الباحث القرآني
﴿وكَتَبْنا﴾ عَطْفٌ عَلى ( أنْزَلْنا التَّوْراةَ ) والمَعْنى قَدَّرْنا وفَرَضْنا ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أيْ: عَلى الَّذِينَ هادُوا، وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ ( وأنْزَلَنا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ ﴿فِيها﴾ أيْ: في التَّوْراةِ، والجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ( كَتَبْنا ) وقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا، أيْ فَرَضْنا هَذِهِ الأُمُورَ مُبَيَّنَةً فِيها، وقِيلَ: صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ ( كَتَبْنا ) كِتابَةً مُبَيَّنَةً ( فِيها ).
﴿أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ أيْ مَأْخُوذَةٌ أوْ مَقْتُولَةٌ أوْ مُقْتَصَّةٌ بِها إذا قَتَلَتْها بِغَيْرِ حَقٍّ، ويُقَدَّرُ في كُلٍّ مِمّا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والعَيْنَ بِالعَيْنِ والأنْفَ بِالأنْفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ﴾ ما يُناسِبُهُ كالفَقْءِ، والجَذْعِ، والصَّلْمِ، والقَلْعِ، ومِنهم مَن قَدَّرَ الكَوْنَ المُطْلَقَ، وقالَ: إنَّهُ مُرادُهُمْ، أيْ يَسْتَقِرُّ أخْذُها بِالعَيْنِ، ونَحْوُ ذَلِكَ.
وقَرَأ الكِسائِيُّ: ( العَيْنُ ) وما عُطِفَ عَلَيْهِ بِالرَّفْعِ، ووَجَّهَهُ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ بِأنَّ الكَلامَ حِينَئِذٍ جُمَلٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ( أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) لَكِنْ مِن حَيْثُ المَعْنى لا مِن حَيْثُ اللَّفْظُ، فَإنَّ مَعْنى ( كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) قُلْنا لَهُمُ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، فالجُمْلَةُ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ ما كُتِبَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، وجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلى هَذا القَوْلِ مِنَ العَطْفِ عَلى التَّوَهُّمِ، وهو غَيْرُ مَقِيسٍ.
وقِيلَ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى الِاسْتِئْنافِ، بِمَعْنى أنَّ الجُمَلَ اسْمِيَّةٌ، مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ، ويَكُونُ هَذا ابْتِداءَ تَشْرِيعٍ، وبَيانَ حُكْمٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مُنْدَرِجٍ فِيما كُتِبَ في التَّوْراةِ، وقِيلَ: إنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِيهِ أيْضًا عَلى هَذا، والتَّقْدِيرُ: وكَذَلِكَ العَيْنُ بِالعَيْنِ إلَخْ؛ لِتَتَوافَقَ القِراءَتانِ.
وقالَ الخَطِيبُ: لا عَطْفَ، والِاسْتِئْنافُ بِمَعْناهُ المُتَبادَرِ مِنهُ، والكَلامُ جَوابُ سُؤالٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما حالُ غَيْرِ النَّفْسِ؟ فَقالَ سُبْحانَهُ: ( العَيْنُ بِالعَيْنِ ) إلَخْ، وقِيلَ: إنَّ العَيْنَ وكَذا سائِرَ المَرْفُوعاتِ مَعْطُوفَةٌ عَلى الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ المُسْتَتِرِ في الجارِّ والمَجْرُورِ الواقِعِ خَبَرًا، والجارُّ والمَجْرُورُ بَعْدَها حالٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَعْنى، وضُعِّفَ هَذا بِأنَّهُ يَلْزَمُهُ العَطْفُ عَلى الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ المُتَّصِلِ مِن غَيْرِ فَصْلٍ ولا تَأْكِيدٍ، وهو لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ إلّا ضَرُورَةً.
وأُجِيبَ بِأنَّهُ مَفْصُولٌ تَقْدِيرًا؛ إذْ أصْلُهُ: النَّفْسُ مَأْخُوذَةٌ أوْ مُقْتَصَّةٌ هي بِالنَّفْسِ، إذِ الضَّمِيرُ مُسْتَتِرٌ في المُتَعَلِّقِ المُقَدَّمِ عَلى الجارِّ والمَجْرُورِ بِحَسَبِ الأصْلِ، وإنَّما تَأخَّرَ بَعْدَ الحَذْفِ وانْتِقالِهِ إلى الظَّرْفِ، كَذا قِيلَ، وهو يَقْتَضِي (p-148)أنَّ الفَصْلَ المُقَدَّرَ يَكْفِي لِلْعَطْفِ، وفِيهِ نَظَرٌ، ويُقَدَّرُ المُتَعَلَّقُ عَلى هَذا عامًّا لِيَصِحَّ العَطْفُ، إذْ لَوْ قُدِّرَ ( النَّفْسَ مَقْتُولَةً بِالنَّفْسِ والعَيْنَ ) لَمْ يَسْتَقِمِ المَعْنى، كَما لا يَخْفى، فَلْيُفْهَمْ.
واعْلَمْ أنَّ النَّفْسَ في كَلامِهِمْ - إذا أُرِيدَ مِنها الإنْسانُ بِعَيْنِهِ – مُذَكَّرٌ، ويُقالُ: ثَلاثَةُ أنْفُسٍ، عَلى مَعْنى ثَلاثَةِ أشْخاصٍ، وإذا أُرِيدَ بِها الرُّوحُ فَهي مُؤَنَّثَةٌ لا غَيْرُ، وتَصْغِيرُها نُفَيْسَةٌ لا غَيْرُ، والعَيْنُ بِمَعْنى الجارِحَةِ المَخْصُوصَةِ مُؤَنَّثَةٌ، وإطْلاقُ القَوْلِ بِالتَّأْنِيثِ لا يَظْهَرُ لَهُ وجْهٌ؛ إذْ لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: هَذِهِ عَيْنُ هَؤُلاءِ الرِّجالِ، وأنْتَ تُرِيدُ الخِيارَ، والأُذُنُ مِثالُها، والأنْفُ مُذَكَّرٌ لا غَيْرُ، والسِّنُّ تُؤَنَّثُ ولا تُذَكَّرُ، وإنْ كانَتِ السِّنَّ مِنَ الكِبَرِ، لَكِنْ ذَكَرَ ابْنُ الشِّحْنَةِ أنَّ السِّنَّ تُطْلَقُ عَلى الضِّرْسِ والنّابِ، وقَدْ نَصُّوا عَلى أنَّهُما مُذَكَّرانِ، وكَذا النّاجِذُ والضّاحِكُ والعارِضُ، ونَصَّ ابْنُ عُصْفُورٍ عَلى أنَّ الضِّرْسَ يَجُوزُ فِيهِ الأمْرانِ، ونَظَمَ ما يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
؎وهاكَ مِنَ الأعْضاءِ ما قَدْ عَدَدْتُهُ تُؤَنَّثُ أحْيانًا وحِينًا تُذَكَّرُ
؎لِسانُ الفَتى والإبْطُ والعُنُقُ والقَفا ∗∗∗ وعاتِقُهُ والمَتْنُ والضِّرْسُ يُذَكَّرُ
؎وعِنْدِي الذِّراعُ والكُراعُ مَعَ المِعى ∗∗∗ وعُجُزُ الفَتى ثُمَّ القَرِيضُ المُحَبَّرُ
؎كَذا كُلُّ نُحْوِيٍّ حَكى في كِتابِهِ ∗∗∗ سِوى سِيبَوَيْهِ وهو فِيهِمْ مُكَبَّرُ
؎يَرى أنَّ تَأْنِيثَ الذِّراعِ هو الَّذِي ∗∗∗ أتى وهو لِلتَّذْكِيرِ في ذاكَ مُنْكِرُ
وقَدْ شاعَ أنَّ ما مِنهُ اثْنانِ في البَدَنِ كاليَدِ والضِّلْعِ والرِّجْلِ مُؤَنَّثٌ، وما مِنهُ واحِدٌ كالرَّأْسِ والفَمِ والبَطْنِ مُذَكَّرٌ، ولَيْسَ ذاكَ بِمُطَّرِدٍ؛ فَإنَّ الحاجِبَ والصُّدْغَ والخَدَّ والمِرْفَقَ والزَّنْدَ كُلٌّ مِنها مُذَكَّرٌ، مَعَ أنَّ في البَدَنِ مِنهُ اثْنَيْنِ، والكَبِدُ والكَرِشُ فَإنَّهُما مُؤَنَّثانِ ولَيْسَ مِنهُما في البَدَنِ إلّا واحِدٌ.
وتَفْصِيلُ ما يُذَكَّرُ ولا يُؤَنَّثُ وما يُؤَنَّثُ ولا يُذَكَّرُ مَنَ الأعْضاءِ يُفْضِي إلى بَسْطِ يَدِ المَقالِ، والكَفُّ أوْلى بِمُقْتَضى الحالِ هَذا، ﴿والجُرُوحَ قِصاصٌ﴾ بِالنَّصْبِ، عَطْفٌ عَلى اسْمِ ( أنَّ ) و( قِصاصٌ ) هو الخَبَرُ، ولِكَوْنِهِ مَصْدَرًا كالقِتالِ ولَيْسَ عَيْنَ المُخْبَرِ عَنْهُ يُؤَوَّلُ بِأحَدِ التَّأْوِيلاتِ المَعْرُوفَةِ في أمْثالِهِ، والكِسائِيُّ كَما قَرَأ بِالرَّفْعِ فِيما قَبْلُ قَرَأ بِهِ هُنا أيْضًا، وابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو - وإنْ نَصَبُوا فِيما تَقَدَّمَ - رَفَعُوا هُنا، عَلى أنَّهُ إجْمالٌ لِحُكْمِ الجِراحِ بَعْدَما فُصِّلَ حُكْمُ غَيْرِها مِنَ الأعْضاءِ، وهَذا الحُكْمُ فِيما إذا كانَتْ بِحَيْثُ تُعْرَفُ المُساواةُ، كَما فُصِّلَ في الكُتُبِ الفِقْهِيَّةِ.
واسْتَدَلَّ بِعُمُومِ ( أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) مَن قالَ: يُقْتَلُ المُسْلِمُ بِالكافِرِ، والحُرُّ بِالعَبْدِ، والرَّجُلُ بِالمَرْأةِ، ومَن خالَفَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ والأُنْثى بِالأُنْثى﴾ وبِقَوْلِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ««لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ»» وأجابَ بَعْضُ أصْحابِنا بِأنَّ النَّصَّ تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ، فَلا يَدُلُّ عَلى نَفْيِ ما عَداهُ، والمُرادُ بِما رُوِيَ الحَرْبِيُّ لِسِياقِهِ، ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ، والعَطْفُ يَقْتَضِي المُغايَرَةَ، وقَدْ رُوِيَ «أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ» .
وذَكَرَ ابْنُ الفَرَسِ أنَّ الآيَةَ في الأحْرارِ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّ اليَهُودَ المَكْتُوبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ في التَّوْراةِ كانُوا مِلَّةً واحِدَةً لَيْسُوا مُنْقَسِمِينَ إلى مُسْلِمٍ وكافِرٍ، وكانُوا كُلُّهم أحْرارًا لا عَبِيدَ فِيهِمْ؛ لِأنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ والِاسْتِعْبادَ إنَّما أُبِيحَ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِن بَيْنِ سائِرِ الأنْبِياءِ؛ لِأنَّ الِاسْتِعْبادَ مِنَ الغَنائِمِ، ولَمْ تَحِلَّ لِغَيْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وعَقْدَ الذِّمَّةِ لِبَقاءِ الكُفّارِ، ولَمْ يَقَعْ ذَلِكَ في عَهْدِ نَبِيٍّ، بَلْ كانَ المُكَذِّبُونَ يُهْلَكُونَ جَمِيعًا بِالعَذابِ، وأُخِّرَ ذَلِكَ في هَذِهِ الأُمَّةِ رَحْمَةً، انْتَهى.
(p-149)وأنْتَ تُعْلَمُ أنَّ اللَّفْظَ ظاهِرٌ في العُمُومِ، لَكِنْ لَمْ يُبْقُوهُ عَلى ذَلِكَ، فَقَدْ قالَ الأصْحابُ: لا يُقْتَلُ المُسْلِمُ بِالمُسْتَأْمَنِ ولا الذِّمِّيُّ بِهِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلى التَّأْبِيدِ، وكَذا كُفْرُهُ باعِثٌ عَلى الحِرابِ؛ لِأنَّهُ عَلى قَصْدِ الرُّجُوعِ، ولا المُسْتَأْمَنُ بِالمُسْتَأْمَنِ؛ اسْتِحْسانًا لِقِيامِ المُبِيحِ، ويُقْتَلُ قِياسًا لِلْمُساواةِ، ولا الرَّجُلُ بِابْنِهِ لِقَوْلِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ««لا يُقادُ الوالِدُ بِوَلَدِهِ»» وهو بِإطْلاقِهِ حُجَّةٌ عَلى مالِكٍ في قَوْلِهِ: يُقادُ إذا ذَبَحَهُ ذَبْحًا، ولِأنَّهُ سَبَبٌ لِإحْيائِهِ فَمِنَ المُحالِ أنْ يَسْتَحِقَّ لَهُ إفْناؤُهُ، ولِهَذا لا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ وإنْ وجَدَهُ في صَفِّ الأعْداءِ مُقاتِلًا، أوْ أوْ زانِيًا وهو مُحْصَنٌ.
والقِصاصُ يَسْتَحِقُّهُ المَقْتُولُ أوَّلًا ثُمَّ يَخْلُفُهُ وارِثُهُ، والجَدُّ مِن قِبَلِ الرِّجالِ والنِّساءِ وإنْ عَلا في هَذا بِمَنزِلَةِ الأبِ، وكَذا الوالِدَةُ والجَدَّةُ مِن قِبَلِ الأُمِّ أوِ الأبِ قَرُبَتْ أوْ بَعُدَتْ لِما بَيَّنّا، ولا الرَّجُلُ بِعَبْدِهِ، ولا مُدَبَّرِهِ، ولا مُكاتَبِهِ، ولا بِعَبْدِ ولَدِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَسْتَوْجِبُ لِنَفْسِهِ عَلى نَفْسِهِ القِصاصَ، ولا ولَدُهُ عَلَيْهِ، وكَذا لا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ مَلَكَ بَعْضَهُ؛ لِأنَّ القِصاصَ لا يَتَجَزَّأُ، فَلْيُفْهَمْ.
واسْتُدِلَّ بِها عَلى ما رُوِيَ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - مِن أنَّهُ لا يُقْتَلُ الجَماعَةُ بِالواحِدِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى فِيها: ( أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) بِالإفْرادِ، وأُجِيبَ بِأنَّ حِكْمَةَ القِصاصِ - وهو صَوْنُ الدِّماءِ والأحْياءِ - اقْتَضَتِ القَتْلَ، وصَرْفُ الآيَةِ عَمّا ذُكِرَ فَإنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ قُتِلُوا مُجْتَمِعِينَ حَتّى يَسْقُطَ عَنْهُمُ القِصاصُ، وحِينَئِذٍ تُهْدَرُ الدِّماءُ، ويَكْثُرُ الفَسادُ، كَذا قِيلَ.
﴿فَمَن تَصَدَّقَ﴾ أيْ مِنَ المُسْتَحِقِّينَ لِلْقِصاصِ ﴿بِهِ﴾ أيْ: بِالقِصاصِ، أيْ فَمَن عَفا عَنْهُ، والتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّصَدُّقِ لِلْمُبالَغَةِ في التَّرْغِيبِ ﴿فَهُوَ﴾ أيِ التَّصَدُّقُ المَذْكُورُ ﴿كَفّارَةٌ لَهُ﴾ لِلْمُتَصَدِّقِ، كَما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ.
وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قَرَأ الآيَةَ فَقالَ: «هُوَ الرَّجُلُ يُكْسَرُ سِنُّهُ، أوْ يُجْرَجُ مِن جَسَدِهِ، فَيَعْفُو، فَيُحَطُّ عَنْهُ مِن خَطاياهُ بِقَدْرِ ما عَفا عَنْهُ مِن جَسَدِهِ، إنْ كانَ نِصْفَ الدِّيَةِ فَنِصْفُ خَطاياهُ، وإنْ كانَ رُبُعَ الدِّيَةِ فَرُبُعُ خَطاياهُ، وإنْ كانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ فَثُلُثُ خَطاياهُ، وإنْ كانَ الدِّيَةَ كُلَّها خَطاياهُ كُلُّها»».
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وغَيْرُهُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثابِتٍ، «أنَّ رَجُلًا هَتَمَ فَمَ رَجُلٍ عَلى عَهْدِ مُعاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - فَأُعْطِيَ دِيَةً فَأبى إلّا أنْ يَقْتَصَّ، فَأُعْطِيَ دِيَتَيْنِ فَأبى، فَأُعْطِيَ ثَلاثًا، فَحَدَّثَ رَجُلٌ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - قالَ: «مَن تَصَدَّقَ بِدَمٍ فَما دُونَهُ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ مِن يَوْمِ وُلِدَ إلى يَوْمِ يَمُوتُ»».
وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الجانِي، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - فِيما أخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ومُجاهِدٌ وجابِرٌ فِيما أخْرَجَهُ عَنْهُما ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، ومَعْنى كَوْنِ ذَلِكَ كَفّارَةً لَهُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ ما لَزِمَهُ، ويَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَجْمُوعَ الشَّرْطِ والجَزاءِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنِ العائِدُ إلّا في الشَّرْطِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ العَلّامَةُ الثّانِي.
وقِيلَ: إنَّ في الجَزاءِ عائِدًا أيْضًا بِاعْتِبارِ ( أنَّ ) هو بِمَعْنى تَصَدُّقِهِ، فَيَشْتَمِلُ بِحَسَبِ المَعْنى عَلى ضَمِيرِ المُبْتَدَأِ، فالتَّعَيُّنُ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْنى الآيَةِ أنَّ كُلَّ مَن تَصَدَّقَ واعْتَرَفَ بِما يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ القِصاصِ وانْقادَ لَهُ فَهو كَفّارَةٌ لِما جَناهُ مِنَ الذَّنْبِ، ويُلائِمُهُ كُلَّ المُلاءَمَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ فَضَمِيرُ ( لَهُ ) حِينَئِذٍ عائِدٌ إلى المُتَصَدِّقِ، مُرادًا بِهِ الجانِي نَفْسُهُ وفِيهِ بُعْدٌ ظاهِرٌ.
وقَرَأ أُبَيٌّ ( فَهو كَفّارَتُهُ لَهُ ) فالضَّمِيرُ المَرْفُوعُ حِينَئِذٍ لِلْمُتَصَدِّقِ لا لِلتَّصَدُّقِ، وكَذا الضَّمِيرانِ المَجْرُورانِ، والإضافَةُ لِلِاخْتِصاصِ، واللّامُ مُؤَكِّدَةٌ لِذَلِكَ، أيْ: فالمُتَصَدِّقُ كَفّارَتُهُ الَّتِي يَسْتَحِقُّها بِالتَّصَدُّقِ لَهُ لا يَنْقُصُ مِنها شَيْءٌ؛ لِأنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ لا يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وهو تَعْظِيمٌ لِما فَعَلَ، حَيْثُ جُعِلَ مُقْتَضِيًا لِلِاسْتِحْقاقِ اللّائِقِ مِن غَيْرِ نُقْصانٍ، وفِيهِ تَرْغِيبٌ في العَفْوِ، والآيَةُ نَزَلَتْ - كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ - لَمّا اصْطَلَحَ اليَهُودُ عَلى أنْ (p-150)لا يَقْتُلُوا الشَّرِيفَ بِالوَضِيعِ، والرَّجُلَ بِالمَرْأةِ، فَلَمْ يُنْصِفُوا المَظْلُومَ مِنَ الظّالِمِ.
وعَنِ السَّيِّدِ السَّنَدِ أنَّ القِصاصَ كانَ في شَرِيعَتِهِمْ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ التَّصَدُّقُ مِمّا زِيدَ في شَرِيعَتِنا. وقالَ الضَّحّاكُ: لَمْ يُجْعَلْ في التَّوْراةِ دِيَةٌ في نَفْسٍ ولا جُرْحٍ، وإنَّما كانَ العَفْوُ أوِ القِصاصُ، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الآيَةِ.
{"ayah":"وَكَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ فِیهَاۤ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَیۡنَ بِٱلۡعَیۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصࣱۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةࣱ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق