِصْيانِ ﴿يَعْمَهُونَ﴾ 110 - أيْ يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ وهَذا عَطْفٌ عَلى يُؤْمِنُونَ مُقَيَّدٌ بِما قُيِّدَ بِهِ أيْضًا مُبَيِّنٌ لِما هو المُرادُ بِتَقْلِيبِ الأفْئِدَةِ والأبْصارِ مُعْرِبٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِأنَّهُ لَيْسَ عَلى ظاهِرِهِ. والجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِما عِنْدَهُ. وجُمْلَةُ (يَعْمَهُونَ) في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في (نَذَرُهُمْ) . وقُرِئَ (يُقَلِّبُ. ويَذَرُ) عَلى الغَيْبَةِ والضَّمِيرُ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وقَرَأ الأعْمَشُ (وتُقَلَّبُ) عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ وإسْنادُهُ إلى أفْئِدَتِهِمْ * * * هَذا ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ﴿واجْتَبَيْناهم وهَدَيْناهم إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ قالَ الجُنَيْدُ قُدِّسَ سِرُّهُ: أيْ أخْلَصْناهم وآوَيْناهم لِحَضْرَتِنا ودَلَلْناهم لِلِاكْتِفاءِ بِنا عَمّا سِوانا ﴿ذَلِكَ هُدى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشاءُ مَن عِبادِهِ﴾ وهم أهْلُ السّابِقَةِ الَّذِينَ سَألُوهُ سُبْحانَهُ الهِدايَةَ بِلِسانِ الِاسْتِعْدادِ الأزَلِيِّ ﴿ولَوْ أشْرَكُوا﴾ بِالمَيْلِ إلى السِّوى وهو شِرْكُ الكامِلِينَ؛ كَما أشارَ إلَيْهِ سَيِّدِي عَمْرُ بْنُ الفارِضِ قُدِّسَ سِرُّهُ بِقَوْلِهِ: ولَوْ خَطَرَتْ لِي في سِواكَ إرادَةٌ عَلى خاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتَ بِرِدَّتِي ﴿لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لِعِظَمِ ما أتَوْا بِهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴿فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ﴾ وهُمُ المَحْجُوبُونَ ﴿فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ وهُمُ العارِفُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ الَّذِينَ هم خَزائِنُ حَقائِقِ الإيمانِ وفِي الخَبَرِ «لا يَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتِي قائِمِينَ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى لا يَضُرُّهم مَن خَذَلَهم حَتّى يَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وهم عَلى ذَلِكَ» ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ﴾ وهو آدابُ الشَّرِيعَةِ والطَّرِيقَةِ والحَقِيقَةِ (اقْتَدِهْ) أمْرٌ لَهُ ﷺ أنْ يَتَّصِفَ بِجَمِيعِ ما تَفَرَّقَ فِيهِمْ مِن ذَلِكَ الهُدى وكانَ ذَلِكَ -عَلى ما قِيلَ- في مَنازِلِ الوَسائِطِ، ولَمّا كَحَّلَ عُيُونَ أسْرارِهِ بِكُحْلِ الرُّبُوبِيَّةِ جَعَلَهُ مُسْتَقِلًّا بِذاتِهِ مُسْتَقِيمًا بِحالِهِ وأخْرَجَهُ مِن حَدِّ الإرادَةِ إلى حَدِّ المَعْرِفَةِ والِاسْتِقامَةِ ولِذا أمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِإسْقاطِ الوَسائِطِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ إنَّما أتَّبِعُ ما يُوحى إلَيَّ مِن رَبِّي﴾ مَعَ قَوْلِهِ ﷺ: «لَوْ كانَ مُوسى حَيًّا ما وسِعَهُ إلّا اتِّباعِي» وقالَ بَعْضُ العارِفِينَ: لَيْسَ في هَذا تَوْسِيطُ الوَسائِطِ لِأنَّهُ أمَرَ بِالِاقْتِداءِ بِهُداهم لا بِهِمْ. ونَظِيرُهُ: ﴿أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ سُبْحانَهُ أنِ اتَّبِعْ إبْراهِيمَ ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أيْ ما عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ ﴿إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ لَمْ يُظْهِرْ مِن عَلْمِهِ وكَلامِهِ سُبْحانَهُ عَلى أحَدٍ شَيْئًا؛ وذَلِكَ لِزَعْمِهِمُ البُعْدَ مِن عِبادِهِ جَلَّ شَأْنُهُ وعَدَمَ إمْكانِ ظُهُورِ بَعْضِ صِفاتِهِ عَلى مَظْهَرٍ بَشَرِيٍّ، ولَوْ عَرَفُوا لَما أنْكَرُوا ولا اعْتَقَدُوا أنَّهُ لا مُظْهِرَ لِكَمالِ عَلْمِهِ وحِكْمَتِهِ إلّا الإنْسانُ الكامِلُ بَلْ لَوِ ارْتَفَعَ الحَوَلُ عَنِ العَيْنِ لَما رَأوُا الواحِدَ اثْنَيْنِ ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ﴾ لِما فِيهِ مِن أسْرارِ القُرْبِ والوِصالِ والتَّشْوِيقِ إلى الحُسْنِ والجَمالِ بَلْ مِنهُ تَجَلّى الحَقُّ لِخَلْقِهِ لَوْ يَعْلَمُونَ ﴿مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ لِجَمْعِهِ الظّاهِرَ والباطِنَ عَلى أتَمِّ وجْهٍ ﴿ولِتُنْذِرَ أُمَّ القُرى﴾ وهي القَلْبُ ﴿ومَن حَوْلَها﴾ مِنَ القُوى ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ كَمَنِ ادَّعى الكَمالَ والوُصُولَ إلى التَّوْحِيدِ والخَلاصِ عَنْ كَثْرَةِ صِفاتِ النَّفْسِ وزَعَمَ أنَّهُ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وأنَّهُ مِن أهْلِ الإرْشادِ وهو لَيْسَ كَذَلِكَ ﴿أوْ قالَ أُوحِيَ إلَيَّ ولَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ﴾ كَمَن سَمّى مُفْتَرِياتِ وهْمِهِ وخَيالِهِ ومُخْتَرَعاتِ عَقْلِهِ وفِكْرِهِ وحْيًا وفَيْضًا مِنَ الرُّوحِ القُدْسِيِّ فَتَنَبَّأ لِذَلِكَ، أو ﴿قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ كَمَن تَفَرْعَنَ وادَّعى الأُلُوهِيَّةَ ﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ﴾ وهم هَؤُلاءِ الأصْنافُ الثَّلاثَةُ ﴿فِي غَمَراتِ المَوْتِ﴾ الطَّبِيعِيِّ ﴿والمَلائِكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ﴾ بِقَبْضِ أرْواحِهِمْ (p-257)كالمُتَقاضِي المُلِظِّ يَقُولُونَ ﴿أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ﴾ تَغْلِيظًا وتَعْنِيفًا عَلَيْهِمْ ﴿اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ﴾ والصَّغارِ لِوُجُودِ صِفاتِ نُفُوسِكم وهَيْآتِها المُظْلِمَةِ وتَكاثُفِ حُجُبِ أنانِيَّتِكم وتَفَرْعُنِكم ﴿ولَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى﴾ أيْ مُنْفَرِدِينَ مُجَرَّدِينَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِالِاسْتِغْراقِ في عَيْنِ جَمْعِ الذّاتِ ﴿كَما خَلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ عِنْدَ أخْذِ المِيثاقِ ﴿إنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ﴾ أيْ حَبَّةِ القَلْبِ بِنُورِ الرُّوحِ عَنِ العُلُومِ والمَعارِفِ ﴿والنَّوى﴾ أيْ نَوى النَّفْسِ بِنُورِ القَلْبِ عَنِ الأخْلاقِ والمَكارِمِ أوْ فالِقُ حَبَّةِ المَحَبَّةِ الأزَلِيَّةِ في قُلُوبِ المُحِبِّينَ والصِّدِّيقِينَ، ونَوى شَجَرِ أنْوارِ الأزَلِ في فُؤادِ العارِفِينَ فَتُثْمِرُ بِالأعْمالِ الزَّكِيَّةِ والمَقاماتِ الشَّرِيفَةِ والحالاتِ الرَّفِيعَةِ ﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ﴾ أيِ العالِمَ بِهِ مِنَ الجاهِلِ ﴿ومُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ﴾ أيِ الجاهِلَ مِنَ العالِمِ، أوْ يَخْرُجُ حَيَّ القَلْبِ عَنْ مَيِّتِ النَّفْسِ تارَةً بِاسْتِيلاءِ نُورِ الرُّوحِ عَلَيْها ومُخْرِجُ مَيِّتَ النَّفْسِ عَنْ حَيِّ القَلْبِ أُخْرى بِإقْبالِهِ عَلَيْها واسْتِيلاءِ الهَوى وصِفاتِ النَّفْسِ عَلَيْهِ ﴿فالِقُ الإصْباحِ﴾ أيْ مُظْهِرُ أنْوارِ صِفاتِهِ عَلى صَفَحاتِ آفاقِ مَخْلُوقاتِهِ أوْ شاقُّ ظُلْمَةِ الإصْباحِ بِنُورِ الإصْباحُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ بَحْرَ العَدَمِ كانَ مَمْلُوءًا مِنَ الظُّلْمَةِ فَشَقَّهُ بِأنْ أجْرى فِيهِ جَدْوَلًا مِن نُورِهِ حَتّى بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبى. وقالَ الإمامُ: فالِقُ ظُلْمَةِ العَدَمِ بِصَباحِ التَّكْوِينِ والإيجادِ، وفالِقُ ظُلْمَةِ الجَمادِيَّةِ بِصَباحِ الحَياةِ والعَقْلِ والرَّشادِ، وفالِقُ ظُلْمَةِ الجَهالَةِ بِصَباحِ الِادِّراكِ، وفالِقُ ظُلْمَةِ العالَمِ الجُسْمانِيِّ بِتَخْلِيصِ النَّفْسِ القُدْسِيَّةِ إلى فُسْحَةِ عالَمِ الأفْلاكِ، وفالِقُ ظُلْمَةِ الِاشْتِغالِ بِعالَمِ المُمَكِناتِ بِصَباحِ نُورِ الِاسْتِغْراقِ في مَعْرِفَةِ مُدَبِّرِ المُحْدَثاتِ والمُبْدَعاتِ. وقالَ بَعْضُ العارِفِينَ: المَعْنى فالِقُ ظُلْمَةِ صِفاتِ النَّفْسِ عَنِ القَلْبِ بِإصْباحِ نُورِ شَمْسِ الرُّوحِ وإشْراقِهِ عَلَيْها، ﴿وجَعَلَ اللَّيْلَ﴾ أيْ لَيْلَ الحَيْرَةِ في الذّاتِ البَحْتِ ﴿سَكَنًا﴾ تَسْكُنُ إلَيْهِ أرْواحُ العاشِقِينَ كَما قالَ قائِلُهم: ؎زِدْنِي بِفَرْطِ الحُبِّ فِيكَ تَحَيُّرًا وارْحَمْ حَشًا بِلَظى هَواكَ تَسَعَّرا أوْ جاعِلُ ظُلْمَةِ النَّفْسِ سَكَنَ القَلْبِ يَسْكُنُ إلَيْها أحْيانًا لِلِارْتِفاقِ والِاسْتِرْواحِ أوْ سَكَنًا تَسْكُنُ فِيهِ القُوى البَدَنِيَّةُ وتَسْتَقِرُّ عَنِ الِاضْطِرابِ كَما قِيلَ ﴿والشَّمْسَ﴾ أيْ شَمْسَ تَجَلِّي الصِّفاتِ ﴿والقَمَرَ﴾ أيْ قَمَرَ تَجْلِّي الأفْعالِ ﴿حُسْبانًا﴾ أيْ عَلى حِسابِ الأحْوالِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ بِهِما أوْ شَمْسَ الرُّوحِ وقَمَرَ القَلْبِ مَحْسُوبَيْنِ في عِدادِ المَوْجُوداتِ الباقِيَةِ الشَّرِيفَةِ مُعْتَدًّا بِهِما أوْ عَلى حِسابِ الأوْقاتِ والأحْوالِ ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ﴾ أيِ المُرْشِدِينَ أوْ نُجُومَ الحَواسِّ ﴿لِتَهْتَدُوا بِها في ظُلُماتِ البَرِّ﴾ وهو عِلْمُ الآدابِ ﴿والبَحْرِ﴾ وهو عِلْمُ الحَقائِقِ أوِ المَعْنى لِتَهْتَدُوا بِها في ظُلُماتِ بَرِّ الأجْسادِ إلى مَصالِحِ المَعاشِ وبَحْرِ العُلُومِ بِاكْتِسابِها بِها ﴿وهُوَ الَّذِي أنْشَأكُمْ﴾ أيْ أظْهَرَكم ﴿مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ وهي النَّفْسُ الكُلِّيَّةُ ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ في أرْضِ البَدَنِ حالَ الظُّهُورِ ﴿ومُسْتَوْدَعٌ﴾ في عَيْنِ جَمْعِ الذّاتِ ﴿وهُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ أيْ مِن سَماءِ الرُّوحِ ماءَ العِلْمِ ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أيْ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الأخْلاقِ والفَضائِلِ ﴿فَأخْرَجْنا مِنهُ﴾ أيِ النَّباتِ ﴿خَضِرًا﴾ زِينَةَ النَّفْسِ وبَهْجَةً لَها ﴿نُخْرِجُ مِنهُ﴾ أيِ الخَضِرِ ﴿حَبًّا مُتَراكِبًا﴾ أيْ أعْمالًا مُتَرَتِّبَةً شَرِيفَةً ونِيّاتٍ صادِقَةً يَتَقَوّى القَلْبُ بِها ﴿ومِنَ النَّخْلِ﴾ أيْ نَخْلِ العَقْلِ ﴿مِن طَلْعِها﴾ أيْ مِن ظُهُورِ تَعَلُّقِها ﴿قِنْوانٌ﴾ مَعارِفُ وحَقائِقُ ﴿دانِيَةٌ﴾ قَرِيبَةُ التَّناوُلِ لِظُهُورِها بِنُورِ الرُّوحِ كَأنَّها بَدِيهِيَّةٌ ﴿وجَنّاتٍ مِن أعْنابٍ﴾ وهي أعْنابُ الأحْوالِ والأذْواقِ، ومِنها تُعْتَصِرُ سُلافَةُ المَحَبَّةِ وفي سَكْرَةٍ مِنها ولَوْ عُمْرَ ساعَةٍ تَرى الدَّهْرَ عَبْدًا طائِعًا ولَكَ الحُكْمُ ﴿والزَّيْتُونَ﴾ أيْ زَيْتُونَ التَّفَكُّرِ ﴿والرُّمّانَ﴾ أيْ رُمّانَ الهِمَمِ الشَّرِيفَةِ والعَزائِمِ النَّفْسِيَّةِ ﴿مُشْتَبِهًا﴾ كَما في أفْرادِ نَوْعٍ واحِدٍ ﴿وغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾ كَنَوْعَيْنِ وفَرْدَيْنِ مِنهُما مَثَلًا ﴿انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ﴾ أيْ راعُوهُ بِالمُراقَبَةِ عِنْدَ السُّلُوكِ وبَدْءِ الحالِ ﴿ويَنْعِهِ﴾ وهو كَمالٌ عِنْدَ الوُصُولِ بِالحُضُورِ ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الجِنَّ﴾ أيْ جِنِّ الوَهْمِ والخَيالِ حَيْثُ أطاعُوهم (p-258)وانْقادُوا لَهم ﴿وخَلَقَهم وخَرَقُوا﴾ وافْتَرَوْا ﴿لَهُ بَنِينَ﴾ مِنَ العُقُولِ ﴿وبَناتٍ﴾ مِنَ النُّفُوسِ يَعْتَقِدُونَ أنَّها لِتَجَرُّدِها مُؤَثِّرَةٌ مِثْلُهُ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ مِنهم أنَّها أسْماؤُهُ وصِفاتُهُ لا تُؤَثِّرُ إلّا بِهِ جَلَّ شَأْنُهُ ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَصِفُونَ﴾ مِن تَقَيُّدِهِ بِما قَيَّدُوهُ بِهِ جَلَّ شَأْنُهُ ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ قالَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ في البابِ الحادِيَ والعِشْرِينَ وأرْبَعِمِائَةٍ: يَعْنِي مِن كُلِّ عَيْنٍ مِن أعْيُنِ الوُجُوهِ وأعْيُنِ القُلُوبِ فَإنَّ القُلُوبَ ما تَرى إلّا بِالبَصَرِ وأعْيُنِ الوُجُوهِ لا تَرى إلّا بِالبَصَرِ فالبَصَرُ حَيْثُ كانَ بِهِ يَقَعُ الِادِّراكُ فَيُسَمّى البَصَرُ في العَقْلِ عَيْنَ البَصِيرَةِ ويُسَمّى في الظّاهِرِ بَصَرَ العَيْنِ، والعَيْنُ في الظّاهِرِ مَحَلُّ البَصَرِ والبَصِيرَةُ في الباطِنِ مَحَلٌّ لِلْعَيْنِ الَّذِي هو بَصَرٌ في عَيْنِ الوَجْهِ فاخْتَلَفَ الِاسْمُ عَلَيْهِ وما اخْتَلَفَ هو في نَفْسِهِ فَكَما لا تُدْرِكُهُ العُيُونُ بِأبْصارِها لا تُدْرِكُهُ البَصائِرُ بِأعْيُنِها، ووَرَدَ في الخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى احْتَجَبَ عَنِ العُقُولِ كَما احْتَجَبَ عَنِ الأبْصارِ وأنَّ المَلَأ الأعْلى يَطْلُبُونَهُ كَما تَطْلُبُونَهُ أنْتُمْ» فاشْتَرَكْنا في الطَّلَبِ مَعَ المَلَإ الأعْلى واخْتَلَفْنا في الكَيْفِيَّةِ فَمِنّا مَن يَطْلُبُهُ بِفِكْرِهِ والمَلَأُ الأعْلى لَهُ العَقْلُ ومالَهُ الفِكْرُ، ومِنّا مَن يَطْلُبُهُ بِهِ ولَيْسَ في المَلَإ الأعْلى مَن يَطْلُبُهُ بِهِ لِأنَّ الكامِلَ مِنّا هو عَلى الصُّورَةِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْها؛ فَلِهَذا يَصِحُّ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ أنْ يَطْلُبَ اللَّهَ تَعالى بِهِ ومَن طَلَبَهُ بِهِ وصَلَ إلَيْهِ فَإنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ غَيْرُهُ، وأنَّ الكامِلَ مِنّا لَهُ نافِلَةٌ تَزِيدُ عَلى فَرائِضِهِ إذا تَقَرَّبَ العَبْدُ بِها إلى رَبِّهِ أحَبَّهُ؛ فَإذا أحَبَّهُ كانَ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ، فَإذا كانَ الحَقُّ بَصَرَ مِثْلِ هَذا العَبْدِ رَآهُ وأدْرَكَهُ بِبَصَرِهِ لِأنَّ بَصَرَهُ الحَقُّ فَما أدْرَكَهُ إلّا بِهِ لا بِنَفْسِهِ، وما ثَمَّ مَلَكٌ يَتَقَرَّبُ إلى اللَّهِ تَعالى بِنافِلَةٍ بَلْ هم في الفَرائِضِ وفَرائِضُهم قَدِ اسْتَغْرَقَتْ أنْفاسَهم فَلا نَفْلَ عِنْدَهم فَلَيْسَ لَهم مَقامٌ يُنْتِجُ أنْ يَكُونَ الحَقُّ بَصَرَهم حَتّى يُدْرِكُوهُ بِهِ فَهم عَبِيدُ اضْطِرارٍ ونَحْنُ عَبِيدُ اضْطِرارٍ مِن فَرائِضِنا وعَبِيدُ اخْتِيارٍ مِن نَوافِلِنا، إلى آخِرِ ما قالَ. وهو صَرِيحٌ في أنَّ بَعْضَ الأبْصارِ تُدْرِكُهُ لَكِنْ مِن حَيْثِيَّةِ رَفْعِ الغَيْرِيَّةِ. وقالَ في البابِ الرّابِعِ عَشَرَ وأرْبَعِمِائَةٍ بَعْدَ أنْ أنْشَدَ: ؎مَن رَأى الحَقَّ كِفاحًا عَلَنًا إنَّما أبْصَرَهُ ∗∗∗ خَلْفَ حِجابٍ وهو لا يَعْرِفُهُ وهُوَ بِهِ إنَّ هَذا لَهو الأمْرُ العُجابُ كُلُّ راءٍ لا يَرى غَيْرَ الَّذِي هو فِيهِ مِن نَعِيمٍ وعَذابٍ صُورَةُ الرّائِي تَجَلَّتْ عِنْدَهُ وهو عَيْنُ الرّاءِ بَلْ عَيْنُ الحِجابِ فَإذا رَآهُ سُبْحانَهُ الرّائِي كِفاحًا فَما يَراهُ إلّا حَتّى يَكُونَ الحَقُّ جَلَّ جَلالُهُ بَصَرَهُ فَيَكُونُ هو الرّائِيَ نَفْسَهُ بِبَصَرِهِ في صُورَةِ عَبْدِهِ فَأعْطَتْهُ الصُّورَةُ المُكافَحَةَ إذا كانَتِ الحامِلَةَ لِلْبَصَرِ ولِجَمِيعِ القُوى إلَخْ. وقالَ في البابِ الحادِي وأرْبَعِمِائَةٍ بَعْدَ أنْ أنْشَدَ: ؎قَدِ اسْتَوى المَيِّتُ والحَيُّ ∗∗∗ في كَوْنِهِمْ ما عِنْدَهم شَيٌّ ؎مِنِّي فَلا نُورَ ولا ظُلْمَةَ ∗∗∗ فِيهِمْ ولا ظِلَّ ولا في رُؤْيَتِهِمْ لِي مَعْدُومَةٌ فَنَشْرُهم في كَوْنِهِمْ طَيٌّ وفَهْمِهِمْ إنْ كانَ مَعْناهم عَنْهُ إذا حَقَّقْتَهُ غَيٌّ إنَّ كُلَّ مَرْئِيٍّ لا يَرى الرّائِي إذا رَآهُ مِنهُ إلّا قَدْرَ مَنزِلَتِهِ ورُتْبَتِهِ فَما رَآهُ وما رَأى إلّا نَفْسَهُ، ولَوْلا ذَلِكَ ما تَفاضَلَتِ الرُّؤْيَةُ في الرّائِينَ إذْ لَوْ كانَ هو المَرْئِيَّ ما اخْتَلَفُوا لَكِنْ لَمّا كانَ هو سُبْحانَهُ مُجَلِّيَ رُؤْيَتِهِمْ أنْفُسَهم لِذَلِكَ وصَفُوهُ بِأنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ يَتَجَلّى، ولَكِنَّ شُغْلَ الرّائِي بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ في مَجْلى الحَقِّ حَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الحَقِّ فَلَوْ لَمْ تَبْدُ لِلرّائِي صُورَتُهُ أوْ صُورَةُ كَوْنٍ مِنَ الأكْوانِ رُبَّما كانَ يَراهُ فَما حَجَبَنا عَنْهُ إلّا رُؤْيَةُ نُفُوسِنا فِيهِ فَلَوْ زِلْنا عَنّا ما رَأيْناهُ لِأنَّهُ ما كانَ يَبْقى بِزَوالِنا مَن يَراهُ وإنْ نَحْنُ لَمْ نَزُلْ فَما نَرى إلّا نُفُوسَنا فِيهِ وصُوَرَنا وقَدْرَنا ومَنزِلَتَنا فَعَلى كُلِّ حالٍ ما رَأيْناهُ، وقَدْ نَتَوَسَّعُ فَنَقُولُ: قَدْ رَأيْناهُ ونَصْدُقُ كَما أنَّهُ (p-259)لَوْ قُلْنا: رَأيْنا الإنْسانَ صَدَقْنا في أنْ نَقُولَ رَأيْنا مَن مَضى مِنَ النّاسِ ومَن بَقِيَ ومَن في زَمانِنا مِن كَوْنِهِمْ إنْسانًا لا مِن حَيْثُ شَخْصِيَّةِ كُلِّ إنْسانٍ، ولَمّا كانَ العالَمُ أجْمَعُهُ وآحادُهُ عَلى صُورَةِ حَقٍّ ورَأيْنا الحَقَّ فَقَدْ رَأيْنا وصَدَّقْنا، وإذا نَظَرْنا في عَيْنِ التَّمْيِيزِ في عَيْنِ عَيْنٍ لَمْ نُصَدِّقْ إلى ءاخِرِ ما قالَ. وفي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ نَفِيسٌ لِهَذا المَطْلَبِ ومِنهُ يُعْلَمُ ما في قَوْلِ بَعْضِهِمْ ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ لِغايَةِ ظُهُورِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وهُوَ اللَّطِيفُ﴾ إذْ لا ألْطَفَ كَما قالَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ مِن هَوِيَّةِ تَكَوُّنِ عَيْنِ بَصَرِ العَبْدِ ﴿الخَبِيرُ﴾ أيِ العَلِيمُ خِبْرَةً أنَّهُ بَصَرُ العَبْدِ ﴿واللَّهُ مِن ورائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ وعَنِ الجُنَيْدِ قُدِّسَ سِرُّهُ: اللَّطِيفُ مَن نَوَّرَ قَلْبَكَ بِالهُدى، ورَبّى جِسْمَكَ بِالغِذاءِ، وجَعَلَ لَكَ الوِلايَةَ بِالبَلْوى، ويَحْرُسُكَ وأنْتَ في لَظى، ويُدْخِلُكَ جَنَّةَ المَأْوى. وقالَ غَيْرُهُ: اللَّطِيفُ إنْ دَعَوْتَهُ لَبّاكَ، وإنْ قَصَدْتَهُ آواكَ، وإنْ أحْبَبْتَهُ أدْناكَ، وإنْ أطَعْتَهُ كافاكَ، وإنْ أغْضَبْتَهُ عافاكَ، وإنْ أعْرَضْتَ عَنْهُ دَعاكَ، وإنْ أقْبَلْتَ إلَيْهِ هَداكَ، وإنْ عَصَيْتَهُ راعاكَ. وهو كَلامٌ ما ألْطَفَهُ ﴿قَدْ جاءَكم بَصائِرُ مِن رَبِّكُمْ﴾ وهي صُوَرُ تَجَلِّياتِ صِفاتِهِ، وقالَ بَعْضُ العارِفِينَ: أنَّها كَلِماتُهُ الَّتِي تَجَلّى مِنها لِذَوِي الحَقائِقِ وبَرَزَتْ مِن تَحْتِ سُرادِقاتِها أنْوارُ نُعُوتِهِ الأزَلِيَّةِ ﴿فَمَن أبْصَرَ﴾ واهْتَدى ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾ ذَلِكَ الإبْصارُ أيْ أنَّ ثَمَرَتَهُ تَعُودُ إلَيْهِ ﴿ومَن عَمِيَ﴾ واحْتَجَبَ عَنِ الهُدى ﴿فَعَلَيْها﴾ عَماهُ واحْتِجابُهُ ﴿وما أنا عَلَيْكم بِحَفِيظٍ﴾ بَلِ اللَّهُ تَعالى حَفِيظٌ عَلَيْكم لِأنَّكم وسائِرُ شُؤُونِكم بِهِ مَوْجُودُونَ (وكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) قالَ ابْنُ عَطاءٍ أيْ حَقِيقَةَ البَيانِ وهو الوُقُوفُ مَعَهُ حَيْثُ ما وقَفَ والجَرْيُ مَعَهُ حَيْثُ ما جَرى لا يَتَقَدَّمُ بِغَلَبَتِهِ ولا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ لِعَجْزِهِ، وقالَ آخَرُ: المَعْنى يَعْرِفُونَ قَدَرِي ويَفْهَمُونَ خِطابِي لا مَن لا يَعْرِفُ مَكانَ خِطابِي ومُرادِي مِن كَلامِي ﴿اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ قِيلَ: هو إشارَةٌ إلى وحْيٍ خاصٍّ بِهِ ﷺ لا يَتَحَمَّلُهُ غَيْرُهُ أوْ إشارَةٌ إلى الوَحْيِ بِالتَّوْحِيدِ؛ ولِذا وصَفَ سُبْحانَهُ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ ثُمَّ قالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ المَحْجُوبِينَ بِالكَثْرَةِ عَنِ الوَحْدَةِ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكُوا﴾ بَلْ شاءَ سُبْحانَهُ إشْراكَهم لِأنَّهُ المَعْلُومُ لَهُ جَلَّ شَأْنُهُ أزَلًا دُونَ إيمانِهِمْ ولا يَشاءُ إلّا ما يَعْلَمُهُ دُونَ ما لا يَعْلَمُهُ مِنَ النَّفْيِ الصِّرْفِ ﴿ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ بَلْ أرْشِدُوهم إلى الحَقِّ بِالَّتِي هي أحْسَنُ ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ بِأنْ يَسُبُّوكم وأنْتُمْ أعْظَمُ مَظاهِرِهِ ﴿كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ إذْ هو الَّذِي طَلَبُوهُ مِنّا بِألْسِنَةِ اسْتِعْدادِهِمُ الأزَلِيِّ ومِن شَأْنِنا أنْ لا نَرُدَّ طالِبًا ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهم آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها﴾ أيْ أنَّهم طَلَبُوا خَوارِقَ العاداتِ وأعْرَضُوا عَنِ الحُجَجِ البَيِّناتِ لِاحْتِجابِهِمْ بِالحِسِّ والمَحْسُوسِ ﴿قُلْ إنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ فَيَأْتِي بِها حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ ﴿وما يُشْعِرُكم أنَّها إذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ لِسَبْقِ الشَّقاءِ عَلَيْهِمْ ﴿ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهم وأبْصارَهُمْ﴾ لِاقْتِضاءِ اسْتِعْدادِهِمْ ذَلِكَ ﴿كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ حِينَ أعْرَضُوا عَنِ الحُجَجِ البَيِّناتِ أوْ في الأزَلِ ﴿ونَذَرُهم في طُغْيانِهِمْ﴾ الَّذِي هو لَهم بِمُقْتَضى اسْتِعْدادِهِمْ ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ لا يَدْرُونَ وجْهَ الرَّشادِ (ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ) تَمَّ طَبْعُ الجُزْءِ السّابِعِ مِن تَفْسِيرِ رُوحِ المَعانِي لِلْعَلّامَةِ الألُوسِيِّ بِحَوْلِ اللَّهِ وقُوَّتِهِ ويَتْلُوهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى الجُزْءُ الثّامِنُ مِنهُ وأوَّلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ أنَّنا نَزَّلْنا﴾ الآيَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب