﴿أكُفّارُكُمْ﴾ يا مَعْشَرَ العَرَبِ ﴿خَيْرٌ﴾ إلَخْ والِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ في مَعْنى النَّفْيِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ما كُفّارُكم خَيْرٌ مِن أُولَئِكُمُ الكُفّارِ المَعْدُودِينَ بِأنْ يَكُونُوا أكْثَرَ مِنهم قُوَّةً وشِدَّةً وأوْفَرَ عَدَدًا وعُدَّةً، أوْ بِأنْ يَكُونُوا ألْيَنَ شَكِيمَةً في الكُفْرِ والعِصْيانِ (p-92)والضَّلالِ والطُّغْيانِ بَلْ هم دُونَهم في القُوَّةِ وما أشْبَهَها مِن زِينَةِ الدُّنْيا، أوْ أسْوَأ حالًا مِنهم في الكُفْرِ، وقَدْ أصابَ مَن هو خَيْرٌ ما أصابَ فَكَيْفَ يَطْمَعُونَ هم في أنْ لا يُصِيبَهم نَحْوُذَلِكَ، وكَذا قِيلَ: في الخِطابِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ لَكم بَراءَةٌ في الزُّبُرِ﴾ وجَعَلَ بِتَقْدِيرِ أمْ لِكُفّارِكم وهو إضْرابٌ وانْتِقالٌ إلى تَنْكِيتٍ آخَرَ فَكَأنَّهُ قِيلَ: بَلْ ألِكُفّارِكم بَراءَةٌ وأمْنٌ مِن تَبِعاتِ ما يَعْمَلُونَ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي وغَوائِلِها في الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ فَلِذَلِكَ يُصِرُّونَ عَلى ما هم عَلَيْهِ ولا يَخافُونَ، واخْتارَ بَعْضُهم في هَذا أنَّهُ خاصٌّ بِالكُفّارِ، وقالُوا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ إنَّهُ إضْرابٌ مِنَ التَّبْكِيتِ المَذْكُورِ إلى تَبْكِيتٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ لِلْإيذانِ بِإفْضاءِ حالِهِمْ إلى الإعْراضِ عَنْهم وإسْقاطِهِمْ عَنْ رُتْبَةِ الخِطابِ وحِكايَةِ قَبائِحِهِمْ لِغَيْرِهِمْ.
أيْ بَلْ أيَقُولُونَ واثِقِينَ بِشَوْكَتِهِمْ نَحْنُ جَماعَةٌ أمْرُنا مُجْتَمِعٌ لا يُرامُ ولا يُضامُ، أوْ ﴿مُنْتَصِرٌ﴾ مِنَ الأعْداءِ لا يُغْلَبُ، أوْ مُتَناصِرٌ يَنْصُرُ بَعْضُنا بَعْضًا.
والَّذِي يَتَرَجَّحُ في نَظَرِ الفَقِيرِ أنَّ الخِطابَ في المَوْضِعَيْنِ خاصٌّ عَلى ما يَقْتَضِيهِ السِّياقُ بِكُفّارِ أهْلِ مَكَّةَ أوِ العَرَبِ وهو ظَهْرٌ في المَوْضِعِ الثّانِي لا يَحْتاجُ إلى شَيْءٍ، وأمّا في المَوْضِعِ الأوَّلِ فَوَجْهُهُ أنْ تَكُونَ الإضافَةُ مِثْلُها في الدَّراهِمِ كُلِّها كَذا، وطُورِ سَيْناءَ، ويَوْمَ الأحَدِ ولَمْ يَقُلْ أأنْتُمْ لِلتَّنْصِيصِ عَلى كُفْرِهِمُ المُقْتَضِي لِهَلاكِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يُعْتَبَرَ في ﴿أكُفّارُكُمْ﴾ ضَرْبٌ مِنَ التَّجْرِيدِ الَّذِي ذَكَرُوهُ في نَحْوِ ﴿لَهم فِيها دارُ الخُلْدِ﴾ [فُصِّلَتْ: 28] فَكَأنَّهُ جُرِّدَ مِنهم كُفّارٌ وأضِيفُوا إلَيْهِمْ، وفي ذَلِكَ مِنَ المُبالَغَةِ ما فِيهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا وجْهًا لِلْعُدُولِ عَنْ أأنْتُمْ، ورُبَّما يَتَرَجَّحُ بِهِ كَوْنُ الخَيْرِيَّةِ المَنفِيَّةِ بِاعْتِبارِ لِينِ الشَّكِيمَةِ في الكُفْرِ وكَأنَّهُ لَمّا خَوَّفَ سُبْحانَهُ الكُفّارَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الآياتِ وأعْرَضُوا عَنْها، وقالُوا هي سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ بِذِكْرِ ما حَلَّ بِالأُمَمِ السّالِفَةِ مِمّا تَبْرُقُ وتُرْعِدُ مِنهُ أسارِيرُ الوَعِيدِ قالَ عَزَّ وجَلَّ لَهم: لِمَ لا تَخافُونَ أنْ يَحِلَّ بِكم مِثْلُ ما حَلَّ بِهِمْ أأنْتُمْ أقَلُّ كُفْرًا وعِنادًا مِنهم لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْأمْنِ مِن حُلُولِ نَحْوِ عَذابِهِمْ بِكم أمْ أُعْطاكُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بَراءَةً مِن عَذابِهِ أمْ أنْتُمْ أعَزُّ مِنهم مُنْتَصِرُونَ عَلى جُنُودِ اللَّهِ تَعالى وعَدَلَ سُبْحانَهُ عَنْ أمْ أنْتُمْ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ ذَلِكَ مِمّا لا تَحَقُّقَ لَهُ أصْلًا إلّا بِاللَّفْظِ ومَحْضِ الدَّعْوى الَّتِي لا يُوافَقُ عَلَيْها فَتَأمَّلْ، فَأسْرارُ كَلامِ اللَّهِ تَعالى لا تَتَناهى، ثُمَّ لا تَعْجَلْ بِالِاعْتِراضِ عَلى ما قُلْناهُ وإنْ لَمْ يَكُنْ لَنا سَلَفٌ فِيهِ حَسْبَما تَتَبَّعْنا، ثُمَّ إنَّ ( جَمِيعٌ ) عَلى ما أُشِيرَ إلَيْهِ بِمَعْنى الجَماعَةِ الَّتِي أمْرُها مُجْتَمِعٌ ولَيْسَ مِنَ التَّأْكِيدِ في شَيْءٍ بَلْ هو خَبَرُ ( نَحْنُ )، وجُوِّزَأنْ يَكُونَ بِمَعْنى مُجْتَمِعٍ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وهو (أمْرُنا) والجُمْلَةُ خَبَرُ ( نَحْنُ ) وأنْ يَكُونَ هو الخَبَرَ والإسْنادُ مَجازِيٌّ، ( ومُنْتَصِرٌ ) عَلى ما سَمِعْتَ إمّا بِمَعْنى مُمْتَنِعٍ يُقالُ: نَصَرَهُ فانْتَصَرَ إذا مَنَعَهُ فامْتَنَعَ.
والمُرادُ بِالِامْتِناعِ عَدَمُ المَغْلُوبِيَّةِ أوْ هو بِمَعْنى مُنْتَقِمٍ مِنَ الأعْداءِ أوْ هو مِنَ النَّصْرِ بِمَعْنى العَوْنِ والِافْتِعالِ بِمَعْنى التَّفاعُلِ كالِاخْتِصامِ والتَّخاصُمِ وكانَ الظّاهِرُ مُنْتَصِرُونَ إلّا أنَّهُ أُفْرِدَ بِاعْتِبارِ لَفْظِ الجَمِيعِ فَإنَّهُ مُفْرَدٌ لَفْظًا جَمْعٌ مَعْنى ورُجِّحَ هُنا جانِبُ اللَّفْظِ عَكْسَ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لِخِفَّةِ الإفْرادِ مَعَ رِعايَةِ الفاصِلَةِ ولَيْسَ في الآيَةِ رِعايَةُ جانِبِ المَعْنى أوَّلًا، ثُمَّ رِعايَةُ جانِبِ اللَّفْظِ ثانِيًا عَلى عَكْسِ المَشْهُورِ، وإنْ كانَ ذَلِكَ جائِزًا عَلى الصَّحِيحِ كَما لا يَخْفى عَلى الخَبِيرِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ ومُوسى الأسْوارِيُّ وأبُو البَرَهْسَمِ - أمْ تَقُولُونَ - بِتاءِ الخِطابِ.
{"ayahs_start":43,"ayahs":["أَكُفَّارُكُمۡ خَیۡرࣱ مِّنۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكُمۡ أَمۡ لَكُم بَرَاۤءَةࣱ فِی ٱلزُّبُرِ","أَمۡ یَقُولُونَ نَحۡنُ جَمِیعࣱ مُّنتَصِرࣱ"],"ayah":"أَكُفَّارُكُمۡ خَیۡرࣱ مِّنۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكُمۡ أَمۡ لَكُم بَرَاۤءَةࣱ فِی ٱلزُّبُرِ"}