الباحث القرآني

﴿ألَمْ تَرَ﴾ تَعْجِيبٌ مِن حالِ المُنافِقِينَ الَّذِينَ كانُوا يَتَّخِذُونَ اليَهُودَ أوْلِياءَ ويُناصِحُونَهم ويَنْقُلُونَ إلَيْهِمْ أسْرارَ المُؤْمِنِينَ، وفِيهِ عَلى ما قالَ الخَفاجِيُّ: تَلْوِينٌ لِلْخِطابِ بِصَرْفِهِ عَنِ المُؤْمِنِينَ إلى الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أيْ ألَمْ تَنْظُرْ ﴿إلى الَّذِينَ تَوَلَّوْا﴾ أيْ والَوْا ﴿قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ وهُمُ اليَهُودُ ﴿ما هُمْ﴾ أيِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا ﴿مِنكُمْ﴾ مَعْشَرَ المُؤْمِنِينَ ﴿ولا مِنهُمْ﴾ أيْ مِن أُولَئِكَ القَوْمِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أعْنِي اليَهُودَ لِأنَّهم مُنافِقُونَ مُذَبْذَبُونَ بَيْنَ ذَلِكَ، وفي الحَدِيثِ «مَثَلُ المُنافِقِ مَثَلُ الشّاةِ العائِرَةِ بَيْنَ غَنَمَيْنِ -أيِ المُتَرَدِّدَةُ بَيْنَ قَطِيعَيْنِ - لا تَدْرِي أيُّهُما تَتْبَعُ» . وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ ”هم“ لِلْقَوْمِ، وضَمِيرُ ”مِنهم“ لِلَّذِينَ تَوَلَّوْا، ثُمَّ قالَ: فَيَكُونُ فِعْلُ المُنافِقِينَ عَلى هَذا أخَسَّلِأنَّهم تَوَلَّوْا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ لَيْسُوا مِن أنْفُسِهِمْ فَيَلْزَمُهم ذِمامُهم ولا مِنَ القَوْمِ المُحِقِّينَ فَتَكُونُ المُوالاةُ صَوابًا: والأوَّلُ هو الظّاهِرُ والجُمْلَةُ عَلَيْهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، وجُوِّزَ كَوْنُها حالًا مِن فاعِلِ ﴿تَوَلَّوْا﴾ ورَدَ بِعَدَمِ الواوِ، وأُجِيبَ بِأنَّهم صَرَّحُوا بِأنَّ الجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ المُثْبَتَةَ أوِ المَنفِيَّةَ إذا وقَعَتْ حالًا تَأْتِي بِالواوِ فَقَطْ وبِالضَّمِيرِ فَقَطْ وبِهِما مَعًا، وما ها هُنا أتَتْ بِالضَّمِيرِ أعْنِي هم، وعَلى ما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْمٍ. وذَكَرَ المَوْلى سَعْدُ اللَّهِ أنَّ في ﴿مِنكُمْ﴾ التِفاتًا، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ إنْ غُلِّبَ فِيهِ خِطابُ الرَّسُولِ ﷺ فَظاهِرٌ أنَّهُ لا التِفاتَ فِيهِ وإنْ لَمْ يُغَلَّبْ فَكَذَلِكَ لا التِفاتَ فِيهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ مُخالَفَةٌ لِمُقْتَضى الظّاهِرِ لِسَبْقِ خِطابِهِمْ قَبْلَهُ، وفي جَعْلِهِ التِفاتًا عَلى رَأْيِالسَّكّاكِيِّ نَظَرٌ ﴿ويَحْلِفُونَ عَلى الكَذِبِ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿تَوَلَّوْا﴾ داخِلٌ في حَيِّزِا لتَّعْجِيبِ، وجُوِّزَ عَطْفُهُ عَلى جُمْلَةِ ﴿ما هم مِنكُمْ﴾ وصِيغَةُ المُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى تَكَرُّرِ الحَلِفِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ حالٌ مِن فاعِلِ - يَحْلِفُونَ - مُفِيدَةٌ لِكَمالِ شَناعَةِ ما فَعَلُوا فَإنَّ الحَلِفَ عَلى ما يُعْلَمُ أنَّهُ كَذِبٌ في غايَةِ القُبْحِ، واسْتُدِلَّ بِهِ عَلى أنَّ الكَذِبَ يَعُمُّ ما يَعْلَمُ المُخْبِرُ مُطابَقَتَهُ لِلْواقِعِ وما لا يَعْلَمُ مُطابَقَتَهُ لَهُ فَيُرَدُّ بِهِ عَلى مَذْهَبَيِالنَّظّامِ والجاحِظِ إذْ عَلَيْهِما لا حاجَةَ إلَيْهِ، وبُحِثَ فِيهِ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالكَذِبِ ما خالَفَ اعْتِقادَهم ﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ بِمَعْنى يَعْلَمُونَ خِلافَهُ فَيَكُونُ جُمْلَةً حالِيَّةً مُؤَكِّدَةً لا مُقَيَّدَةً، نَعَمِ التَّأْسِيسُ هو الأصْلُ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، والِاحْتِمالُ يُبْطِلُ الِاسْتِدْلالَ والكَذِبُ الَّذِي حَلَفُوا عَلَيْهِ دَعْواهُمُ الإسْلامَ حَقِيقَةً، وقِيلَ: إنَّهم ما شَتَمُوا النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِناءً عَلى ما رُوِيَ ««أنَّهُ كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ جالِسًا في ظِلِّ حُجْرَةٍ مِن حُجَرِهِ وعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَقالَ: إنَّكم سَيَأْتِيكم إنْسانٌ يَنْظُرُ إلَيْكم بِعَيْنَيْ شَيْطانٍ فَإذا جاءَكم فَلا تُكَلِّمُوهُ فَلَمْ يَلْبَثُوا أنْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ أزْرَقُ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حِينَ رَآهُ: عَلامَ تَشْتُمُنِي أنْتَ وأصْحابُكَ فَقالَ: ذَرْنِي آتِكَ بِهِمْ فانْطَلَقَ فَدَعاهم فَحَلَفُوا»» فَنَزَلَتْ، وهَذا الحَدِيثُ أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والبَزّارُ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ إلّا أنَّ آخِرَهُ «فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ [المُجادَلَةَ: 18]» الآيَةَ. والَّتِي بَعْدَها، ولَعَلَّهُ يُؤَيِّدُ أيْضًا اعْتِبارَ كَوْنِ الكَذِبِ دَعْواهم أنَّهم ما شَتَمُوا. وفِي البَحْرِ رِوايَةٌ نَحْوَ ذَلِكَ عَنِ السُّدِّيِّ ومُقاتِلٍ، وهو - «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ لِأصْحابِهِ: يَدْخُلُ عَلَيْكم رَجُلٌ قَلْبُهُ قَلْبُ جَبّارٍ ويَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطانٍ فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ وكانَ أزْرَقَ أسْمَرَ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ فَقالَ ﷺ: (p-33)عَلامَ تَشْتُمُنِي أنْتَ وأصْحابُكَ فَحَلَفَ بِاللَّهِ ما فَعَلَ فَقالَ لَهُ: فَعَلْتَ فَجاءَ بِأصْحابِهِ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ ما سَبُّوهُ -» فَنَزَلَتْ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وعَبْدُ اللَّهِ هَذا هو الرَّجُلُ المُبْهَمُ في الخَبَرِ الأوَّلِ، وهو ابْنُ نَبْتَلٍ بِفَتْحِ النُّونِ وسُكُونِ الباءِ المُوَحَّدَةِ وبَعْدَها تاءٌ مُثَنّاةٌ مِن فَوْقُ ولامٌ ابْنُ الحارِثِ بْنِ قَيْسٍ الأنْصارِيُّ الأوْسِيُّ ذَكَرَهُ ابْنُ الكَلْبِيِّ والبَلاذِرِيُّ في المُنافِقِينَ، وذَكَرَهُ أبُو عُبَيْدَةَ في الصَّحابَةِ فَيُحْتَمَلُ كَما قالَ ابْنُ حَجَرٍ: إنَّهُ اطَّلَعَ عَلى أنَّهُ تابَ، وأمّا قَوْلُهُ في القامُوسِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبِيلٍ - كَأمِيرٍ -مِنَ المُنافِقِينَ فَيُحْتَمَلُ أنَّهُ هو هَذا، واخْتُلِفَ في ضَبْطِ اسْمِ أبِيهِ ويُحْتَمَلُ أنَّهُ غَيْرُهُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب