الباحث القرآني

﴿ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيانِ كَمالِ سُوءِ حالِ الطّائِفَةِ المَذْكُورَةِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ وابْنُ عامِرٍ بِغَيْرِ واوٍ، عَلى أنَّهُ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا يَقُولُ المُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ؟ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ: ( ويَقُولَ ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى ( فَيُصْبِحُوا ) وقِيلَ: عَلى ( أنْ يَأْتِيَ ) بِحَسَبِ المَعْنى، كَأنَّهُ قِيلَ: عَسى أنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِالفَتْحِ ( ويَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بِإسْنادِ ( يَأْتِيَ ) إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ دُونَ ضَمِيرِهِ، واعْتُبِرَ ذَلِكَ لِأنَّ العَطْفَ عَلى خَبَرِ ( عَسى ) أوْ مَفْعُولِها يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ فِيهِ ضَمِيرُ اللَّهِ تَعالى لِيَصِحَّ الإخْبارُ بِهِ، أوْ لِيُجْرى عَلى اسْتِعْمالِهِ، ولا ضَمِيرَ فِيهِ هُنا ولا ما يُغْنِي عَنْهُ، وفي صُورَةِ العَطْفِ بِاعْتِبارِ المَعْنى تَكُونُ ( عَسى ) تامَّةً لِإسْنادِها إلى ( أنْ ) وما في حَيِّزِها، فَلا حاجَةَ حِينَئِذٍ إلى ضَمِيرٍ، وهَذا - كَما قِيلَ - قَرِيبٌ مِن عَطْفِ التَّوَهُّمِ، وكَأنَّهم عَبَّرُوا عَنْهُ بِذَلِكَ دُونَهُ تَأدُّبًا، وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ ( أنْ يَأْتِيَ ) بَدَلًا مِنَ الِاسْمِ الجَلِيلِ، والعَطْفُ عَلى البَدَلِ و( عَسى ) تامَّةٌ أيْضًا - كَما صَرَّحَ بِهِ الفارِسِيُّ - وبَعْضُهم يَجْعَلُ العَطْفَ عَلى خَبَرِ ( عَسى )، ويُقَدِّرُ ضَمِيرًا، أيْ: ( ويَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا ) بِهِ، وذَهَبَ ابْنُ النَّحّاسِ إلى أنَّ العَطْفَ عَلى الفَتْحِ، وهو نَظِيرُ: ولُبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي واعْتُرِضَ بِأنَّ فِيهِ الفَصْلَ بَيْنَ أجْزاءِ الصِّلَةِ، وهو لا يَجُوزُ، وبِأنَّ المَعْنى حِينَئِذٍ عَسى اللَّهُ تَعالى أنْ يَأْتِيَ بِقَوْلِ المُؤْمِنِينَ، وهو رَكِيكٌ، وأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ بِالفَرْقِ بَيْنَ الإجْزاءِ بِالفِعْلِ والإجْزاءِ بِالتَّقْدِيرِ، وعَنِ الثّانِي بِأنَّ المُرادَ عَسى اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يَأْتِيَ بِما يُوجِبُ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ مِنَ النُّصْرَةِ المُظْهِرَةِ لِحالِهِمْ. واخْتارَ شَيْخُ الإسْلامِ - قُدِّسَ سِرُّهُ – ما قَدَّمْناهُ، ولا يَحْتاجُ إلى تَكَلُّفِ مَؤُونَةِ تَقْدِيرِ الضَّمِيرِ؛ لِأنَّ ( فَتُصْبِحُوا ) كَما عَلِمْتَ مَعْطُوفٌ عَلى ( يَأْتِيَ ) والفاءُ كافِيَةٌ فِيهِ عَنِ الضَّمِيرِ، فَتَكْفِي عَنِ الضَّمِيرِ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ أيْضًا؛ لِأنَّ المُتَعاطِفَيْنِ كالشَّيْءِ الواحِدِ، ولا حاجَةَ - مَعَ هَذا - إلى القَوْلِ بِأنَّ العَطْفَ عَلَيْهِ بِناءً عَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ في جَوابِ التَّرَجِّي إجْراءً لَهُ مَجْرى التَّمَنِّي - كَما قالَ ابْنُ الحاجِبِ - لِأنَّ هَذا إنَّما يُجِيزُهُ الكُوفِيُّونَ فَقَطْ، بِخِلافِ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، والمَعْنى: ويَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا مُخاطِبِينَ لِلْيَهُودِ، مُشِيرِينَ إلى المُنافِقِينَ، الَّذِينَ كانُوا يُوالُونَهُمْ، ويَرْجُونَ دَوْلَتَهُمْ، ويُظْهِرُونَ لَهم غايَةَ المَحَبَّةِ، وعَدَمَ المُفارَقَةِ عَنْهم في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ - عِنْدَ مُشاهَدَتِهِمْ تَخْيِبَةَ رَجائِهِمْ وانْعِكاسَ تَقْدِيرِهِمْ لِوُقُوعِ ضِدِّ ما كانُوا يَتَرَقَّبُونَهُ ويَتَعالَوْنَ بِهِ - تَعْجِيبًا لِلْمُخاطَبِينَ مِن حالِهِمْ، وتَعْرِيضًا بِهِمْ: ﴿أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ إنَّهم لَمَعَكُمْ﴾ أيْ بِالنُّصْرَةِ والمَعُونَةِ - كَما قالُوهُ - فِيما حُكِيَ عَنْهُمْ: ( وإنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكم ) فاسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ، وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ، والمَعْنى إنْكارُ ما فَعَلُوهُ واسْتِعْبادُهُ، وتَخْطِئَتُهم في ذَلِكَ، قالَهُ شَيْخُ الإسْلامِ وغَيْرُهُ. واخْتارَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّ المَعْنى: يَقُولُ المُؤْمِنُونَ الصّادِقُونَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: ﴿أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾ تَعالى لِلْيَهُودِ ﴿إنَّهم لَمَعَكُمْ﴾ والخِطابُ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ لِلْيَهُودِ، إلّا أنَّهُ عَلى الأوَّلِ مِن (p-160)جِهَةِ المُؤْمِنِينَ، وعَلى الثّانِي مِن جِهَةِ المُقْسِمِينَ. وفِي البَحْرِ أنَّ الخِطابَ عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي لِلْمُؤْمِنِينَ، أيْ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْضُهم لِبَعْضٍ تَعَجُّبًا مَن حالَ المُنافِقِينَ إذْ أغْلَظُوا بِالأيْمانِ لَهُمْ، وأقْسَمُوا أنَّهم مَعَكُمْ، وأنَّهم مُعاضِدُوكم عَلى أعْدائِكُمُ اليَهُودِ، فَلَمّا حَلَّ بِاليَهُودِ ما حَلَّ أظْهَرُوا ما كانُوا يُسِرُّونَهُ مِن مُوالاتِهِمْ والتَّمالِئِ عَلى المُؤْمِنِينَ، وإلَيْهِ يُشِيرُ كَلامُ عَطاءٍ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ كَما لا يَخْفى. وجُمْلَةُ ( إنَّهم لَمَعَكم ) لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ؛ لِأنَّها تَفْسِيرٌ وحِكايَةٌ لِمَعْنى ( أقْسَمُوا ) لَكِنْ لا بِألْفاظِهِمْ، وإلّا لَقِيلَ: إنّا مَعَكُمْ، وذَكَرَ السَّمِينُ وغَيْرُهُ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: حَلَفَ زَيْدٌ لَأفْعَلَنَّ ولَيُفْعَلَنَّ ( وجَهْدَ أيْمانِهِمْ ) مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ لِـ( أقْسَمُوا ) مِن مَعْناهُ، والمَعْنى أقْسَمُوا إقْسامًا مُجْتَهَدًا فِيهِ، أوْ هو حالٌ بِتَأْوِيلِ مُجْتَهِدِينَ، وأصْلُهُ يَجْتَهِدُونَ جَهْدَ أيْمانِهِمْ، فالحالُ في الحَقِيقَةِ الجُمْلَةُ، ولِذا ساغَ كَوْنُهُ حالًا، كَقَوْلِهِمُ: افْعَلْ ذَلِكَ جَهْدَكَ، مَعَ أنَّ الحالَ حَقُّها التَّنْكِيرُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ حالًا بِحَسَبِ الأصْلِ. وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: لا يُبالى بِتَعْرِيفِ الحالِ هُنا؛ لِأنَّها في التَّأْوِيلِ نَكِرَةٌ، وهو مُسْتَعارٌ مِن ( جَهَدَ نَفْسَهُ ) إذا بَلَغَ وُسْعَها، فَحاصِلُ المَعْنى: أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أكَّدُوا الأيْمانَ وشَدَّدُوها. ﴿حَبِطَتْ أعْمالُهم فَأصْبَحُوا خاسِرِينَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً مِن جِهَتِهِ تَعالى لِبَيانِ مَآلِ ما صَنَعُوهُ مِنِ ادِّعاءِ الوِلايَةِ والقَسَمِ عَلى المَعِيَّةِ في كُلِّ حالٍ إثْرَ الإشارَةِ إلى بُطْلانِهِ بِالِاسْتِفْهامِ، وأنْ يَكُونَ مِن جُمْلَةِ مَقُولِ المُؤْمِنِينَ بِأنْ يُجْعَلَ خَبَرًا ثانِيًا لِاسْمِ الإشارَةِ، وقَدْ قالَ بِجَوازِ نَحْوِ ذَلِكَ بَعْضُ النُّحاةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَإذا هي حَيَّةٌ تَسْعى﴾ أوْ يُجْعَلَ هو الخَبَرَ، والمَوْصُولُ مَعَ ما في حَيِّزِ صِلَتِهِ صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ، فالِاسْتِفْهامُ حِينَئِذٍ لِلتَّقْرِيرِ، وفِيهِ مَعْنى التَّعَجُّبِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما أحْبَطَ أعْمالَهُمْ! فَما أخْسَرَهُمْ! والمَعْنى: بَطَلَتْ أعْمالُهُمُ الَّتِي عَمِلُوها في شَأْنِ مُوالاتِكم وسَعَوْا في ذَلِكَ سَعْيًا بَلِيغًا حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَكم دَوْلَةٌ كَما ظَنُّوا فَيَنْتَفِعُوا بِما صَنَعُوا مِنَ المَساعِي وتَحَمَّلُوا مِن مُكابَدَةِ المَشاقِّ، وفِيهِ مِنَ الِاسْتِهْزاءِ بِالمُنافِقِينَ والتَّقْرِيعِ لِلْمُخاطَبِينَ ما لا يَخْفى، قالَهُ شَيْخُ الإسْلامِ. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّهُ إذا كانَتْ مِن جُمْلَةِ المَقُولِ فَهي في مَحَلِّ نَصْبٍ بِالقَوْلِ بِتَقْدِيرِ أنَّ قائِلًا يَقُولُ: ماذا قالَ المُؤْمِنُونَ بَعْدَ كَلامِهِمْ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: قالُوا: ( حَبِطَتْ أعْمالُهم ) إلَخْ، والجُمْلَةُ إمّا إخْبارِيَّةٌ وشَهادَةُ المُؤْمِنِينَ بِمَضْمُونِها عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ خُسْرانًا دُنْيَوِيًّا، وذَهابُ الأعْمالِ بِلا نَفْعٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْها هو ما أمَّلُوهُ مِن دَوْلَةِ اليَهُودِ مِمّا لا إشْكالَ فِيهِ، وعَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ المُرادُ أمْرًا أُخْرَوِيًّا فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونُ بِاعْتِبارِ ما يَظْهَرُ مِن حالِ المُنافِقِينَ في ارْتِكابِ ما ارْتَكَبُوا، وأنْ تَكُونَ بِاعْتِبارِ إخْبارِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – بِذَلِكَ، وإمّا جُمْلَةٌ دُعائِيَّةٌ ولاضَيْرَ في الدُّعاءِ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلى ما مَرَّتِ الإشارَةُ إلَيْهِ، وأشْعَرَ كَلامُ البَعْضِ أنَّ في الجُمْلَةِ مَعْنى التَّعَجُّبِ مُطْلَقًا، سَواءٌ كانَتْ مِن جُمْلَةِ القَوْلِ أوْ مِن قَوْلِ اللَّهِ تَعالى، ولَعَلَّهُ بَعِيدٌ عِنْدَ مَن يَتَدَبَّرُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب