الباحث القرآني

﴿إنِّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ﴾ تَعْلِيلٌ آخَرُ لِامْتِناعِهِ عَنِ البَسْطِ، ولَمّا كانَ كُلٌّ مِنهُما عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لَمْ يُعْطَفْ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ؛ إيذانًا بِالِاسْتِقْلالِ، ودَفْعًا لِتَوِّهِمْ أنْ يَكُونَ جُزْءَ عِلَّةٍ لا عِلَّةً تامَّةً، وأصْلُ البَوْءِ اللُّزُومُ، وفي النِّهايَةِ: «أبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وأبُوءُ بِذَنْبِي» أيْ ألْتَزِمُ وأرْجِعُ وأُقِرُّ، والمَعْنى: إنِّي أُرِيدُ بِاسْتِسْلامِي وامْتِناعِي عَنِ التَّعَرُّضِ لَكَ أنْ تَرْجِعَ بِإثْمِي، أيْ تَتَحَمَّلُهُ، لَوْ بَسَطْتُ يَدِي إلَيْكَ، حَيْثُ كُنْتَ السَّبَبَ لَهُ، وأنْتَ الَّذِي عَلَّمْتَنِي الضَّرْبَ والقَتْلَ، وإثْمِكَ حَيْثُ بَسَطْتَ إلَيَّ يَدَكَ. وهَذا نَظِيرُ ما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ««المُسْتَبّانِ ما قالا فَعَلى البادِئِ ما لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُومُ»» أيْ عَلى البادِئِ إثْمُ سَبِّهِ، ومِثْلُ إثْمِ سَبِّ صاحِبِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ سَبَبًا فِيهِ، إلّا أنَّ الإثْمَ مَحْطُوطٌ عَنْ صاحِبِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ؛ لِأنَّهُ مُكافِئٌ دافِعٌ عَنْ عِرْضِهِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: «ما لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُومُ» لِأنَّهُ إذا خَرَجَ مِن حَدِّ المُكافَأةِ واعْتَدى لَمْ يَسْلَمْ، كَذا في الكَشّافِ. قِيلَ: وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ حاصِلَ ما قَرَّرَهُ أنَّ عَلى البادِئِ إثْمُهُ ومِثْلُ إثْمِ صاحِبِهِ إلّا أنْ يَتَعَدّى الصّاحِبُ فَلا يَكُونُ هَذا المَجْمُوعُ عَلى البادِئِ، ولا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّ المَظْلُومَ إذْ لَمْ يَتَعَدَّ كانَ إثْمُهُ المَخْصُوصُ بِسَبَبِهِ ساقِطًا عَنْهُ، اللَّهُمَّ إلّا بِضَمِيمَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهِ، ولَيْسَ في اللَّفْظِ ما يُشْعِرُ بِها، ورَدَّهُ في الكَشْفِ بِأنَّهُ كَيْفَ لا يَدُلُّ عَلى سُقُوطِهِ عَنْهُ، وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «فَعَلى البادِئِ» مُخَصِّصٌ ظاهِرٌ. وقَوْلُ الكَشّافِ: إلّا أنَّ الإثْمَ مَحْطُوطٌ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: «فَعَلى البادِئِ» وقَوْلُهُ: فَعَلَيْهِ إثْمُ سَبِّهِ ومِثْلُ إثْمِ سَبِّ صاحِبِهِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: «ما قالا» فَكَما يَدُلُّ عَلى أنَّ عَلَيْهِ إثْمًا مُضاعَفًا يَدُلُّ عَلى أنَّ إثْمِ صاحِبِهِ ساقِطٌ. هَذا، ثُمَّ قالَ: ولَعَلَّ الأظْهَرَ في الحَدِيثِ أنْ لا يُضْمَرَ المِثْلُ، والمَعْنى: إثْمُ سِبابِهِما عَلى البادِئِ، وكانَ ذَلِكَ لِئَلّا يُلْتَزَمَ الجَمْعُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، والقَوْلُ: بِأنَّهُ إذْ لَمْ يَكُنْ لِما قالَهُ غَيْرُ البادِئِ إثْمٌ فَكَيْفَ يُقالُ: إثْمُ سِبابِهِما؟ وكَيْفَ يُضافُ إلَيْهِ الإثْمُ مُشْتَرَكُ الإلْزامِ؟ وتَحْقِيقُهُ أنَّ لِما قالَهُ غَيْرُ البادِئِ إثْمًا، ولَيْسَ عَلى البادِئِ، ولَيْسَ بِمُنافٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ( ولا تَّزَرَ وازِرَة وِزْر أُخْرى ) لِأنَّهُ بِحْمِلِهِ عَلَيْهِ عُدَّ جانِبًا، وهَذا كَما ورَدَ فِيمَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، أوْ سُنَّةً سَيِّئَةً، نَعَمْ، فِيما نَحْنُ فِيهِ العامِلُ لا إثْمَ لَهُ، إنَّما هو لِلْحامِلِ، والحاصِلُ أنَّ سَبَّ غَيْرِ البادِئِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْئانِ: أحَدُهُما بِالنِّسْبَةِ إلى فاعِلِهِ، وهو ساقِطٌ إذا كانَ عَلى وجْهِ الدَّفْعِ دُونَ اعْتِداءٍ. والثّانِي بِالنِّسْبَةِ إلى حامِلِهِ عَلَيْهِ، وهو غَيْرُ ساقِطٍ، أعْنِي أنَّهُ يَثْبُتُ ابْتِداءً لا أنَّهُ لا يُعْفى. وأوْرَدَ في التَّحْقِيقِ أنَّ ما ذَكَرَهُ مِن حَطِّ الإثْمِ مِنَ المَظْلُومِ؛ لِأنَّهُ مُكافِئٌ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأنَّهُ إذا سُبَّ شَخْصٌ لَمْ يَسْتَوْفِ الجَزاءَ إلّا بِالحاكِمِ، والجَوابُ: إنَّ صَرِيحَ الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلى ما ذُكِرَ في الكَشّافِ، والجَمْعُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الحُكْمِ الفِقْهِيِّ أنَّ السَّبَّ إمّا أنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الحَدُّ شَرْعًا فَذَلِكَ سَبِيلُهُ الرَّفْعُ إلى الحاكِمِ، أوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ وحِينَئِذٍ لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ كَلِمَةَ إيحاشٍ أوِ امْتِنانٍ أوْ تَفاخُرٍ بِنَسَبٍ ونَحْوِهِ مِمّا يَتَضَمَّنُ إزْراءً بِنَسَبِ صاحِبِهِ مِن دُونِ شَتْمٍ، كَنَحْوِ الرَّمْيِ بِالكُفْرِ والفِسْقِ، فَلَهُ أنْ يُعارِضَهُ بِالمِثْلِ، ويَدُلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ زَيْنَبَ وعائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - «وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِعائِشَةَ: (p-114)«دُونَكِ فانْتَصِرِي»» أوْ يَتَضَمَّنُ شَتْمًا فَذَلِكَ أيْضًا يُرْفَعُ إلى الحاكِمِ؛ لِيُعَزِّرَهُ. والحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلى القِسْمِ الَّذِي يُجْرى فِيهِ الِانْتِصارُ، وقَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««ما لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُومُ»» يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ حَقُّهُ الرَّفْعَ إلى الحاكِمِ فاشْتَغَلَ بِالمُعارَضَةِ عُدَّ مُتَعَدِّيًا، انْتَهى، وهو تَفْصِيلٌ حَسَنٌ. وقِيلَ: مَعْنى ( بِإثْمِي ) بِإثْمِ قَتْلِي، ومَعْنى ( بِإثْمِكَ ) إثْمُكَ الَّذِي كانَ قَبْلَ قَتْلِي، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما – وقَتادَةَ، ومُجاهِدٍ، والضَّحّاكِ، وأطْلَقَ هَؤُلاءِ الإثْمَ الَّذِي كانَ قَبْلُ. وعَنِ الجُبّائِيِّ والزَّجّاجِ أنَّهُ الإثْمُ الَّذِي مِن أجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلِ القُرْبانُ، وهو عَدَمُ الرِّضا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعالى كَما مَرَّ، وقِيلَ: مَعْناهُ: بِإثْمِ قَتْلِي وإثْمِكَ الَّذِي هو قَتْلُ النّاسِ جَمِيعًا، حَيْثُ سَنَنْتَ القَتْلَ. وإضافَةُ الإثْمِ عَلى جَمِيعِ هَذِهِ الأقْوالِ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ؛ لِأنَّهُ نَشَأ مِن قِبَلِهِ، أوْ هو عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ، ولا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ مُضافٍ إلَيْهِ، كَما قَدْ قِيلَ بِهِ أوَّلًا، إلّا أنَّهُ لا خَفاءَ في عَدَمِ حُسْنِ المُقابَلَةِ بَيْنَ التَّكَلُّمِ والخِطابِ عَلى هَذا؛ لِأنَّ كِلا الإثْمَيْنِ إثْمُ المُخاطَبِ، والأمْرُ فِيهِ سَهَلٌ. والجارُّ والمَجْرُورُ مَعَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ حالٌ مِن فاعِلِ ( تَبُوءَ ) أيْ تَرْجِعُ مُتَلَبِّسًا بِالإثْمَيْنِ، حامِلًا لَهُما، ولَعَلَّ مُرادَهُ بِالذّاتِ إنَّما هو عَدَمُ مُلابَسَتِهِ لِلْإثْمِ لا مُلابَسَةُ أخِيهِ، إذْ إرادَةُ الإثْمِ مِن آخَرَ غَيْرُ جائِزَةٍ، وقِيلَ: المُرادُ بِالإثْمِ ما يَلْزَمُهُ ويَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ العُقُوبَةِ، ولا يَخْفى أنَّهُ لا يَتَّضِحُ حِينَئِذٍ تَفْرِيعُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَكُونَ مِن أصْحابِ النّارِ﴾ عَلى تِلْكَ الإرادَةِ، فَإنَّ كَوْنَ المُخاطَبِ مِن أصْحابِ النّارِ إنَّما يَتَرَتَّبُ عَلى رُجُوعِهِ بِالإثْمَيْنِ لا عَلى ابْتِلاءٍ بِعُقُوبَتِهِما، وهو ظاهِرٌ. وحَمْلُ العُقُوبَةِ عَلى نَوْعٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ العُقُوبَةُ النّارِيَّةُ يَرُدُّهُ - كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ - قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وذَلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ﴾ فَإنَّهُ صَرِيحٌ في أنَّ كَوْنَهُ مِن أصْحابِ النّارِ تَمامُ العُقُوبَةِ وكَمالُها، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَهُ، وهي مِن كَلامِ هابِيلَ عَلى ما هو الظّاهِرُ، وقِيلَ: بَلْ هي إخْبارٌ مِنهُ تَعالى لِلرَّسُولِ، صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب