الباحث القرآني

﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ﴾ أيِ الفَرْدَ الكامِلَ الحَقِيقَ بِأنْ يُسَمّى كِتابًا عَلى الإطْلاقِ؛ لِتَفَوُّقِهِ عَلى سائِرِ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ، وهو القُرْآنُ العَظِيمُ، فاللّامُ لِلْعَهْدِ، والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى ( أنْزَلْنا ) وما عُطِفَ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِالحَقِّ﴾ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنَ ( الكِتابَ ) أيْ مُتَلَبِّسًا بِالحَقِّ والصِّدْقِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مِن فاعِلِ ( أنْزَلَنا ) وقِيلَ: حالٌ مِنَ الكافِ في ( إلَيْكَ ). وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ حالٌ مِنَ الكِتابِ، أيْ حالَ كَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِما تَقَدَّمَهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في كَيْفِيَّةِ تَصْدِيقِهِ لِذَلِكَ، وزَعَمَ أبُو البَقاءِ عَدَمَ جَوازِ كَوْنِهِ حالًا مِمّا ذُكِرَ إذْ لا يَكُونُ حالانِ لِعامِلٍ واحِدٍ، وأوْجَبَ كَوْنَهُ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في الجارِّ والمَجْرُورِ قَبْلَهُ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿مِنَ الكِتابِ﴾ بَيانٌ ( لِما ) واللّامُ فِيهِ لِلْجِنْسِ؛ بِناءً عَلى ادِّعاءِ أنَّ ما عَدا الكُتُبِ (p-152)السَّماوِيَّةِ لَيْسَتْ كِتابًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْها، ويَجُوزُ -كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ - أنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ؛ نَظَرًا إلى أنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إلى جِنْسِ مَدْلُولِ لَفْظِ الكِتابِ، بَلْ إلى نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنهُ، هو بِالنَّظَرِ إلى مُطْلَقِ الكِتابِ مَعْهُودٌ بِالنَّظَرِ إلى وصْفِ كَوْنِهِ سَماوِيًّا، غايَتُهُ أنَّ عَهْدِيَّتَهُ لَيْسَتْ إلى حَدِّ الخُصُوصِيَّةِ الفَرْدِيَّةِ، بَلْ إلى خُصُوصِيَّةِ نَوْعِيَّةٍ أخَصَّ مِن مُطْلَقِ الكِتابِ، وهو ظاهِرٌ، ومِنَ الكِتابِ السَّماوِيِّ أيْضًا، حَيْثُ خُصَّ بِما عَدا القُرْآنِ. ﴿ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ قالَ الخَلِيلُ وأبُو عُبَيْدَةَ: أيْ رَقِيبًا عَلى سائِرِ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ المَحْفُوظَةِ عَنِ التَّغْيِيرِ، حَيْثُ يَشْهَدُ لَها بِالصِّحَّةِ والثَّباتِ، ويُقَرِّرُ أُصُولَ شَرائِعِها وما يَتَأبَّدُ مِن فُرُوعِها، ويُعَيِّنُ أحْكامَها المَنسُوخَةَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم -: أيْ شاهِدًا عَلَيْهِ بِأنَّهُ الحَقُّ، والعَطْفُ حِينَئِذٍ لِلتَّأْكِيدِ، وهاؤُهُ أصْلِيَّةٌ، وفِعْلُهُ هَيْمَنَ، ولَهُ نَظائِرُ بَيْطَرَ وخَيْمَرَ وسَيْطَرَ، وزادَ الزَّجّاجُ: بَيْقَرَ، ولا سادِسَ لَها، وقِيلَ: إنَّها مُبْدَلَةٌ مِنَ الهَمْزَةِ، ومادَّتُهُ مِنَ الأمْنِ، كَـ( هَراقَ ) وقالَ المُبَرِّدَ وابْنُ قُتَيْبَةَ: إنَّ المُهَيْمِنَ أصْلُهُ مُؤْمِنٌ، وهو مِن أسْمائِهِ تَعالى، فَصُغِّرَ وأُبْدِلَتْ هَمْزَتُهُ هاءً، وتَعَقَّبَهُ السَّمِينُ وغَيْرُهُ بِأنَّ ذَلِكَ خَطَأً، بَلْ كُفْرٌ أوْ شَبِيهٌ بِهِ؛ لِأنَّ أسْماءَ اللَّهِ تَعالى لا تُصَغَّرُ، وكَذا كُلُّ اسْمٍ مُعَظَّمٍ شَرْعًا. وعَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ ومُجاهِدٍ أنَّهُما قَرَآ ( مُهَيْمَنًا ) بِفَتْحِ المِيمِ عَلى بِنْيَةِ المَفْعُولِ، فَضَمِيرُ ( عَلَيْهِ ) عَلى هَذا يَعُودُ عَلى الكِتابِ الأوَّلِ، والمَعْنى أنَّهُ حُفِظَ مِنَ التَّحْرِيفِ والتَّبْدِيلِ، والحافِظُ لَهُ هو اللَّهُ تَعالى، كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ . ﴿فاحْكم بَيْنَهُمْ﴾ أيْ بَيْنَ أهْلِ الكِتابِ، كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - والفاءُ لِتَرْتِيبِ ما بَعْدَها عَلى ما قَبْلَها، فَإنَّ كَوْنَ القُرْآنِ العَظِيمِ بِذَلِكَ الشَّأْنِ مِن مُوجِباتِ الحُكْمِ المَأْمُورِ بِهِ، أيْ إذا كانَ القُرْآنُ كَما ذُكِرَ ﴿فاحْكم بَيْنَهم بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ أيْ بِما أنْزَلَهُ إلَيْكَ، فَإنَّهُ الحَقُّ الَّذِي لا مَحِيصَ عَنْهُ، والمُشْتَمِلُ عَلى جَمِيعِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ الباقِيَةِ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ، وتَقْدِيمُ ( بَيْنَهم ) لِلِاعْتِناءِ بِتَعْمِيمِ الحُكْمِ لَهُمْ، ووَضْعُ المَوْصُولِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَنْبِيهًا عَلى عِلِّيَّةِ ما في حَيِّزِ الصِّلَةِ لِلْحُكْمِ، وتَرْهِيبًا عَنِ المُخالَفَةِ، والِالتِفاتُ بِإظْهارِ الِاسْمِ الجَلِيلِ لِما مَرَّ مِرارًا. ﴿ولا تَتَّبِعْ أهْواءَهُمْ﴾ الزّائِغَةَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - يُرِيدُ ما حَرَّفُوا وبَدَّلُوا مِن أمْرِ الرَّجْمِ ﴿عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ﴾ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ، و( عَنْ ) مُتَعَلِّقَةٌ بِـ( لا تَتَّبِعْ ) عَلى تَضْمِينِ مَعْنى العُدُولِ ونَحْوِهِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَعْدِلْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ مُتَّبِعًا لَأهْواءَهُمْ، وقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن فاعِلِهِ، أيْ: لا تَتَّبِعْ أهْوائَهم عادِلًا عَمّا جاءَكَ، أوْ مِن مَفْعُولِهِ، أيْ: لا تَتَّبِعْ أهْواءَهم عادِلَةً عَمّا جاءَكَ، واعْتُرِضَ ذَلِكَ بِأنَّ ما وقَعَ حالًا لا بُدَّ أنْ يَكُونَ فِعْلًا عامًّا، ولَعَلَّ القائِلَ لا يُسَلِّمُ ذَلِكَ، و( مِن ) كَما قالَ أبُو البَقاءِ: مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن مَرْفُوعِ ( جاءَكَ ) أوْ مِن ( ما ) ووُضِعَ المَوْصُولُ مَوْضِعَ ضَمِيرِ المَوْصُولِ الأوَّلِ لِلْإيماءِ بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ إلى ما يُوجِبُ كَمالَ الِاجْتِنابِ عَنِ اتِّباعِ الأهْواءِ، والنَّهْيُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِمَن لا يُتَصَوَّرُ مِنهُ وُقُوعُ المَنهِيِّ عَنْهُ، فَلا يُقالُ: كَيْفَ نُهِيَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَنِ اتِّباعِ أهْوائِهِمْ، وهو - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مَعْصُومٌ عَنِ ارْتِكابِ ما دُونَ ذَلِكَ، وقِيلَ: الخِطابُ لَهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - والمُرادُ سائِرُ الأحْكامِ. ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ اسْتِئْنافٌ جِيءَ بِهِ لِحَمْلِ أهْلِ الكِتابِ مِن مُعاصِرِيهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَلى الِانْقِيادِ لِحُكْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ مِنَ الحَقِّ، بِبَيانِ أنَّهُ هو الَّذِي كُلِّفُوا العَمَلَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ (p-153)مِمّا في كِتابِهِمْ، وإنَّما الَّذِينَ كُلِّفُوا العَمَلَ بِهِ مَن مَضى قَبْلَ النَّسْخِ. والخِطابُ - كَما قالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ - لِلنّاسِ كافَّةً، المَوْجُودِينَ والماضِينَ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، و( الشِّرْعَةُ ) - بِكَسْرِ الشِّينِ، وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ بِفَتْحِها – الشَّرِيعَةُ، وهي في الأصْلِ الطَّرِيقُ الظّاهِرُ الَّذِي يُوصَلُ مِنهُ إلى الماءِ، والمُرادُ بِها الدِّينُ، واسْتِعْمالُها فِيهِ لِكَوْنِهِ سَبِيلًا مُوَصِّلًا إلى ما هو سَبَبٌ لِلْحَياةِ الأبَدِيَّةِ، كَما أنَّ الماءَ سَبَبٌ لِلْحَياةِ الفانِيَةِ، أوْ لِأنَّهُ طَرِيقٌ إلى العَمَلِ الَّذِي يُطَهِّرُ العامِلَ عَنِ الأوْساخِ المَعْنَوِيَّةِ، كَما أنَّ الشَّرِيعَةَ طَرِيقٌ إلى الماءِ الَّذِي يُطَهِّرُ مُسْتَعْمِلَهُ عَنِ الأوْساخِ الحِسِّيَّةِ. وقالَ الرّاغِبُ: سُمِّيَ الدِّينُ شَرِيعَةً تَشْبِيهًا بِشَرِيعَةِ الماءِ مِن حَيْثُ أنَّ مَن شَرَعَ في ذَلِكَ عَلى الحَقِيقَةِ رُوِيَ وتَطَهَّرَ، وأعْنِي بِالرِّيِّ ما قالَ بَعْضُ الحُكَماءِ: كُنْتُ أشْرَبُ فَلا أُرْوى، فَلَمّا عَرَفْتُ اللَّهَ تَعالى رُوِيتُ بِلا شُرْبٍ، وبِالتَّطَهُّرِ ما قالَ تَعالى: ﴿ويُطَهِّرَكم تَطْهِيرًا﴾ . والمِنهاجُ الطَّرِيقُ الواضِحُ في الدِّينِ، مِن نَهِجَ الأمْرُ إذا وضَحَ، والعَطْفُ بِاعْتِبارِ جَمْعِ الأوْصافِ، وقالَ المُبَرِّدُ: الشِّرْعَةُ ابْتِداءً الطَّرِيقُ، والمِنهاجُ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ، وقِيلَ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، وهو الطَّرِيقُ، والتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، والعَطْفُ مِثْلُهُ في قَوْلِ الحُطَيْئَةِ: وهِنْدٌ أتى مِن دُونِها النَّأْيُ والبُعْدُ وقَوْلِ عَنْتَرَةَ: ؎حُيِّيتَ مِن طَلَلٍ تَقادَمَ عَهْدُهُ أقْوى وأقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الهَيْثَمِ وقِيلَ: الشِّرْعَةُ الطَّرِيقُ مُطْلَقًا، سَواءٌ كانَ واضِحًا أمْ لا، وقِيلَ: المِنهاجُ الدَّلِيلُ، وقِيلَ: الشِّرْعَةُ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - والمِنهاجُ الكِتابُ، وقِيلَ: الشِّرْعَةُ الأحْكامُ الفَرْعِيَّةُ، والمِنهاجُ الأحْكامُ الِاعْتِقادِيَّةُ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ( جَعَلْنا ) المُتَعَدِّيَةِ لِواحِدٍ، وهو إخْبارٌ بِجَعْلٍ ماضٍ لا إنْشاءٍ، وتَقْدِيمُها عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ، و( مِنكم ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِما عَوَّضَ عَنْهُ تَنْوِينُ ( كُلٍّ ) أيْ ولِكُلِّ أُمَّةٍ كائِنَةٍ مِنكم أيُّها الأُمَمُ الباقِيَةُ والخالِيَةُ عَيَّنّا ووَضَعْنا ( شِرْعَةً ومِنهاجًا ) خاصَّيْنِ بِتِلْكَ الأُمَّةِ، لا تَكادُ أُمَّةٌ تَتَخَطّى شِرْعَتَها. والأُمَّةُ الَّتِي كانَتْ مِن مَبْعَثِ مُوسى إلى مَبْعَثِ عِيسى - عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ - شِرْعَتُهم ما في التَّوْراةِ، والَّتِي كانَتْ مِن مَبْعَثِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى مَبْعَثِ أحْمَدَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - شِرْعَتُهم ما في الإنْجِيلِ، وأمّا أنْتُمْ أيُّها المَوْجُودُونَ فَشِرْعَتُكم ما في الفُرْقانِ لَيْسَ إلّا فَآمِنُوا بِهِ واعْمَلُوا بِما فِيهِ. وأوْجَبَ أبُو البَقاءِ تَعَلُّقَ ( مِنكم ) بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أعْنِي، ولَمْ يُجَوِّزِ الوَصْفِيَّةَ لِما أنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الفَصْلَ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ بِالأجْنَبِيِّ الَّذِي لا تَسْدِيدَ فِيهِ لِلْكَلامِ، ويُوجِبُ أيْضًا أنْ يُفْصَلَ بَيْنَ ( جَعَلْنا ) ومَعْمُولِهِ وهو شِرْعَةٌ، وقالَ شَيْخُ الإسْلامِ: لا ضَيْرَ في تَوَسُّطِ ( جَعَلْنا ) بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ إلَخْ، والفَصْلُ بَيْنَ الفِعْلِ ومَفْعُولِهِ لازِمٌ عَلى كُلِّ حالٍ، وما ذُكِرَ مِن كَوْنِ الخِطابِ لِلْأُمَمِ هو الظّاهِرُ، وقِيلَ: إنَّهُ لِلْأنْبِياءِ الَّذِينَ أُشِيرَ إلَيْهِمْ في الآياتِ قَبْلُ، ولا يَخْفى بُعْدُهُ. وأبْعَدُ مِنهُ جَعْلُ الخِطابِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ، ولا يُساعِدُهُ السِّباقُ ولا اللِّحاقُ، واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ مَن ذَهَبَ إلى أنّا غَيْرُ مُتَعَبَّدِينَ بِشَرائِعِ مَن قَبْلَنا؛ لِأنَّ الخِطابَ كَما عَلِمْتَ يَعُمُّ الأُمَمَ، واللّامُ لِلِاخْتِصاصِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ أُمَّةٍ دِينٌ يَخُصُّها، ولَوْ كانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرِيعَةٍ أُخْرى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاخْتِصاصُ. وأجابَ العَلّامَةُ التَّفْتازانِيُّ بَعْدَ تَسْلِيمِ دَلالَةِ اللّامِ عَلى الِاخْتِصاصِ الحَصْرِيِّ بِمَنعِ المُلازِمَةِ؛ لِجَوازِ أنْ نَكُونَ مُتَعَبَّدِينَ بِشَرِيعَةِ مَن قَبْلَنا مَعَ زِيادَةِ خُصُوصِيّاتٍ في دِينِنا بِها يَكُونُ الِاخْتِصاصُ، وفِيهِ أنَّهُ لا حاجَةَ في إفادَةِ الحَصْرِ لِما ذُكِرَ مَعَ تَقَدُّمِ المُتَعَلَّقِ، وأيْضًا إنَّ الخُصُوصِيّاتِ المَذْكُورَةَ لا تُنافِي تَعَبُّدَنا بِشَرْعِ مَن قَبْلَنا؛ لِأنَّ القائِلِينَ بِهِ يَدَّعُونَ أنَّهُ فِيما لَمْ يُعْلَمْ نَسْخُهُ ومُخالَفَةُ دِينِنا لَهُ إلّا مُطْلَقًا، إذْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ عَلى الإطْلاقِ، ولِذا جَمَعَ المُحَقِّقُونَ بَيْنَ أضْرابِ هَذِهِ الآيَةِ الدّالَّةِ عَلى اخْتِلافِ الشَّرائِعِ وبَيْنَ ما يُخالِفُها، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى (p-154)بِهِ نُوحًا﴾ إلَخْ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ بِأنَّ كُلَّ آيَةٍ دَلَّتْ عَلى عَدَمِ الِاخْتِلافِ مَحْمُولَةٌ عَلى أُصُولِ الدِّينِ ونَحْوِها، والتَّحْقِيقُ في هَذا المَقامِ أنّا مُتَعَبَّدُونَ بِأحْكامِ الشَّرائِعِ الباقِيَةِ مِن حَيْثُ أنَّها أحْكامُ شِرْعَتِنا لا مِن حَيْثُ أنَّها شِرْعَةٌ لِلْأوَّلِينَ. ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكم أُمَّةً واحِدَةً﴾ أيْ جَماعَةً مُتَّفِقَةً عَلى دِينٍ واحِدٍ في جَمِيعِ الأعْصارِ، أوْ ذِي مِلَّةٍ واحِدَةٍ مِن غَيْرِ اخْتِلافٍ بَيْنَكم في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ في شَيْءٍ مِنَ الأحْكامِ الدِّينِيَّةِ، ولا نَسْخَ ولا تَحْوِيلَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - ومَفْعُولُ ( شاءَ ) مَحْذُوفٌ تَعْوِيلًا عَلى دَلالَةِ الجَزاءِ عَلَيْهِ، أيْ لَوْ شاءَ اللَّهُ تَعالى اجْتِماعَكم عَلى الإسْلامِ لَأجْبَرَكم عَلَيْهِ، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ نَحْوُ ذَلِكَ، وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ المَغْرَبِيُّ: المَعْنى: لَوْ شاءَ اللَّهُ تَعالى لَمْ يَبْعَثْ إلَيْكم نَبِيًّا فَتَكُونُونَ مُتَعَبَّدِينَ بِما في العَقْلِ، وتَكُونُونَ أُمَّةً واحِدَةً ﴿ولَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَسْتَدْعِيهِ النِّظامُ، أيْ ولَكِنْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ الجَعْلَ بَلْ شاءَ غَيْرَهُ لِيُعامِلَكم سُبْحانَهُ مُعامَلَةَ مَن يَبْتَلِيكم. ﴿فِي ما آتاكُمْ﴾ مِنَ الشَّرائِعِ المُخْتَلِفَةِ؛ لِحِكَمٍ إلَهِيَّةٍ يَقْتَضِيها كُلُّ عَصْرٍ، هَلْ تَعْلَمُونَ بِها مُذْعِنِينَ لَها، مُعْتَقِدِينَ أنَّ في اخْتِلافِها ما يَعُودُ نَفْعُهُ لَكم في مَعاشِكم ومَعادِكُمْ، أوْ تَزِيغُونَ عَنْها، وتَبْتَغُونَ الهَوى، وتَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ بِالهُدى، وبِهَذا - كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ - اتَّضَحَ أنَّ مَدارَ عَدَمِ المَشِيئَةِ المَذْكُورَةِ لَيْسَ مُجَرَّدَ الِابْتِلاءِ، بَلِ العُمْدَةُ في ذَلِكَ ما أُشِيرَ إلَيْهِ مِنِ انْطِواءِ الِاخْتِلافِ عَلى ما فِيهِ مَصْلَحَتُهم مَعاشًا ومَعادًا، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ﴾ أيْ: إذا كانَ الأمْرُ كَما ذُكِرَ فَسارِعُوا إلى ما هو خَيْرٌ لَكم في الدّارَيْنِ مِنَ العَقائِدِ الحَقَّةِ، والأعْمالِ الصّالِحَةِ المُنْدَرِجَةِ في القُرْآنِ الكَرِيمِ، وابْتَدَرُوها انْتِهازًا لِلْفُرْصَةِ، وإحْرازًا لِفَضْلِ السَّبْقِ والتَّقَدُّمِ، فالسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى اللَّهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ مَساقَ التَّعْلِيلِ لِاسْتِباقِ الخَيْراتِ بِما فِيهِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ، و( جَمِيعًا ) حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ، والعامِلُ فِيهِ إمّا المَصْدَرُ المُضافُ المُنْحَلُّ إلى فِعْلٍ مَبْنِيٍّ لِلْفاعِلِ أوْ لِما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وإمّا الِاسْتِقْرارُ المُقَدَّرُ في الجارِّ، وقِيلَ - وفِيهِ بُعْدٌ -: إنَّ الجُمْلَةَ واقِعَةٌ جَوابَ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ ما في ذَلِكَ مِنَ الحُكْمِ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّكم سَتُرْجَعُونَ إلى اللَّهِ تَعالى، وتُحْشَرُونَ إلى دارِ الجَزاءِ الَّتِي تَنْكَشِفُ فِيها الحَقائِقُ، وتَتَّضِحُ الحِكَمُ. ﴿فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أيْ فَيَفْعَلُ بِكم مِنَ الجَزاءِ الفاصِلِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ ما لا يَبْقى لَكم مَعَهُ شائِبَةُ شَكٍّ ( فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) في الدُّنْيا مِن أمْرِ الدِّينِ، فالإنْباءُ هُنا مَجازٌ عَنِ المُجازاةِ لِما فِيها مِن تَحَقُّقِ الأمْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب