الباحث القرآني
﴿قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأرْضُ مِنهُمْ﴾ أيْ ما تَأْكُلُ مِن لُحُومِ مَوْتاهم وعِظامِهِمْ وأشْعارِهِمْ، وهو رَدٌّ لِاسْتِبْعادِهِمْ بِإزاحَةِ ما هو الأصْلُ فِيهِ وهو أنَّ أجَزاءَهم تَفَرَّقَتْ فَلا تُعْلَمُ حَتّى تُعادَ بِزَعْمِهِمُ الفاسِدِ، وقِيلَ: ما تَنْقُصُ الأرْضُ مِنهم مَن يَمُوتُ فَيُدْفَنُ في الأرْضِ مِنهُمْ، ووَجْهُ التَّعْبِيرِ بِما ظاهِرٌ والأوَّلُ أظْهَرُ وهو المَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ﴾ تَعْمِيمٌ لِعِلْمِهِ تَعالى أيْ وعِنْدَنا كِتابٌ حافِظٌ لِتَفاصِيلِ الأشْياءِ كُلِّها ويَدْخُلُ فِيها أعْمالُهم أوْ مَحْفُوظٌ عَنِ التَّغَيُّرِ، والمُرادُ إمّا تَمْثِيلُ عِلْمِهِ تَعالى بِكُلِّيّاتِ الأشْياءِ وجُزْئِيّاتِها بِعِلْمِ مَن عِنْدَهُ كِتابٌ حَفِيظٌ يَتَلَقّى مِنهُ كُلُّ شَيْءٍ أوْ تَأْكِيدٌ لِعِلْمِهِ تَعالى بِثُبُوتِها في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ عِنْدَهُ سُبْحانَهُ.
هَذا وفي الآيَةِ إشارَةٌ إلى رَدِّ شُبْهَةٍ تَمَسَّكَ بِها مَن يَرى اسْتِحالَةَ إعادَةِ المَعْدُومِ وفي البَعْثِ لِذَلِكَ بِناءً عَلى أنَّ أجْزاءَ المَيِّتِ تَعْدَمُ ولا تَتَفَرَّقُ فَقَطْ، وحاصِلُها أنَّ الشَّيْءَ إذا عُدِمَ ولَمْ يَسْتَمِرَّ وُجُودُهُ في الزَّمانِ الثّانِي ثُمَّ أُعِيدَ في الزَّمانِ الثّالِثِ لَزِمَ التَّحَكُّمُ الباطِلُ في الحُكْمِ بِأنَّ هَذا المَوْجُودَ المُتَأخِّرَ هو بِعَيْنِهِ المَوْجُودُ السّابِقُ لا مَوْجُودَ آخَرَ مِثْلَهُ مُسْتَأْنِفٌ إذْ لَمّا فَقَدَ هُوِيَّةَ المَوْجُودِ الأوَّلِ لَمْ يَبْقَ مِنهُ شَيْءٌ مِنَ المَوْضُوعِ والعَوارِضِ الشَّخْصِيَّةِ حَتّى يَكُونَ المَوْجُودُ الثّانِي مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ ويَكُونَ مُرَجِّحًا لِلْحُكْمِ المَذْكُورِ ويَنْدَفِعَ التَّحَكُّمُ.
وحاصِلُ الرَّدِّ أنَّ اللَّهَ تَعالى عَلِيمٌ بِتَفاصِيلِ الأشْياءِ كُلِّها يَعْلَمُ كُلِّيّاتِها وجُزْئِيّاتِها عَلى أتَمِّ وجْهٍ وأكْمَلِهِ. فَلِلْمَعْدُومِ صُورَةٌ جُزْئِيَّةٌ عِنْدَهُ سُبْحانَهُ فَهو مَحْفُوظٌ بِعَوارِضِهِ الشَّخْصِيَّةِ في عِلْمِهِ تَعالى البَلِيغِ عَلى وجْهٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنِ المُسْتَأْنِفِ فَلا يَلْزَمُ التَّحَكُّمُ، ويَكُونُ ذَلِكَ نَظِيرَ انْحِفاظِ وحْدَةِ الصُّورَةِ الخَيالِيَّةِ فِينا بَعْدَ غَيْبَةِ المَحْسُوسِ عَنِ الحِسِّ كَما إذا رَأيْنا شَخْصًا فَغابَ عَنْ بَصَرِنا ثُمَّ رَأيْناهُ ثانِيًا فَإنّا نَحْكُمُ بِأنَّ هَذا الشَّخْصَ هو مَن رَأيْناهُ سابِقًا وهو حُكْمٌ مُطابِقٌ لِلْواقِعِ مَبْنِيٌّ عَلى انْحِفاظِ وحَدْةِ الصُّورَةِ الخَيالِيَّةِ قَطْعًا ولا يُنْكِرُهُ إلّا مُكابِرٌ، وقالَ بَعْضُ الأشاعِرَةِ: إنَّ لِلْمَعْدُومِ صُورَةً جُزْئِيَّةً حاصِلَةً بِتَعَلُّقِ صِفَةِ البَصَرِ مِنَ (p-174)المُوجِدِ وهو اللَّهُ تَعالى، ولَيْسَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ لِلْمُسْتَأْنِفِ وُجُودِهِ فَإنَّ صُورَتَهُ وإنْ كانَتْ جُزْئِيَّةً حَقِيقِيَّةً أيْضًا إلّا أنَّها لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلى تَعَلُّقِ صِفَةِ البَصَرِ ولا شَكَّ أنَّ المُتَرَتِّبَ عَلى تَعَلُّقِ صِفَةِ البَصَرِ أكْمَلُ مِن غَيْرِ المُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فَبَيْنَ الصُّورَتَيْنِ تَمايُزٌ واضِحٌ، وإذا انْحَفَظَ وحَدْةُ المَوْجُودِ الخارِجِيِّ بِالصُّوَرِ الجُزْئِيَّةِ الخَيالِيَّةِ لَنا فانْحِفاظُها بِالصُّورَةِ الجُزْئِيَّةِ الحاصِلَةِ لَهُ تَعالى بِواسِطَةِ تَعَلُّقِ صِفَةِ البَصَرِ بِالطَّرِيقِ الأوْلى انْتَهى، وهو حَسَنٌ لَكِنْ لا تُشِيرُ الآيَةُ إلَيْهِ.
وأيْضًا لا يَتِمُّ عِنْدَ القائِلِينَ بِعَدَمِ رُؤْيَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ المَعْدُوَماتِ مُطْلَقًا إلّا أنَّ أُولَئِكَ قائِلُونَ بِثُبُوتِ هُوِيّاتِ المَعْدُوماتِ مُتَمايِزَةً تَمايُزًا ذاتِيًّا حالَ العَدَمِ فَلا تَرِدُ عَلَيْهِمُ الشُّبْهَةُ السّابِقَةُ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ صِفَةَ البَصَرِ تَرْجِعُ إلى صِفَةِ العِلْمِ وتَعَلُّقاتُهُ مُخْتَلِفَةٌ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِعِلْمِهِ تَعالى تَعَلُّقًا خاصًّا بِالمَوْجُودِ الَّذِي عُدِمَ غَيْرَ تَعَلُّقِهِ بِالمُسْتَأْنِفِ في حالِ عَدَمِهِ وبِذَلِكَ يَحْصُلُ الِامْتِيازُ ويَنْدَفِعُ التَّحَكُّمُ، ويُقالُ عَلى مَذْهَبِ الحُكَماءِ: إنَّ صُورَةَ المَعْدُومِ السّابِقِ مُرْتَسِمَةٌ في القُوى المُنْطَبِعَةِ لِلْأفْلاكِ بِناءً عَلى أنَّ صُوَرَ جَمِيعِ الحَوادِثِ الجُسْمانِيَّةِ مُنْطَبِعَةٌ فِيها عِنْدَهم فَلَهُ صُورَةٌ خَيالِيَّةٌ جُزْئِيَّةٌ مَحْفُوظَةُ الوَحْدَةِ الشَّخْصِيَّةِ بَعْدَ فَنائِهِ بِخِلافِ المُسْتَأْنِفِ إذْ لَيْسَ تِلْكَ الصُّورَةُ قَبْلَ وُجُودِهِ وإنَّما لَهُ الصُّوَرُ الكُلِّيَّةُ في الأذْهانِ العالِيَةِ والسّافِلَةِ فَإذا أُوجِدَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ الجُزْئِيَّةُ كانَ مَعادًا وإذا أُوجِدَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ الكُلِّيَّةُ كانَ مُسْتَأْنِفًا ورُبَّما يَدَّعِي الإسْلامِيُّ المُتَفَلْسِفُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ﴾ رَمْزًا إلى ذَلِكَ، ولِلْجَلالِ الدَّوانِيُّ كَلامٌ في هَذا المَقامِ لا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ عِنْدَ ذَوِي الأفْهامِ، ثُمَّ إنَّ البَعْثَ لا يَتَوَقَّفُ عَلى صِحَّةِ إعادَةِ المَعْدُومِ عِنْدَ الأكْثَرِينَ لِأنَّهم لا يَقُولُونَ إلّا بِتَفَرُّقِ أجْزاءِ المَيِّتِ دُونَ انْعِدامِها بِالكُلِّيَّةِ، ولَعَلَّ في قَوْلِهِ تَعالى حِكايَةً عَنْ مُنْكِرِيهِ: ﴿أإذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا﴾ إشارَةٌ إلى ذَلِكَ.
وأخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: (قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ «لَيْسَ مِنَ الإنْسانِ شَيْءٌ لا يَبْلى إلّا عَظْمٌ واحِدٌ وهو عَجْبُ الذَّنَبِ مِنهُ يَرْكَبُ الخَلْقَ يَوْمَ القِيامَةِ)».
ولَيْسَ نَصًّا في انْعِدامِ ما عَدا العَجْبِ بِالمَرَّةِ لِاحْتِمالِ أنْ يُرادَ بِبَلا غَيْرِهِ مِنَ الأجْزاءِ انْحِلالُها إلى ما تَرَكَّبَتْ مِنهُ مِنَ العَناصِرِ وأمّا هو فَيَبْقى عَلى العَظْمِيَّةِ وهو جُزْءٌ صَغِيرٌ في العَظْمِ الَّذِي في أسْفَلِ الصُّلْبِ، ومِن كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ العَجَبُ أمْرُهُ عَجَبٌ هو أوَّلُ ما يُخْلَقُ وآخِرُ ما يُخْلَقُ
{"ayah":"قَدۡ عَلِمۡنَا مَا تَنقُصُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۡهُمۡۖ وَعِندَنَا كِتَـٰبٌ حَفِیظُۢ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق