الباحث القرآني

﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾ الفَراغُ في اللُّغَةِ يَقْتَضِي سابِقَةَ شُغْلٍ. والفَراغُ لِلشَّيْءِ يَقْتَضِي لاحِقِيَّتِهِ أيْضًا، واللَّهُ سُبْحانَهُ لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ فَجُعِلَ انْتِهاءُ الشُّؤُونِ المُشارِ إلَيْها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾ يَوْمَ القِيامَةِ إلى واحِدٍ هو جَزاءُ المُكَلَّفِينَ فَراغًا لَهم عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِأنَّ مِن تَرَكَ أشْغالَهُ إلى شُغْلٍ واحِدٍ يُقالُ: فَرَغَ لَهُ وإلَيْهِ فَشَّبَّهَ حالَ هَؤُلاءِ - وأخْذِهِ تَعالى في جَزائِهِمْ فَحَسْبُ - بِحالِ مَن فُرِغَ لَهُ، وجازَتِ الِاسْتِعارَةُ التَّصْرِيحِيَّةُ التَّبَعِيَّةُ في ﴿سَنَفْرُغُ﴾ بِأنْ يَكُونَ المُرادُ سَنَأْخُذُ في جَزائِكم فَقَطْ الِاشْتِراكَ الأخْذَ في الجَزاءِ فَقَطْ، والفَراغِ عَنْ جَمِيعِ المَهامِّ إلى واحِدٍ في أنَّ المَعْنى بِهِ ذَلِكَ الواحِدٌ، وقِيلَ: المُرادُ التَّوَفُّرُ في الِانْتِقامِ والنِّكايَةِ، وذَلِكَ أنَّ الفَراغَ لِلشَّيْءِ يُسْتَعْمَلُ في التَّهْدِيدِ كَثِيرًا كَأنَّهُ فَرَغَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأجْلِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شُغْلٌ غَيْرَهَ فَيَدُلُّ عَلى التَّوَفُّرِ المَذْكُورِ، وهو كِنايَةٌ فِيمَن يَصِحُّ عَلَيْهِ، ومَجازٌ في غَيْرِهِ كالَّذِي نَحْنُ فِيهِ، ولَعَلَّ مُرادَ ابْنِ عَبّاسٍ والضَّحّاكِ بِقَوْلِهِما - كَما أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُما - هَذا وعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِعِبادِهِ ما ذَكَرَ، والخِطابُ عَلَيْهِ قِيلَ: لِلْمُجْرِمِينَ، وتُعُقِّبَ بِأنَّ النِّداءَ الآتِيَ يَأْباهُ، نَعَمِ المَقْصُودُ بِالتَّهْدِيدِ هم، وقِيلَ: لا مانِعَ مِن تَهْدِيدِ الجَمِيعِ، ثُمَّ إنَّ هَذا التَّهْدِيدَ إنَّما هو بِما يَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ، وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَوَعُدًا بِعَذابِ الدُّنْيا مِمّا لا يَكادُ يَلْتَفِتُ إلَيْهِ، وقِيلَ: إنَّ فَرَغَ يَكُونُ بِمَعْنى قَصَدَ، واسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِما أنْشَدَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ لِجَرِيرٍ: ؎الآنَ وقَدْ فَرَغْتَ إلى نُمَيْرٍ فَهَذا حِينَ كُنْتَ لَهُ عَذابًا أيْ قَصَدْتَ، وأنْشَدَ النَّحّاسُ: فَرَغَتَ إلى العَبْدِ المُقَيَّدِ في الحِجْلِ وفِي الحَدِيثِ ««لَأتَفَرَّغَنَّ لَكَ يا خَبِيثُ»» قالَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُخاطِبًا بِهِ أزَبَّ العَقَبَةِ يَوْمَ بَيْعَتِها أيْ لِأقْصُدَنَّ إبْطالَ أمْرِكَ، ونَقَلَ هَذا عَنِ الخَلِيلِ والكِسائِيِّ والفَرّاءِ، والظّاهِرُ أنَّهم حَمَلُوا ما في الآيَةِ عَلى ذَلِكَ، فالمُرادُ حِينَئِذٍ تَعَلُّقُ الإرادَةِ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا بِجَزائِهِمْ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو حَيْوَةَ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ - سَيَفْرُغُ - بِياءِ الغَيْبَةِ، وقَرَأ قَتادَةُ والأعْرَجُ «سَنَفْرَغُ» بِنُونِ العَظَمَةِ وفَتْحِ الرّاءِ مُضارِعُ فَرِغَ بِكَسْرِها - وهو لُغَةُ تَمِيمٍ - كَما أنَّ ﴿سَنَفْرُغُ﴾ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ مُضارِعُ فَرَغَ بِفَتْحِها لُغَةُ الحِجازِ، وقَرَأ أبُو السَّمّالِ وعِيسى «سَنِفْرَغُ» بِكَسْرِ النُّونِ وفَتْحِ الرّاءِ وهي - عَلى ما قالَ أبُو حاتِمٍ - لُغَةُ سُفْلى مُضَرِ، وقَرَأ الأعْمَشُ وأبُو حَيْوَةَ بِخِلافٍ عَنْهُما وابْنُ أبِي عَبْلَةَ والزَّعْفَرانِيُّ (p-112) «سَيُفْرَغُ» بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الرّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وقَرَأ عِيسى أيْضًا «سُنَفْرِغُ» بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ الرّاءِ، والأعْرَجُ أيْضًا - سَيَفْرَغُ - بِفَتْحِ الياءِ والرّاءِ وهي لُغَةٌ، وقُرِئَ سَأُفْرِغُ بِهَمْزَةِ المُتَكَلِّمِ وحْدَهُ، وقَرَأ أُبَيٌّ «سَنَفْرُغُ» إلَيْكُمُ عَداهُ بِإلى فَقِيلَ: لِلْحَمْلِ عَلى القَصْدِ، أوْ لِتَضْمِينِهِ مَعْناهُ أيْ ﴿سَنَفْرُغُ﴾ قاصِدَيْنِ إلَيْكم ﴿أيُّهَ الثَّقَلانِ﴾ هَمّا الإنْسُ والجِنُّ مِن ثِقَلِ الدّابَّةِ وهو ما يُحْمَلُ عَلَيْها جُعِلَتِ الأرْضُ كالحُمُولَةِ والإنْسِ والجِنِّ ثَقَلاها، وما سِواهُما عَلى هَذا كالعِلاوَةِ، وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: سُمِّيا بِذَلِكَ لِثِقَلِهِما عَلى الأرْضِ، أوْ لِرَزانَةِ رَأْيِهِما وقَدْرِهِما وعِظَمِ شَأْنِهِما. ويُقالُ لِكُلِ عَظِيمِ القَدْرِ مِمّا يُتَنافَسُ فِيهِ: ثِقَلٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««إنِّي تارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتابُ اللَّهِ وعِتْرَتِي»» وقِيلَ: سَمِّيا بِذَلِكَ لِأنَّهُما مُثْقَلانِ بِالتَّكْلِيفِ، وعَنِ الحَسَنِ لِثِقَلِهِما بِالذُّنُوبِ ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ الَّتِي مِن جُمْلَتِها التَّنْبِيهُ عَلى ما سَتَلْقَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ لِلتَّحْذِيرِ عَمّا يُؤَدِّي إلى سُوءِ الحِسابِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب