الباحث القرآني

﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ﴾ تَبْكِيتٌ لِأُولَئِكَ الفَجَرَةِ أيْضًا، بِبَيانِ أنَّ الحَقِيقَ بِالنَّقْمِ والعَيْبِ حَقِيقَةً ما هم عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ المُحَرَّفِ، وفِيهِ نَعْيٌ عَلَيْهِمْ عَلى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ بِجِناياتِهِمْ، وما حاقَ بِهِمْ مِن تَبِعاتِها وعُقُوباتِها، ولَمْ يُصَرِّحْ سُبْحانَهُ لِئَلّا يَحْمِلَهُمُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ عَلى رُكُوبِ مَتْنِ المُكابَرَةِ والعِنادِ، وخاطَبَهم قَبْلَ البَيانِ بِما يُنْبِئُ عَنْ عِظَمِ شَأْنِ المُبَيَّنِ، ويَسْتَدْعِي إقْبالَهم عَلى تَلَقِّيهِ مِنَ الجُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ المُشَوِّقَةِ إلى المُخْبَرِ بِهِ، والتَّنْبِئَةِ المُشْعِرَةِ بِكَوْنِهِ أمْرًا خَطِرًا لِما أنَّ النَّبَأ هو الخَبَرُ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ وخَطَرٌ، والإشارَةُ إلى الدِّينِ المُتَقَوَّمِ لَهُمْ، واعْتُبِرَتِ الشَّرِّيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ - مَعَ أنَّهُ خَيْرٌ مَحْضٌ مُنَزَّهٌ عَنْ شائِبَةِ الشَّرِّيَّةِ بِالكُلِّيَّةِ - مُجاراةً مَعَهم عَلى زَعْمِهِمُ الباطِلِ المُنْعَقِدِ عَلى كَمالٍ شَرِّيَّتِهِ - وحاشاهُ - لِيُثْبِتَ أنَّ دِينَهم شَرٌّ مِن كُلِّ شَرٍّ، ولَمْ يَقِلْ سُبْحانَهُ بِـ( أنْقَمَ ) تَنْصِيصًا عَلى مَناطِ الشَّرِّيَّةِ؛ لِأنَّ مُجَرَّدَ النَّقْمِ لا يُفِيدُها البَتَّةَ لِجَوازِ كَوْنِ العَيْبِ مِن جِهَةِ العائِبِ. ؎فَكَمْ مِن عائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ وفِي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِشَرِّيَّةِ ما سَيُذْكَرُ، وزِيادَةُ تَقْرِيرٍ لَها، وقِيلَ: إنَّما قالَ: ( بِشَرٍّ ) لِوُقُوعِهِ في عِبارَةِ المُخاطَبِينَ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وغَيْرُهُما، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - قالَ: ««أتى النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - نَفَرٌ مِن يَهُودَ، فِيهِمْ أبُو ياسِرِ بْنُ أخْطَبَ، ونافِعُ بْنُ أبِي نافِعٍ، وغازِي بْنُ عَمْرٍو، وزَيْدٌ، وخالِدٌ، وإزارُ بْنُ أبِي إزارٍ، فَسَألُوهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ؟ قُلْ: أُومِنُ بِاللَّهِ تَعالى، وما أُنْزِلَ إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ، وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَلَمّا ذَكَرَ عِيسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وقالُوا: لا نُؤْمِنُ بِعِيسى، ولا نُؤْمِنُ بِمَن آمَنَ بِهِ، ثُمَّ قالُوا - كَما في رِوايَةِ الطَّبَرانِيِّ – لا نَعْلَمُ دِينًا شَرًّا مِن دِينِكُمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ»» وبِهَذا الخَبَرِ انْتَصَرَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ المُخاطَبِينَ بِـ( أُنَبِّئُكم ) هم أهْلُ الكِتابِ. وقالَ بَعْضُهُمُ: المُخاطَبُ هُمُ الكُفّارُ مُطْلَقًا، وقِيلَ: هُمُ المُؤْمِنُونَ، وكَما اخْتُلِفَ في الخِطابِ اخْتُلِفَ في المُشارِ إلَيْهِ بِذَلِكَ، فالجُمْهُورُ عَلى ما قَدَّمْناهُ، وقِيلَ: الإشارَةُ إلى الأكْثَرِ الفاسِقِينَ، ووُحِّدَ الِاسْمُ إمّا لِأنَّهُ يُشارُ بِهِ إلى الواحِدِ وغَيْرِهِ ولَيْسَ كالضَّمِيرِ، أوْ لِتَأْوِيلِهِ بِالمَذْكُورِ ونَحْوِهِ. وقِيلَ: الإشارَةُ إلى الأشْخاصِ المُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ هم أهْلُ الكِتابِ، والمُرادُ أنَّ السَّلَفَ شَرٌّ مِنَ الخَلَفِ ﴿مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾ أيْ جَزاءً ثابِتًا عِنْدَهُ تَعالى، وهو مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنى الثَّوابِ، ويُقالُ في الخَيْرِ والشَّرِّ؛ لِأنَّهُ (p-175)ما رَجَعَ إلى الإنْسانِ مِن جَزاءِ أعْمالِهِ، سُمِّيَ بِهِ بِتَصَوُّرِ أنَّ ما عَلِمَهُ يَرْجِعُ إلَيْهِ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى:﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ ﴿ومَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ سُبْحانَهُ: يَرَ جَزاءَهُ، إلّا أنَّ الأكْثَرَ المُتَعارَفَ اسْتِعْمالُهُ في الخَيْرِ، ومِثْلُهُ في ذَلِكَ المَثُوبَةُ، واسْتِعْمالُها هُنا في الشَّرِّ عَلى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، كَقَوْلِهِ: تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وجِيعٌ ونَصْبُها عَلى التَّمْيِيزِ مِن ( بِشَرٍّ ) وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ تُجْعَلَ مَفْعُولًا لَهُ لِـ( أُنَبِّئُكم )، أيْ: هَلْ أُنَبِّئُكم لِطَلَبِ مَثُوبَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى في هَذا الإنْباءِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَصِيرَ سَبَبَ مَخافَتِكم ويُفْضِي إلى هِدايَتِكُمْ، وعَلَيْهِ فالمَثُوبَةُ في المُتَعارَفِ مِنِ اسْتِعْمالِها، وهو وإنْ كانَ لَهُ وجْهٌ لَكِنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ. وقُرِئَ: ( مَثْوَبَةً ) بِسُكُونِ الثّاءِ وفَتْحِ الواوِ، ومِثْلُها مَشُورَةٌ ومَشْوَرَةٌ خِلافًا لِلْحَرِيرِيِّ في إيجابِهِ مَشُورَةً كَمَعُونَةٍ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ قَبْلَهُ مُناسِبٍ لِما أُشِيرَ إلَيْهِ بِذَلِكَ، أيْ: دِينِ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ إلَخْ، أوْ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ قَبْلَ اسْمِ الإشارَةِ مُناسِبٍ لِـ( مَن ) أيْ: بِشَرٍّ مِن أهْلِ ذَلِكَ، والجُمْلَةُ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ اسْتِئْنافٌ وقَعَ جَوابًا لِسُؤالٍ نَشَأ مِنَ الجُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ - كَما قالَ الزَّجّاجُ - إمّا عَلى حالِها أوْ بِاعْتِبارِ التَّقْدِيرِ فِيها، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ما الَّذِي هو شَرٌّ مِن ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: هو دِينُ مَن لَعَنَهُ إلَخْ، أوْ مَنِ الَّذِي هو شَرٌّ مِن أهْلِ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: هو مَن لَعَنَهُ اللَّهُ، إلَخْ. وجُوِّزَ – ولا يَنْبَغِي أنْ يُجَوَّزَ عِنْدَ التَّأمُّلِ - أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن شَرٍّ، ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ أيْضًا عَلى نَحْوِ ما سَبَقَ آنِفًا، والِاحْتِياجُ إلَيْهِ ها هُنا لِيُخْرَجَ مِن كَوْنِهِ بَدَلَ غَلَطٍ، وهو لا يَقَعُ في فَصِيحِ الكَلامِ، وأمّا في الوَجْهِ الأوَّلِ فَأظْهَرُ مِن أنْ يُخْفى، وإذا جُعِلَ ذَلِكَ إشارَةً إلى الأشْخاصِ لَمْ يَحْتَجِ الكَلامُ إلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، كَما هو ظاهِرٌ، ووَضْعُ الِاسْمِ الجَلِيلِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ، وإدْخالِ الرَّوْعَةِ، وتَهْوِيلِ أمْرِ اللَّعْنِ وما تَبِعَهُ، والمَوْصُولُ عِبارَةٌ عَنْ أهْلِ الكِتابِ، حَيْثُ أبْعَدَهُمُ اللَّهُ تَعالى عَنْ رَحْمَتِهِ، وسَخِطَ عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ، وانْهِماكِهِمْ في المَعاصِي، بَعْدَ وُضُوحِ الآياتِ، وسُطُوعِ البَيِّناتِ. ﴿وجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ﴾ أيْ: مَسَخَ بَعْضَهم قِرَدَةً، وهم أصْحابُ السَّبْتِ، وبَعْضَهم خَنازِيرَ، وهم كُفّارُ مائِدَةِ عِيسى، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّ المَسْخَيْنِ كانا في أصْحابِ السَّبْتِ، مُسِخَتْ شُبّانُهم قِرَدَةً، وشُيُوخُهم خَنازِيرَ، وضَمِيرُ ( مِنهم ) راجِعٌ إلى ( مَن ) بِاعْتِبارِ مَعْناهُ، كَما أنَّ الضَّمِيرَيْنِ الأوَّلَيْنِ لَهُ بِاعْتِبارِ لَفْظِهِ، وكَذا الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وعَبَدَ الطّاغُوتَ﴾ فَإنَّهُ عَطْفٌ عَلى صِلَةِ ( مَن ) كَما قالَ الزَّجّاجُ، وزَعَمَ الفَرّاءُ أنَّ في الكَلامِ مَوْصُولًا مَحْذُوفًا، أيْ: ومَن عَبَدَ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى مَنصُوبِ ( جَعَلَ ) أيْ: وجَعَلَ مِنهم مَن عَبَدَ إلَخْ، ولا يَخْفى أنَّهُ لا يَصْلُحُ إلّا عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، والمُرادُ بِالطّاغُوتِ - عِنْدَ الجُبّائِيِّ - العِجْلُ الَّذِي عَبَدَ اليَهُودُ،وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - والحَسَنِ أنَّهُ الشَّيْطانُ، وقِيلَ: الكَهَنَةُ وكُلُّ مَن أطاعُوهُ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعالى، والعِبادَةُ - فِيما عَدا القَوْلِ الأوَّلِ - مَجازٌ عَنِ الإطاعَةِ. قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: وتَقْدِيمُ أوْصافِهِمُ المَذْكُورَةِ بِصَدَدِ إثْباتِ شَرِّيَّةِ دِينِهِمْ عَلى وصْفِهِمْ هَذا مَعَ أنَّهُ الأصْلُ المُسْتَتْبِعُ لَها في الوُجُودِ، وأنَّ دَلالَتَهُ عَلى شَرِّيَّتِهِ بِالذّاتِ؛ لِأنَّ عِبادَةَ الطّاغُوتِ عَيْنُ دِينِهِمُ البَيِّنِ البُطْلانِ، ودَلالَتُها عَلَيْها بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلالِ بِشَرِّيَّةِ الآثارِ عَلى شَرِّيَّةِ ما يُوجِبُها مِنَ الِاعْتِقادِ والعَمَلِ، إمّا لِلْقَصْدِ إلى تَبْكِيتِهِمْ مِن أوَّلِ الأمْرِ بِوَصْفِهِمْ بِما لا سَبِيلَ لَهم إلى الجُحُودِ لا بِشَرِّيَّتِهِ وفَظاعَتِهِ ولا بِاتِّصافِهِمْ بِهِ، وإمّا لِلْإيذانِ بِاسْتِقْلالِ كُلٍّ مِنَ المُقَدَّمِ والمُؤَخَّرِ بِالدَّلالَةِ عَلى ما ذُكِرَ مِنَ الشَّرِّيَّةِ، ولَوْ رُوعِيَ تَرْتِيبُ الوُجُودِ وقِيلَ: مَن عَبَدَ الطّاغُوتَ، ولَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ - إلَخْ - لَرُبَّما فُهِمَ أنَّ عِلِّيَّةَ الشَّرِّيَّةِ هو المَجْمُوعُ، انْتَهى. (p-176)وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ كَوْنَ الوَصْفِ أصْلًا غَيْرُ ظاهِرٍ - عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الجُبّائِيُّ - وأنَّ كَوْنَ الِاتِّصافِ بِاللَّعْنِ والغَضَبِ مِمّا لا سَبِيلَ لَهُمُ إلى الجُحُودِ بِهِ في حَيِّزِ المَنعِ، كَيْفَ وهَمَ يَقُولُونَ: ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ ؟! إلّا أنْ يُقالَ: إنَّ الآثارَ المُتَرَتِّبَةَ عَلى ذَلِكَ الدّالَّةَ عَلَيْهِ في غايَةِ الظُّهُورِ، بِحَيْثُ يَكُونُ إنْكارُ مَدْلُولِها مُكابَرَةً. وقِيلَ: قَدَّمَ وصْفَيِ اللَّعْنِ والغَضَبِ؛ لِأنَّهُما صَرِيحانِ في أنَّ القَوْمَ مَنقُومُونَ، ومُشِيرانِ إلى أنَّ ذَلِكَ الأمْرَ عَظِيمٌ، وعَقَّبَهُما بِالجَعْلِ المَذْكُورِ لِيَكُونَ كالِاسْتِدْلالِ عَلى ذَلِكَ، وأرْدَفَهُ بِعِبادَةِ الطّاغُوتِ الدّالَّةِ عَلى شَرِّيَّةِ دِينِهِمْ أتَمَّ دَلالَةٍ لِيَتَمَكَّنَ في الذِّهْنِ أتَمَّ تَمَكُّنٍ لِتَقَدُّمِ ما يُشِيرُ إلَيْها إجْمالًا، وهَذا أيْضًا غَيْرُ ظاهِرٍ عَلى مَذْهَبِ الجُبّائِيِّ، ولَعَلَّ رِعايَتَهُ غَيْرُ لازِمَةٍ لِانْحِطاطِ دَرَجَتِهِ في هَذا المَقامِ، والظّاهِرُ مِن عِبارَةِ شَيْخِ الإسْلامِ أنَّهُ بَنى كَلامَهُ عَلى هَذا المَذْهَبِ، حَيْثُ قالَ بَعْدَما قالَ: والمُرادُ مِنَ الطّاغُوتِ العِجْلُ، وقِيلَ: الكَهَنَةُ وكُلُّ مَن أطاعُوهُ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعالى، فَيَعُمُّ الحُكْمُ دِينَ النَّصارى أيْضًا، ويَتَّضِحُ وجْهُ تَأْخِيرِ عِبادَتِهِ عَنِ العُقُوباتِ المَذْكُورَةِ، إذْ لَوْ قُدِّمَتْ عَلَيْها لَزِمَ اشْتِراكُ الفَرِيقَيْنِ في تِلْكَ العُقُوباتِ، انْتَهى، فَتَدَبَّرْ حَقَّهُ. وفِي الآيَةِ - كَما قالَ جَمْعٌ - عِدَّةُ قِراءاتٍ، اثْنَتانِ مِنَ السَّبْعَةِ، وما عَداهُما شاذٌّ، فَقَرَأ الجُمْهُورُ غَيْرَ حَمْزَةَ ( عَبَدَ ) عَلى صِيغَةِ الماضِي المَعْلُومِ و( الطّاغُوتَ ) بِالنَّصْبِ، وهي القِراءَةُ الَّتِي بُنِيَ التَّفْسِيرُ عَلَيْها، وقَرَأ حَمْزَةُ و( عَبُدَ الطّاغُوتِ ) بِفَتْحِ العَيْنِ وضَمِّ الباءِ وفَتْحِ الدّالِّ وخَفْضِ الطّاغُوتِ، عَلى أنَّ ( عَبُدَ ) واحِدٌ مُرادٌ بِهِ الجِنْسُ، ولَيْسَ بِجَمْعٍ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهُ في أبْنِيَتِهِ، بَلْ هو صِيغَةُ مُبالَغَةٍ، ولِذا قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْناهُ الغُلُوُّ في العُبُودِيَّةِ، وأنْشَدَ عَلَيْهِ قَوْلَ طَرَفَةَ: ؎أبَنِي لُبَيْنى إنَّ أُمَّكم ∗∗∗ أمَةٌ وإنَّ أباكم عَبُدُ أرادَ عَبْدًا، وقَدْ ذَكَرَ مِثْلَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ والزَّجّاجُ، فَقالا: ضُمَّتِ الباءُ لِلْمُبالَغَةِ، كَقَوْلِهِمْ لِلْفَطِنِ والحَذِرِ: فَطُنٌ وحَذُرٌ بِضَمِّ العَيْنِ، فَطَعْنُ أبِي عُبَيْدَةَ والفَرّاءِ في هَذِهِ القِراءَةِ ونِسْبَةُ قارِئِها إلى الوَهْمِ وهْمٌ، والنُّصْبُ بِالعَطْفِ عَلى القِرَدَةِ والخَنازِيرِ. وقُرِئَ ( وعَبُدِ ) بِفَتْحِ العَيْنِ وضَمِّ الباءِ وكَسْرِ الدّالِّ وجَرِّ الطّاغُوتِ بِالإضافَةِ والعَطْفِ عَلى ( مِن ) بِناءً عَلى أنَّهُ مَجْرُورٌ بِتَقْدِيرِ المُضافِ أوْ بِالبَدَلِيَّةِ عَلى ما قِيلَ، ولَمْ يُرْتَضَ. وقَرَأ أُبَيٌّ ( عَبَدُوا ) بِضَمِيرِ الجَمْعِ العائِدِ عَلى ( مِن ) بِاعْتِبارِ مَعْناها، والعَطْفُ مِثْلُهُ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وقَرَأ الحَسَنُ ( عِبادَ ) جَمْعُ عَبْدٍ، و( عَبْدَ ) بِالإفْرادِ، بِجَرِّ الطّاغُوتِ ونَصْبِهِ، والجَرُّ بِالإضافَةِ، والنَّصْبُ إمّا عَلى أنَّ الأصْلَ ( عَبَدَ ) بِفَتْحِ الباءِ، أوْ ( عَبْدٌ ) بِالتَّنْوِينِ فَحُذِفَ كَقَوْلِهِ: ولا ذاكِرِ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا بِنَصْبِ الِاسْمِ الجَلِيلِ، والعَطْفُ ظاهِرٌ. وقَرَأ الأعْمَشُ والنَّخَعِيُّ وأبانٌ ( عُبِدَ ) عَلى صِيغَةِ الماضِي المَجْهُولِ مَعَ رَفْعِ الطّاغُوتِ، عَلى أنَّهُ نائِبُ الفاعِلِ، والعَطْفُ عَلى صِلَةِ ( مِن ) وعائِدُ المَوْصُولِ مَحْذُوفٌ، أيْ ( عُبِدَ ) فِيهِمْ أوْ بَيْنَهُمْ، وقَرَأ بَعْضٌ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ أنَّثَ فَقَرَأ ( عُبِدَتْ ) بِتاءِ التَّأْنِيثِ السّاكِنَةِ، والطّاغُوتُ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ كَما مَرَّ، وأمْرُ العَطْفِ والعائِدِ عَلى طِرْزِ القِراءَةِ قَبْلُ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ ( عَبُدَ ) بِفَتْحِ العَيْنِ وضَمِّ الباءِ وفَتْحِ الدّالِّ مَعَ رَفْعِ الطّاغُوتِ عَلى الفاعِلِيَّةِ لِـ( عَبُدَ ) وهو كَـ( شَرُفَ )، كَأنَّ العِبادَةَ صارَتْ سَجِيَّةً لَهُ، أوْ أنَّهُ بِمَعْنى صارَ مَعْبُودًا كَـ( أُمِرَ ) أيْ صارَ أمِيرًا، والعائِدُ عَلى المَوْصُولِ عَلى هَذا أيْضًا مَحْذُوفٌ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ( عُبُدَ ) بِضَمِّ العَيْنِ والباءِ وفَتْحِ الدّالِّ وجَرِّ ( الطّاغُوتِ )، فَعَنِ الأخْفَشِ أنَّهُ جَمْعُ ( عَبِيدٍ ) جَمْعِ ( عَبْدٍ ) فَهو جَمْعُ الجَمْعِ، أوْ جَمْعُ ( عابِدٍ ) كَـ( شارِفٍ ) و( شُرُفٍ ) أوْ جَمْعُ ( عَبْدٍ ) كَـ( سَقْفٍ ) و( سُقُفٍ ) أوْ جَمْعُ ( عِبادٍ ) كَـ( كِتابٍ ) و( كُتُبٍ ) فَهو جَمْعُ الجَمْعِ أيْضًا، مِثْلُ ( ثِمارٍ ) و( ثُمُرٍ ). (p-177)وقَرَأ الأعْمَشُ أيْضًا ( عُبَّدَ ) بِضَمِّ العَيْنِ، وتَشْدِيدِ الباءِ المَفْتُوحَةِ، وفَتْحِ الدّالِّ، وجَرِّ ( الطّاغُوتِ )، جَمْعُ ( عابِدٍ ) و( عَبْدٍ ) ( كَحُطَّمٍ وزُفَّرٍ ) مَنصُوبًا مُضافًا لِلطّاغُوتِ مُفْرِدًا. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ أيْضًا ( عُبَّدَ ) بِضَمِّ العَيْنِ، وفَتَحِ الباءِ المُشَدَّدَةِ، وفَتْحِ الدّالِّ، ونَصْبِ ( الطّاغُوتِ ) عَلى حَدِّ: ولا ذاكِرِ اللَّهَ إلّا قَلِيلًا بِنَصْبِ الِاسْمِ الجَلِيلِ. وقُرِئَ ( وعابِدَ الشَّيْطانِ ) بِنَصْبِ ( عابِدٍ ) وجَرِّ ( الشَّيْطانِ ) بَدَلَ الطّاغُوتِ، وهو تَفْسِيرٌ عِنْدَ بَعْضِ لا قِراءَةٌ. وقُرِئَ ( عُبّادَ ) كَجُهّالٍ و( عِبادَ ) كَرِجالٍ، جَمْعُ عابِدٍ أوْ عَبْدٍ، وفِيهِ إضافَةُ العِبادِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى، وقَدْ مَنَعَهُ بَعْضُهم. وقُرِئَ ( عابِدُ ) بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، وجَرِّ الطّاغُوتِ. وقُرِئَ ( عابِدُوا ) بِالجَمْعِ والإضافَةِ. وقُرِئَ ( عابَدَ ) مَنصُوبًا. وقُرِئَ ( عَبَدَ الطّاغُوتِ ) بِفَتَحاتٍ مُضافًا عَلى أنَّ أصْلَهُ ( عَبَدَةٌ ) كَـ( كَفَرَةٍ ) فَحُذِفَتْ تاؤُهُ لِلْإضافَةِ، كَقَوْلِهِ: وأخْلَفُوكَ عِدا الأمْرِ الَّذِي وعَدُوا أيْ عِدَتَهُ، كَإقامِ الصَّلاةِ، أوْ هو جَمْعٌ، أوِ اسْمُ جَمْعٍ لِعابِدٍ، كَخادِمٍ وخَدَمٍ. وقُرِئَ ( أعْبُدَ ) كَأكْلُبٍ، و( عَبِيدَ ) جَمْعٌ أوِ اسْمُ جَمْعٍ، و( عابِدِي ) جَمْعٌ بِالياءِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ أيْضًا ( ومَن عَبَدُوا ). ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ المَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ القَبائِحِ والفَضائِحِ، وهو مُبْتَدَأٌ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿شَرٌّ﴾ خَبَرُهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَكانًا﴾ تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الفاعِلِ، وإثْباتُ الشَّرارَةِ لِمَكانِهِمْ؛ لِيَكُونَ أبْلَغَ في الدَّلالَةِ عَلى شَرارَتِهِمْ، فَقَدْ صَرَّحُوا أنَّ إثْباتَ الشَّرارَةِ لِمَكانِ الشَّيْءِ كِنايَةٌ عَنْ إثْباتِها لَهُ كَقَوْلِهِمْ: سَلامٌ عَلى المَجْلِسِ العالِي. والمَجْدُ بَيْنَ بُرْدَيْهِ. فَكَأنَّ شَرَّهم أثَّرَ في مَكانِهِمْ، أوْ عَظُمَ حَتّى صارَ مُجَسَّمًا. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الإسْنادُ مَجازِيًّا، كَـ( جَرى النَّهْرُ ) وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَكانُ بِمَعْنى مَحَلِّ السُّكُونِ والقَرارِ الَّذِي يَكُونُ أمْرُهم إلى التَّمَكُّنِ فِيهِ، أيْ شَرٌّ مُنْصَرِفًا، والمُرادُ بِهِ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصِيرُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ مِنهُ تَعالى شَهادَةً عَلَيْهِمْ بِكَمالِ الشَّرارَةِ والضَّلالِ، وداخِلَةٌ تَحْتَ الأمْرِ؛ تَأْكِيدًا لِلْإلْزامِ، وتَشْدِيدًا لِلتَّبْكِيتِ، وجَعْلُها جَوابًا لِلسُّؤالِ النّاشِئِ مِنَ الجُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ لِيَسْتَقِيمَ احْتِمالُ البَدَلِيَّةِ السّابِقُ مِمّا لا يَكادُ يَسْتَقِيمُ. ﴿وأضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ أيْ أكْثَرَ ضَلالًا عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ المُعْتَدِلِ، وهو دِينُ الإسْلامِ والحَنِيفِيَّةِ، وهو عَطْفٌ عَلى ( شَرٌّ ) مُقَرِّرٌ لَهُ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى كَوْنِ دِينِهِمْ شَرًّا مَحْضًا بَعِيدًا عَنِ الحَقِّ؛ لِأنَّ ما يَسْلُكُونَهُ مِنَ الطَّرِيقِ دِينُهُمْ، فَإذا كانُوا أضَلَّ كانَ دِينُهم ضَلالًا مُبِينًا لا غايَةَ وراءَهُ، والمَقْصُودُ مِن صِيغَتَيِ التَّفْضِيلِ الزِّيادَةُ مُطْلَقًا، مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى مُشارَكَةِ غَيْرٍ في ذَلِكَ، وقِيلَ: لِلتَّفْضِيلِ عَلى زَعْمِهِمْ، وقِيلَ: إنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِهِمْ مِنَ الكُفّارِ. وقالَ بَعْضُهُمْ: لا مانِعَ أنْ يُقالَ: إنَّ مَكانَهم في الآخِرَةِ شَرٌّ مِن مَكانِ المُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا؛ لِما لَحِقَهم فِيهِ مِن مَكارِهِ الدَّهْرِ، وسَماعِ الأذى، والهَضْمِ مِن جانِبِ أعْدائِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب