الباحث القرآني
﴿ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهْلِ القُرى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾ بَيانٌ لِحُكْمِ ما أفاءَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى رَسُولِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن قُرى الكُفّارِ عَلى العُمُومِ بَعْدَ بَيانِ حُكْمِ ما أفاءَهُ مِن بَنِي النَّضِيرِ كَما رَواهُ القاضِي أبُو يُوسُفَ في كِتابِ الخَراجِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ويُشْعِرُ بِهِ كَلامُه ُرَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِيهِ مُرافَعَةُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ والعَبّاسِ في أمْرِ فَدَكٍ أخْرَجَهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وغَيْرُهم فالجُمْلَةُ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ ناشِئٍ مِمّا فُهِمَ مِنَ الكَلامِ السّابِقِ فَكَأنَّ قائِلًا يَقُولُ: قَدْ عَلِمْنا حُكْمَ ما أفاءَ اللَّهُ تَعالى مِن بَنِي النَّضِيرِ فَما حُكْمُ ما أفاءَ عَزَّ وجَلَّ مِن غَيْرِهِمْ ؟ فَقِيلَ: ما ﴿أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِن أهْلِ القُرى﴾ إلَخْ، ولِذا لَمْ يُعْطَفْ عَلى ما تَقَدَّمَ، ولَمْ يُذْكَرْ في الآيَةِ قَيْدُ الإيجافِ ولا عَدَمِهِ، والَّذِي يُفْهَمُ مِن كُتُبِ بَعْضِ الشّافِعِيَّةِ أنَّ ما تَضَمَّنَتْهُ حُكْمُ (p-46)
الفَيْءِ لا الغَنِيمَةُ ولا الأعَمُّ، وفَرَّقُوا بَيْنَهُما قالُوا: الفَيْءُ ما حَصَلَ مِنَ الكُفّارِ بِلا قِتالٍ وإيجافِ خَيْلٍ ورِكابٍ كَجِزْيَةٍ وعُشْرِ تِجارَةٍ، وما صُولِحُوا عَلَيْهِ مِن غَيْرِ نَحْوِ قِتالٍ وما جَلَوْا عَنْهُ خَوْفًا قَبْلَ تَقابُلِ الجَيْشَيْنِ أمّا بَعْدَهُ فَغَنِيمَةٌ، وما لِمُرْتَدٍّ قُتِلَ أوْ ماتَ عَلى رِدَّتِهِ، وذَمِّيٍ أوْ مُعاهَدٍ أوْ مُسْتَأْمَنٍ ماتَ بِلا وارِثٍ مُسْتَغْرِقٍ، والغَنِيمَةُ ما حَصَلَ مِن كُفّارٍ أصْلِيِّينَ حَرْبِيِّينَ بِقِتالٍ، وفي حُكْمِهِ تَقابُلُ الجَيْشَيْنِ أوْ إيجافٌ مِنّا لا مِن ذِمِّيِّينَ فَإنَّهُ لَهم ولا يُخَمَّسُ وحُكْمُها مَشْهُورٌ.
وصَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ مِن أصْحابِنا بِالفَرْقِ أيْضًا نَقْلًا عَنِ المُغْرِبِ وغَيْرِهِ فَقالُوا: الغَنِيمَةُ ما نِيلَ مِنَ الكُفّارِ عَنْوَةً والحَرْبُ قائِمَةٌ وحُكْمُها أنْ تُخَمَّسَ، وباقِيها لِلْغانِمِينَ خاصَّةً. والفَيْءُ ما نِيلَ مِنهم بَعْدَ وضْعِ الحَرْبِ أوْزارَها وصَيْرُورَةِ الدّارِ دارَ إسْلامٍ، وحُكْمُهُأنْ يَكُونَ لِكافَّةِ المُسْلِمِينَ ولا يُخَمَّسُ أيْ يُصْرَفُ جَمِيعُهُ لِمَصالِحِهِمْ ونَقَلَ هَذا الحُكْمَ ابْنُ حَجَرٍ عَمَّنْ عَدا الشّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ مِنَ الأئِمَّةِ الثَّلاثَةِ، والتَّخْمِيسُ عَنْهُ اسْتِدْلالًا بِالقِياسِ عَلى الغَنِيمَةِ المُخَمَّسَةِ بِالنَّصِّ بِجامِعِ أنَّ كُلًّا راجِعٌ إلَيْنا مِنَ الكُفّارِ، واخْتِلافُ السَّبَبِ بِالقِتالِ وعَدَمِهِ لا يُؤَثِّرُ، والَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الأخْبارُ الصَّحِيحَةُ أنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ صَنَعَ في سَوادِ العِراقِ ما تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ، واعْتَبَرَها عامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ مُحْتَجًّا بِها عَلى الزُّبَيْرِ وبِلالٍ وسَلْمانَ الفارِسِيِّ وغَيْرِهِمْ حَيْثُ طَلَبُوا مِنهُ قِسْمَتَهُ عَلى الغانِمِينَ بِعَقارِهِ وعُلُوجِهِ، ووافَقَهُ عَلى ما أرادَ عَلِيٌّ وعُثْمانُ وطَلْحَةُ والأكْثَرُونَ بَلِ المُخالِفُونَ أيْضًا بَعْدَ أنْ قالَ خاطِبًا: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلالًا وأصْحابَهُ مَعَ أنَّ المَشْهُورَ في كُتُبِ المَغازِي أنَّ السَّوادَ فُتِحَ عَنْوَةً، وهو يَقْتَضِي كَوْنَهُ غَنِيمَةً فَيُقَسَّمُ بَيْنَ الغانِمِينَ، ولِذا قالَ بَعْضُ الشّافِعِيَّةِ: إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ اسْتَطابَ قُلُوبَ الغانِمِينَ حَتّى تَرَكُوا حَقَّهم فاسْتَرَدَّ السَّوادَ عَلى أهْلِهِ بِخَراجٍ يُؤَدُّونَهُ في كُلِّ سَنَةٍ فَلْيُراجَعْ ولْيُحَقَّقْ، وما جَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى مِن ذَلِكَ لِمَن تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ﴾ إلى ”ابْنِ السَّبِيلِ“ هو خُمُسُ الفَيْءِ عَلى ما نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الشّافِعِيَّةِ، ويُقَسَّمُ هَذا الخُمُسُ خَمْسَةَ أسْهُمٍ: لِمَن ذَكَراللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وسَهْمُهُ سُبْحانَهُ وسَهْمُ رَسُولِهِ واحِدٌ، وذِكْرُهُ تَعالى - كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ -افْتِتاحُ كَلامٍ لِلتَّيَمُّنِ والتَّبَرُّكِ فَإنَّ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ، وفِيهِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وقالَ أبُو العالِيَةِ: سَهْمُ اللَّهِ تَعالى ثابِتٌ يُصْرَفُ إلى بِناءِ بَيْتِهِ - وهو الكَعْبَةُ المُشَرَّفَةُ - إنْ كانَتْ قَرِيبَةً وإلّا فَإلى مَسْجِدِ كُلِّ بَلْدَةٍ ثَبَتَ فِيها الخُمُسُ، ويَلْزَمُهُ أنَّ السِّهامَ كانَتْ سِتَّةً وهو خِلافُ المَعْرُوفِ عَنِ السَّلَفِ في تَفْسِيرِ ذَلِكَ، وسَهْمُ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ كانَ لَهُ في حَياتِهِ بِالإجْماعِ - وهو خُمُسُ الخُمُسِ - وكانَ يُنْفِقُ مِنهُ عَلى نَفْسِهِ وعِيالِهِ ويَدَّخِرُ مِنهُ مُؤُونَةَ سَنَةٍ أيْ لِبَعْضِ زَوْجاتِهِ ويَصْرِفُ الباقِيَ في مَصالِحِ المُسْلِمِينَ، وسَقَطَ عِنْدَنا بَعْدَ وفاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالُوا: لِأنَّ عَمَلَ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ عَلى ذَلِكَ - وهم أُمَناءُ اللَّهِ تَعالى عَلى دِينِهِ - ولِأنَّ الحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِوَصْفٍ مُشْتَقٍّ - وهو الرَّسُولُ - فَيَكُونُ مَبْدَأُ الِاشْتِقاقِ - وهو الرِّسالَةُ - عِلَّةً ولَمْ تُوجَدْ في أحَدٍ بَعْدَهُ، وهَذا كَما سَقَطَ الصَّفِيُّ.
ونُقِلَ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ يُصْرَفُ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يَسْتَحِقُّهُ لِإمامَتِهِ دُونَ رِسالَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أبْعَدَ عَنْ تَوَهُّمِ الأجْرِ عَلى الإبْلاغِ، والأكْثَرُونَ مِنَ الشّافِعِيَّةِ أنَّ ما كانَ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن خُمُسِ الخُمُسِ يُصْرَفُ لِمَصالِحِ المُسْلِمِينَ كالثُّغُورِ، وقُضاةِ البِلادِ والعُلَماءِ المُشْتَغِلِينَ بِعُلُومِ الشَّرْعِ وآلاتِها ولَوْ مُبْتَدِئِينَ، والأئِمَّةِ والمُؤَذِّنِينَ ولَوْ أغْنِياءَ، وسائِرِ مَن يَشْتَغِلُ عَنْ نَحْوِ كَسْبِهِ بِمَصالِحِ المُسْلِمِينَ لِعُمُومِ نَفْعِهِمْ، وأُلْحِقَ بِهِمُ العاجِزُونَ عَنِ الكَسْبِ والعَطاءِ إلى رَأْيِ الإمامِ مُعْتَبِرًا سِعَةَ المالِ وضِيقَهُ، ويُقَدَّمُ الأهَمُّ فالأهَمُّ وُجُوبًا (p-47)
وأهَمُّها سَدُّ الثُّغُورِ، ورَدُّ سَهْمِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ وفاتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ الدّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الخَبَرِ الصَّحِيحِ: ««مالِي مِمّا أفاءَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْكم إلّا الخُمُسَ والخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكم»» صادِقٌ بِصَرْفِهِ لِمَصالِحِ المُسْلِمِينَ كَما أنَّهُ صادِقٌ بِضَمِّهِ إلى السِّهامِ الباقِيَةِ فَيُقَسَّمُ مَعَها عَلى سائِرِ الأصْنافِ، ولا يُسَلَّمُ ظُهُورُهُ في هَذا دُونَ ذاكَ، وسَهْمٌ لِذِي القُرْبى وسَهْمٌ لِلْيَتامى وسَهْمٌ لِلْمَساكِينِ وسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أسْهُمِالخُمُسِ، والمُرادُ بِذِي القُرْبى قَرابَتُهُ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والمُرادُ بِهِمْ بَنُو هاشِمٍ وبَنُو المُطَّلِبِ لِأنَّهُ ﷺ وضَعَ السَّهْمَ فِيهِمْ دُونَ بَنِي أخِيهِما شَقِيقِهِما عَبْدِ شَمْسٍ، ومِن ذُرِّيَّتِهِ عُثْمانُ وأخِيهِما لِأبِيهِما نَوْفَلٍ مُجِيبًا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««نَحْنُ وبَنُو المُطَّلِبِ شَيْءٌ واحِدٌ»» وشَبَّكَبَيْنَ أصابِعِهِ رَواهُ البُخارِيُّ أيْ لَمْ يُفارِقُوا بَنِي هاشِمٍ في نُصْرَتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ جاهِلِيَّةً ولا إسْلامًا، وكَأنَّهُ لِمَزِيدِ تَعَصُّبِهِمْ وتَواقُفِهِمْ - حَتّى كَأنَّهم عَلى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ - قِيلَ: لِذِي القُرْبى دُونَ لِذَوِي بِالجَمْعِ.
قالَ الشّافِعِيَّةُ: يَشْتَرِكُ في هَذا السَّهْمِ الغَنِيُّ والفَقِيرُ لِإطْلاقِ الآيَةِ ولِإعْطائِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمالعَبّاسَ وكانَ غَنِيًّا، بَلْ قِيلَ: كانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا يَتَّجِرُونَ لَهُ، والنِّساءُ لِأنَّ فاطِمَةَ وصْفِيَّةَ عَمَّةَ أبِيها رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما كانا يَأْخُذانِ مِنهُ، ويُفَضَّلُ الذَّكَرُ كالإرْثِ بِجامِعِ أنَّهُ اسْتِحْقاقٌ بِقُرابَةِ الأبِ فَلَهُ مِثْلُ حَظَّيِ الأُنْثى، ويَسْتَوِي فِيهِ العالِمُ والصَّغِيرُ وضِدُّهُما، ولَوْ أعْرَضُوا عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ كالإرْثِ، ويَثْبُتْ كَوْنُ الرَّجُلِ هاشِمِيًّا أوْ مُطَّلِبِيًّا بِالبَيِّنَةِ، وذَكَرَ جَمْعٌ أنَّهُ لا بُدَّ مَعَها مِنَ الِاسْتِفاضَةِ، وبِقَوْلِ الشّافِعِيِّ قالَ أحْمَدُ، وعِنْدَ مالِكٍ الأمْرُ مُفَوَّضٌ إلى الإمامِ إنْ شاءَ قَسَّمَ بَيْنَهم وإنْ شاءَ أعْطى بَعْضَهم دُونَ بَعْضٍ وإنْ شاءَ أعْطى غَيْرَهم وإنْ كانَ أمْرُهُ أهَمَّ مِن أمْرِهِمْ.
وقالَ المُزَنِيُّ والثَّوْرِيُّ: يَسْتَوِي الذَّكَرُ والأُنْثى ويُدْفَعُ لِلْقاصِي والدّانِي مِمَّنْ لَهُ قَرابَةٌ، والغَنِيُّ والفَقِيرُ سَواءٌ لِإطْلاقِ النَّصِّ، ولِأنَّ الحُكْمَ المُعَلَّقَ بِوَصْفٍ مُشْتَقٍّ مُعَلَّلٌ بِمَبْدَأِ الِاشْتِقاقِ، وعِنْدَنا ذُو القُرْبى مَخْصُوصٌ بِبَنِي هاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ لِلْحَدِيثِ إلّا أنَّهم لَيْسَ لَهم سَهْمٌ مُسْتَقِلٌّ ولا يُعْطَوْنَ مُطْلَقًا، وإنَّما يُعْطى مِسْكِينُهم ويَتِيمُهم وابْنُ سَبِيلِهِمْ لِانْدِراجِهِ في اليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ لَكِنْ يُقَدَّمُونَ عَلى غَيْرِهِمْ مِن هَذِهِ الأصْنافِ لِأنَّ الخُلَفاءَ الثَّلاثَةَ لَمْ يُخْرِجُوا لَهم سَهْمًا مَخْصُوصًا، وإنَّما قَسَّمُوا الخُمُسَ ثَلاثَةَ أسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتامى وسَهْمٌ لِلْمَساكِينِ وسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ، وعَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ في خِلافَتِهِ لَمْ يُخالِفْهم في ذَلِكَ مَعَ مُخالَفَتِهِ لَهم في مَسائِلَ، ويُحْمَلُ عَلى الرُّجُوعِ إلى رَأْيِهِمْ إنْ صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: سَهْمُ ذَوِي القُرْبى عَلى ما حُكِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ، وفائِدَةُ ذِكْرِهِمْ عَلى القَوْلِ بِأنَّ اسْتِحْقاقَهم لِوَصْفٍ آخَرَ غَيْرِ القَرابَةِ كالفَقْرِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أنَّ الفَقِيرَ مِنهم مَثَلًا لا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لِأنَّهُ مِن قَبِيلِ الصَّدَقَةِ ولا تَحِلُّ لَهم، ومَن تَتَبَّعالأخْبارَ وجَدَ فِيها اخْتِلافًا كَثِيرًا ومِنها ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الخُلَفاءَ كانُوا يُسْهِمُونَهم مُطْلَقًا، وهو رَأْيُ عُلَماءِ أهْلِ البَيْتِ، واخْتارَ بَعْضُ أصْحابِنا أنَّ المَذْكُورَ في الآيَةِ مَصارِفُ الخُمُسِ عَلى مَعْنى أنَّ كُلًّا يَجُوزُ أنْ يُصْرَفَ لَهُ لا المُسْتَحِقِّينَ فَيَجُوزُ الِاقْتِصارُ عِنْدَنا عَلى صِنْفٍ واحِدٍ كَأنَّ يُعْطى تَمامُ الخُمُسِ لِابْنِ السَّبِيلِ وحْدَهُ مَثَلًا.
والكَلامُ مُسْتَوْفى في شُرُوحِ الهِدايَةِ، والمُرادُ بِاليَتامى الفُقَراءُ مِنهم قالَ الشّافِعِيَّةُ: اليَتِيمُ هو صَغِيرٌ لا أبَ لَهُ وإنْ كانَ لَهُ جَدٌّ، ويُشْتَرَطُ إسْلامُهُ وفَقْرُهُ، أوْ مَسْكَنَتُهُ عَلى المَشْهُورِ أنَّ لَفْظَ اليَتِيمِ يُشْعِرُ بِالحاجَةِ، وفائِدَةُ ذِكْرِهِمْ مَعَ شُمُولِ المَساكِينِ لَهم عَدَمُ حِرْمانِهِمْ لِتَوَهُّمِ أنَّهم لا يَصْلُحُونَ لِلْجِهادِ وإفْرادُهم بِخُمُسٍ كامِلٍ ويَدْخُلُ فِيهِمْ ولَدُ الزِّنا، والمَنفِيُّ لا اللَّقِيطُ عَلى الأوْجَهِ لِأنّا لَمْ نَتَحَقَّقْ فَقْدَ أبِيهِ عَلى أنَّهُ غَنِيٌّ بِنَفَقَتِهِ في بَيْتِ المالِ، ولا بُدَّ في ثُبُوتِ اليَتِيمِ (p-48)
والإسْلامِ والفَقْرِ هُنا مِنَ البَيِّنَةِ، ويَكْفِي في المِسْكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ قَوْلُهُما ولَوْ بِلا يَمِينٍ وإنِ اتُّهِما، نَعَمْ يَظْهَرُ في مُدَّعِي تَلَفِ مالٍ لَهُ عُرْفٌ أوْ عِيالٌ أنَّهُ يُكَلَّفُ بَيِّنَةً. انْتَهى، واشْتِراطُ الفَقْرِ في اليَتِيمِ مُصَرَّحٌ بِهِ عِنْدَنا في أكْثَرِ الكُتُبِ ولْيُراجَعِ الباقِي.
هَذا والأرْبَعَةُ الأخْماسُ الباقِيَةُ مَصْرِفُها عَلى ما قالَ صاحِبُ الكَشْفِ - وهو شافِعِيٌّ - بَعْدَ أنِ اخْتارَ جُعْلَ ( لِلْفُقَراءِ) بَدَلًا مِن ”ذِي القُرْبى“ وما عُطِفَ عَلَيْهِ مِن تَضَمُّنِهِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ عَلى مَعْنى أنَّ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَعُمَّ النّاسَ بِها حَسَبَ اخْتِيارِهِ، وقالَ: إنَّها لِلْمُقاتِلِينَ الآنَ عَلى الأصَحِّ، وفي تُحْفَةِ ابْنِ حَجَرٍ أنَّها عَلى الأظْهَرِ لِلْمُرْتَزِقَةِ وقُضاتِهِمْ وأئِمَّتِهِمْ ومُؤَذِّنِيهِمْ وعُمّالِهِمْ ما لَمْ يُوجَدْ تَبَرُّعٌ، والمُرْتَزِقَةُ الأجْنادُ المُرْصُودُونَ في الدِّيوانِ لِلْجِهادِ لِحُصُولِ النُّصْرَةِ بِهِمْ بَعْدَهُ ﷺ، وصَرَّحَ في التُّحْفَةِ بِأنَّ الأكْثَرِينَ عَلى أنَّ هَذِهِ الأخْماسَ الأرْبَعَةَ كانَتْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَ خُمُسِ الخُمُسِ، فَجُمْلَةُ ما كانَ يَأْخُذُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ الفَيْءِ أحَدَ وعِشْرُونَ سَهْمًا مِن خَمْسَةٍ وعِشْرِينَ، وكانَ عَلى ما قالَ الرُّويانِيُّ: يَصْرِفُ العِشْرِينَ الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَعْنِي الأرْبَعَةَ الأخْماسَ لِلْمَصالِحِ وُجُوبًا في قَوْلٍ ونَدْبًا في آخَرَ، وقالَ الغَزالِيُّ: كانَ الفَيْءُ كُلُّهُ لَهُ ﷺ في حَياتِهِ، وإنَّما خُمِّسَ بَعْدَ وفاتِهِ.
وقالَ الماوَرْدِيُّ: كانَ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في أوَّلِ حَياتِهِ ثُمَّ نُسِخَ في آخِرِها، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ما أفاءَ اللَّهُ﴾ إلَخْ بَيانٌ لِلْجُمْلَةِ الأُولى يَعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنهُمْ﴾ ولِذا لَمْ يَدْخُل ِالعاطِفُ عَلَيْها بَيَّنَ فِيها لِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ما يَصْنَعُ بِما أفاءَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وأمَرَهُ أنْ يَضَعَهُ حَيْثُ يَضَعُ الخُمُسَ مِنَ الغَنائِمِ مَقْسُومًا عَلى الأقْسامِ الخَمْسَةِ، وظاهِرُهُ أنَّ الجُمْلَةَ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، والسُّؤالَ عَنْ مَصارِفِ ما أفاءَ اللَّهُ تَعالى عَلى رَسُولِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن بَنِي النَّضِيرِ الَّذِي أفادَتِ الجُمْلَةُ الأُولى أنَّ أمْرَهُ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يَلْزَمُ أنْ يُقَسَّمَ قِسْمَةَ الغَنائِمِ الَّتِي قُوتِلَ عَلَيْها قِتالًا مُعْتَدًّا بِهِ، وأُخِذَتْ عَنْوَةً وقَهْرًا كَما طَلَبَ الغُزاةُ لِتَكُونَ أرْبَعَةُ أخْماسِها لَهم وأنَّ ما يُوضَعُ مَوْضِعالخُمُسِمِنَ الغَنائِمِ هو الكُلُّ لا أنَّ خُمُسَهُ كَذَلِكَ والباقِي - وهو أرْبَعَةُ أخْماسِهِ - لِمَن تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ تَبَوَّءُوا﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ عَلى ما سَمِعْتَسابِقًا، وأنَّ المُرادَ بِأهْلِ القُرى هو المُرادُ بِالضَّمِيرِ في ”مِنهم“ أعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، وعَدَلَ عَنِ الضَّمِيرِ إلى ذَلِكَ - عَلى ما في الإرْشادِ- إشْعارًا بِشُمُولِ ما في ”ما أفاءَ اللَّهُ“ لِعَقاراتِهِمْ أيْضًا، واعْتَرَضَ صاحِبُ الكَشْفِ ما يُشْعِرُ بِهِ الظّاهِرُ مِن أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أمْرِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأنْ يَضَعَ الجَمِيعَ حَيْثُ يَضَعُ الخُمُسَ مِنَ الغَنائِمِ، ووَجْهُ الآيَةِ بِما أيَّدَ بِهِ مَذْهَبَهُ، ودَقَّقَ الكَلامَ في ذَلِكَ فَلْيُراجَعْ ولْيُتَدَبَّرْ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ﴿أهْلِ القُرى﴾ المَذْكُورُونَ في الآيَةِ هم أهْلُ الصَّفْراءِ ويَنْبُعَ ووادِي القِرى، وما هُنالِكَ مِن قُرى العَرَبِ الَّتِي تُسَمّى قُرى عَرِينَةَ وحُكْمُها مُخالِفٌ لِحُكْمِ أمْوالِ بَنِي النَّضِيرِ فَإنَّ تِلْكَ كُلَّها لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ خاصَّةً، وهَذِهِ قَسَّمَها كَغَيْرِها، وقِيلَ: المُرادُ بِما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ خَيْبَرُ، وكانَ نِصْفُها لِلَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ونِصْفُها الآخَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فَكانَ الَّذِي لِلَّهِ سُبْحانَهُ ورَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن ذَلِكَ الكَتِيبَةُ والوَطِيحُ وسَلالِمُ ووَخْدَةُ، وكانَ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ الشَّقُّ، وكانَ ثَلاثَةَ عَشَرِ سَهْمًا، ونَطاةُ وكانَتْ خَمْسَةَ أسْهُمٍ، ولَمْ يُقَسِّمْ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن خَيْبَرَ لِأحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ إلّا لِمَن شَهِدَ الحُدَيْبِيَةَ، ولَمْ يَأْذَنْ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِأحَدٍ تَخَلَّفَ عَنْهُ عِنْدَ مَخْرَجِهِ إلى الحُدَيْبِيَةِ أنْ يَشْهَدَ مَعَهُ خَيْبَرَ إلّا جابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ (p-49)
بْنِ عَمْرٍو الأنْصارِيَّ، ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وخَصَّ بَعْضُهم ما أفاءَ اللَّهُ تَعالى بِالجِزْيَةِ والخَراجِ.
وعَنِ الزُّهْرِيِّ أنَّهُ قالَ: بَلَغَنِي أنَّهُ ذَلِكَ، وأنْتَ قَدْ سَمِعْتَأنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إنَّما احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى إبْقاءِ سَوادِ العِراقِ بِأيادِي أهْلِهِ، وضَرَبَ الخَراجَ والجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ رَدًّا عَلى مَن طَلَبَ قِسْمَتَهُ عَلى الغُزاةِ بِعُلُوجِهِ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ إلّا لِأنَّ وُصُولَ نَفْعِ ما أفاءَ اللَّهُ تَعالى إلى عامَّةِ المُسْلِمِينَ كانَ بِما ذُكِرَدُونَ القِسْمَةِ فافْهَمْ.
وفِي إعادَةِ اللّامِ في الرَّسُولِ وذِي القُرْبى مَعَ العاطِفِ ما لا يَخْفى مِنَ الِاعْتِناءِ، وفِيهِ عَلى ما قِيلَ: تَأْيِيدٌ ما لِمَن يَذْهَبُ إلى عَدَمِ سُقُوطِ سَهْمَيْهِما، ووَجْهُ إفْرادِ ذِي القُرْبى - قَدْ ذَكَرْناهُ غَيْرُ بَعِيدٍ - ولَمّا كانَ أبْناءُ السَّبِيلِ بِمَنزِلَةِ الأقارِبِ قِيلَ: ﴿وابْنِ السَّبِيلِ﴾ بِالإفْرادِ كَما قِيلَ: ﴿ولِذِي القُرْبى﴾ وعَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ:
؎أيا جارَتا إنّا غَرِيبانِ ها هُنا وكُلُّ غَرِيبٍ لِلْغَرِيبِ نَسِيبُ
﴿كَيْ لا يَكُونَ﴾ تَعْلِيلٌ لِلتَّقْسِيمِ، وضَمِيرُ ”يَكُونَ“ لِما أفاءَ اللَّهُ تَعالى أيْ كَيْ لا يَكُونَ الفَيْءُ ﴿دُولَةً﴾ هي بِالضَّمِّ، وكَذا بِالفَتْحِ ما يَدُولُ أيْ ما يَدُورُ لِلْإنْسانِ مِنَ الغَناءِ والجِدِّ والغَلَبَةِ، وقالَ الكِسائِيُّ وحُذّاقُ البَصْرَةِ: -الدَّوْلَةُ - بِالفَتْحِ في المُلْكِ بِالضَّمِّ، والدُّولَةُ - بِالضَّمِّ في المِلْكِ بِالكَسْرِ، أوْ بِالضَّمِّ في المالِ وبِالفَتْحِ في النُّصْرَةِ قِيلَ: وفي الجاهِ وقِيلَ: هي بِالضَّمِّ ما يُتَداوَلُ كالغَرْفَةِ اسْمٌ ما يُغْتَرَفُ وبِالفَتْحِ مَصْدَرٌ بِمَعْنى التَّداوُلِ، والرّاغِبُ وعِيسى بْنُ عُمَرَ وكَثِيرٌ أنَّهُما بِمَعْنى واحِدٍ، وجُمْهُورُ القُرّاءِ قَرَؤُوا بِضَمِّ الدّالِ والنَّصْبِ، وبِالياءِ التَّحْتِيَّةِ في يَكُونُ عَلى أنَّ اسْمَ ”يَكُونَ“ الضَّمِيرُ، و”دُولَةً“ الخَبَرُ أيْ كَيْ لا يَكُونَ الفَيْءُ جِدًّا ﴿بَيْنَ الأغْنِياءِ مِنكُمْ﴾ أيْ بَيْنَهم خاصَّةً يَتَكاثَرُونَ بِهِ، أوْ كَيْ لايَكُونَ دُولَةً وغَلَبَةً جاهِلِيَّةً بَيْنَكم فَإنَّ الرُّؤَساءَ مِنهم كانُوا يَسْتَأْثِرُونَ بِالغَنِيمَةِ ويَقُولُونَ مِن عَزِيزٍ، وقِيلَ: المَعْنى كَيْ لا يَكُونَ شَيْئًا يَتَداوَلُهُ الأغْنِياءُ بَيْنَهم ويَتَعاوَرُونَهُ فَلا يُصِيبُ أحَدًا مِنَ الفُقَراءِ.
وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ «تَكُونَ» بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ عَلى ما بِاعْتِبارِ المَعْنى إذِ المُرادُ بِها الأمْوالُ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وهِشامٌ كَذَلِكَ ورَفْعَ «دُولَةٌ» بِضَمِّ الدّالِ عَلى أنَّ كانَ تامَّةً، و«دُولَةٌ» فاعِلٌ أيْ كَيْ لا يَقَعَ دَوْلَةٌ، وقَرَأ عَلِيٌّ والسُّلَمِيُّ كَذَلِكَ أيْضًا، ونَصْبَ «دَوْلَةً» بِفَتْحِ الدّالِ عَلى أنَّ كانَ ناقِصًا اسْمُها ما سَمِعْتَ، «دَوْلَةً» خَبَرُها، ويُقَدَّرُ مُضافٌ عَلى القَوْلِ بِأنَّها مَصْدَرٌ إنْ لَمْ يُتَجَوَّزْ فِيهِ، ولَمْ يُقْصَدِ المُبالَغَةُ أيْ كَيْ لا تَكُونَ ذاتَ تَداوُلٍ بَيْنَ الأغْنِياءِ لا يُخْرِجُونَها إلى الفُقَراءِ، وظاهِرُ التَّعْلِيلِ بِما ذُكِرَ اعْتِبارُ الفَقْرِ فِيمَن ذُكِرَ وعَدَمُ اتِّصافِهِ تَعالى بِهِ ضَرُورِيٌّ مَعَ أنَّ ذِكْرَهُ سُبْحانَهُ كانَ لِلتَّيَمُّنِ عِنْدَ الأكْثَرِينَ لا لِأنَّ لَهُ عَزَّ وجَلَّ سَهْمًا، وكَذا يَجِلُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ أنْ يُسَمّى فَقِيرًا، وما اشْتَهَرَ مِنقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««الفَقْرُ فَخْرِي»» لا أصْلَ لَهُ، وكَيْفَ يُتَوَهَّمُ مِثْلُهُ والدُّنْيا كُلُّها لا تُساوِي عِنْدَ اللَّهِ تَعالى جَناحَ بَعُوضَةٍ، وهو صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أحَبُّ خَلْقِهِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ حَتّى قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: لا يُقالُ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ زاهِدٌ لِأنَّهُ التّارِكُ لِلدُّنْيا وهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لا يَتَوَجَّهُ إلَيْها فَضْلًا عَنْ طَلَبِها اللّازِمِ لِلتَّرْكِ، وقِيلَ: إنَّ الخَبَرَ لَوْ صَحَّ يَكُونُ المُرادُ بِالفَقْرِ فِيهِ الِانْقِطاعَ عَنِ السَّوِيِّ بِالمَرَّةِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وهو غَيْرُ الفَقْرِ الَّذِي الكَلامُ فِيهِ واعْتِبارُهُ فِيمَن بَعْدُ لا مَحْذُورَ فِيهِ حَتّى أنَّهُ رُبَّما يَكُونُ دَلِيلًا عَلى القَوْلِ بِأنَّهُ لا يُعْطى أغْنِياءُ ذَوِي القُرْبى، وإنَّما يُعْطى فُقَراؤُهم، وإذا حُمِلَ الكَلامُ عَلى ما حَمَلْناهُ عَلَيْهِ كَفى في التَّعْلِيلِ أنْ يَكُونَ فِيمَن يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الفَيْءِ فَقْرٌ، ولا يَلْزَمُ أنَّ كُلَّ مَن يُدْفَعُ إلَيْهِ (p-50)
شَيْءٌ مِنهُ فَقِيرًا ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ﴾ أيْ ما أعْطاكم مِنَ الفَيْءِ ﴿فَخُذُوهُ﴾ لِأنَّهُ حَقُّكُمُ الَّذِي أحَلَّهُ اللَّهُ تَعالى لَكم ﴿وما نَهاكم عَنْهُ﴾ أيْ عَنْ أخْذِهِ مِنهُ ﴿فانْتَهُوا﴾ عَنْهُ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ في مُخالَفَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ فَيُعاقِبُ مَن يُخالِفُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وحَمْلُ الآيَةِ عَلى خُصُوصِ الفَيْءِ مَرْوِيٌّ عَنِ الحَسَنِ وكانَ لِذَلِكَ لِقَرِينَةِ المَقامِ، وفي الكَشّافِ الأجْوَدُأنْ تَكُونَ عامَّةً في كُلِّ ما أمَرَ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ونَهى عَنْهُ، وأمْرُ الفَيْءِ داخِلٌ في العُمُومِ، وذَلِكَ لِعُمُومِ لَفْظِ ما عَلى أنَّ الواوَ لا تَصِحُّ عاطِفَةً فَهي اعْتِراضٌ عَلى سَبِيلِ التَّذْيِيلِ، ولِذَلِكَ عُقِّبَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ تَعْمِيمًا عَلى تَعْمِيمٍ فَيَتَناوَلُ كُلَّ ما يَجِبُ أنْ يُتَّقى ويَدْخُلُ ما سَبَقَ لَهُ الكَلامُ دُخُولًا أوَّلِيًّا كَدُخُولِهِ في العُمُومِ الأوَّلِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
وأخْرَجَ الشَّيْخانِ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: ««لَعَنَ اللَّهُ تَعالى الواشِماتِ والمُسْتَوْشِماتِ والمُتَنَمِّصاتِ والمُتَفَلِّجاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّراتِ لِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى» فَبَلَعَ ذَلِكَ امْرَأةً مِن بَنِي أسَدٍ يُقالُ لَها أُمُّ يَعْقُوبَ وكانَتْ تَقْرَأُ القُرْآنَ: فَأتَتْهُ فَقالَتْ: بَلَغَنِي أنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وكَيْتَ، فَقالَ: مالِيَ لا ألْعَنُ مَن لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهو في كِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فَقالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ ما بَيْنَ لَوْحَيِ المُصْحَفِ فَما وجَدْتُهُ، قالَ: إنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ فَقَدْ وجَدْتِيهِ، أما قَرَأْتِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ ؟ قالَتْ: بَلى، قالَ: فَإنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ نَهى عَنْهُ» . وعَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ: سَلُونِي عَمّا شِئْتُمْ أُخْبِرْكم بِهِ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقالَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هارُونَ: ما تَقُولُ في المُحْرِمِ يَقْتُلُ الزُّنْبُورَ ؟ فَقالَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ .
وحَدَّثَنا سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِراشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِن بَعْدِي أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ»» . وحَدَّثَنا سُفْيانُ بْنُ عُيْيَنَةَ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كَدامٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طارِقِ بْنِ شِهابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ أمَرَ بِقَتْلِ الزُّنْبُورِ، وهَذا مِن غَرِيبِ الِاسْتِدْلالِ، وفِيهِ عَلى عِلّاتِهِ - كَكَلامِ ابْنِ مَسْعُودٍ - حَمْلُ ما في الآيَةِ عَلى العُمُومِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسِ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا، قِيلَ: والمَعْنى حِينَئِذٍ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ مِنَ الأمْرِ فَتَمَسَّكُوا بِهِ وما نَهاكم عَنْ تَعاطِيهِ فانْتَهَوْا عَنْهُ، والأمْرُجُوِّزَ أنْ يَكُونَ واحِدالأُمُورِ وأنْ يَكُونَ واحِدَ الأوامِرِ لِمُقابَلَةِ نَهاكم لَهُ، قِيلَ: والأوَّلُ أقْرَبُ لِأنَّهُ لا يُقالُ: أعْطاهُ الأمْرَ بِمَعْنى أمَرَهُ إلّا بِتَكَلُّفٍ كَما لا يَخْفى، واسْتُنْبِطَ مِنَ الآيَةِ أنَّ وُجُوبَ التَّرْكِ يَتَوَقَّفُ عَلى تَحَقُّقِ النَّهْيِ ولا يَكْفِي فِيهِ عَدَمُ الأمْرِ فَما لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ أمْرًا ولا نَهْيًا لا يَجِبُ
{"ayah":"مَّاۤ أَفَاۤءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ كَیۡ لَا یَكُونَ دُولَةَۢ بَیۡنَ ٱلۡأَغۡنِیَاۤءِ مِنكُمۡۚ وَمَاۤ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُوا۟ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











