الباحث القرآني
﴿ومِنَ الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى أخَذْنا مِيثاقَهُمْ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ قَبائِحِ النَّصارى وجِناياتِهِمْ إثْرَ بَيانِ قَبائِحِ وجِناياتِ إخْوانِهِمُ اليَهُودِ، و( مِنَ ) مُتَعَلِّقَةٌ بِـ( أخَذْنا ) وتَقْدِيمُ الجارِّ لِلِاهْتِمامِ، ولِأنَّ ذِكْرَ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ مِمّا يُوقِعُ في ذِهْنِ السّامِعِ أنَّ حالَ الأُخْرى ماذا؟ كَأنَّهُ قِيلَ: ومِنَ الطّائِفَةِ الأُخْرى أيْضًا ( أخَذْنا مِيثاقَهم ) والضَّمِيرُ المَجْرُورُ راجِعٌ إلى المَوْصُولِ، أوْ عائِدٌ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ عادَتْ إلَيْهِمُ الضَّمائِرُ السّابِقَةُ، وهو نَظِيرُ قَوْلِكَ: أخَذْتُ مِن زَيْدٍ مِيثاقَ عَمْرٍو، أيْ: مِثْلَ مِيثاقِهِ.
وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الجارُّ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وقَعَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْضًا، وجُمْلَةُ ( أخَذْنا ) صِفَةٌ أيْ: ومِنَ الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى قَوْمٌ أخَذْنا مِنهم مِيثاقَهُمْ، وقِيلَ: المُبْتَدَأُ المَحْذُوفُ ( مِنَ ) المَوْصُولَةُ أوِ المَوْصُوفَةُ، ولا يَخْفى أنَّ جَوازَ حَذْفِ المَوْصُولِ وإبْقاءِ صِلَتِهِ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ سِوى الكُوفِيِّينَ، وإنَّما قالَ سُبْحانَهُ: ( قالُوا إنّا نَصارى ) ولَمْ يَقِلْ جَلَّ وعَلا: ( ومِنَ النَّصارى ) كَما هو الظّاهِرُ دُونَ إطْنابٍ لِلْإيماءِ - كَما قالَ بَعْضُهُمْ: - إلى أنَّهم عَلى دِينِ النَّصْرانِيَّةِ بِزَعْمِهِمْ، (p-96)ولَيْسُوا عَلَيْها في الحَقِيقَةِ، لِعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِمُوجِبِها، ومُخالَفَتِهِمْ لِما في الإنْجِيلِ مِنَ التَّبْشِيرِ بِنَبِيِّنا - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وقِيلَ: لِلْإشارَةِ إلى أنَّهم لَقَّبُوا بِذَلِكَ أنْفُسَهم عَلى مَعْنى أنَّهم أنْصارُ اللَّهِ تَعالى، وأفْعالُهم تَقْتَضِي نُصْرَةَ الشَّيْطانِ، فَيَكُونُ العُدُولُ عَنِ الظّاهِرِ لِيُتَصَوَّرَ تِلْكَ الحالُ في ذِهْنِ السّامِعِ، ويُتَقَرَّرَ أنَّهُمُ ادَّعَوْا نُصْرَةَ اللَّهِ تَعالى وهم مِنها بِمَعْزِلٍ، ونُكْتَةُ تَخْصِيصِ هَذا المَوْضِعِ بِإسْنادِ النَّصْرانِيَّةِ إلى دَعْواهم أنَّهُ لَمّا كانَ المَقْصُودُ في هَذِهِ الآيَةِ ذَمَّهم بِنَقْضِ المِيثاقِ المَأْخُوذِ عَلَيْهِمْ في نُصْرَةِ اللَّهِ تَعالى ناسَبَ ذَلِكَ أنْ يَصْدُرَ الكَلامُ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَمْ يَنْصُرُوا اللَّهَ تَعالى، ولَمْ يَفُوا بِما واثَقُوا عَلَيْهِ مِنَ النُّصْرَةِ، وما كانَ حاصِلُ أمْرِهِمْ إلّا التَّفَوُّهُ بِالدَّعْوى، وقَوْلُها دُونَ فِعْلِها.
ولا يَخْفى أنَّ هَذا مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ وجْهَ تَسْمِيَتِهِمْ نَصارى كَوْنُهم أنْصارَ اللَّهِ تَعالى، وهو وجْهٌ مَشْهُورٌ، ولِهَذا يُقالُ لَهم أيْضًا: أنْصارٌ.
وفِي غَيْرِما مَوْضِعٍ أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وُلِدَ في سَنَةِ أرْبَعٍ وثَلاثِمِائَةٍ لِغَلَبَةِ الإسْكَنْدَرِ في بَيْتِ لَحْمٍ مِنَ المَقْدِسِ، ثُمَّ سارَتْ بِهِ أُمُّهُ - عَلَيْها السَّلامُ - إلى مِصْرَ، ولَمّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً عادَتْ بِهِ إلى الشّامِ، فَأقامَ بِبَلْدَةٍ تُسَمّى النّاصِرَةُ أوْ نَصُورِيَةُ، وبِها سُمِّيَتِ النَّصارى ونُسِبُوا إلَيْها، وقِيلَ: إنَّهم جَمْعُ نَصْرانٍ كَنَدامى ونَدْمانٍ، أوْ جَمْعُ نَصْرِيٍّ كَمَهْرِيٍّ ومَهارى، والنَّصْرانِيَّةُ والنَّصْرانَةُ واحِدَةُ النَّصارى، والنَّصْرانِيَّةُ أيْضًا دِينُهُمْ، ويُقالُ لَهُمْ: نَصارى وأنْصارٌ، وتَنَصَّرَ دَخَلَ في دِينِهِمْ ﴿فَنَسُوا﴾ عَلى إثْرِ أخْذِ المِيثاقِ ﴿حَظًّا﴾ نَصِيبًا وافِرًا ﴿مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ في تَضاعِيفِ المِيثاقِ مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ تَعالى وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الفَرائِضِ، وقِيلَ: هو ما كُتِبَ عَلَيْهِمْ في الإنْجِيلِ مِنَ الإيمانِ بِالنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ، واتَّبَعُوا أهْواءَهُمْ، وتَفَرَّقُوا إلى اثْنَتَيْنِ وسَبْعِينَ فِرْقَةً ﴿فَأغْرَيْنا﴾ أيْ: ألْزَمْنا وألْصَقْنا، وأصْلُهُ اللُّصُوقُ، يُقالُ: غَرِيتُ بِالرَّجُلِ غَرًى إذا لَصِقْتَ بِهِ قالَهُ الأصْمَعِيُّ، وقالَ غَيْرُهُ: غَرِيتُ بِهِ غَراءً بِالمَدِّ، وأغْرَيْتُ زَيْدًا بِكَذا حَتّى غَرِيَ بِهِ، ومِنهُ الغِراءُ الَّذِي يُلْصَقُ بِهِ الأشْياءُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ( بَيْنَهم ) ظَرْفٌ لِـ( أغْرَيْنا ) أوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن مَفْعُولِهِ، أيْ: أغْرَيْنا ( العَداوَةَ والبَغْضاءَ ) كائِنَةً بَيْنَهم.
قالَ أبُو البَقاءِ: ولا سَبِيلَ إلى جَعْلِهِ ظَرْفًا لَهُما؛ لِأنَّ المَصْدَرَ لا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَهُ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ مِنهم مَن أجازَ ذَلِكَ إذا كانَ المَعْمُولُ ظَرْفًا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ إمّا غايَةٌ لِلْإغْراءِ أوْ لِلْعَداوَةِ والبَغْضاءِ، أيْ: يَتَعادُّونَ ويَتَباغَضُونَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، حَسْبَما تَقْتَضِيهِ أهْواؤُهُمُ المُخْتَلِفَةُ، وآراؤُهُمُ الزّائِغَةُ، المُؤَدِّيَةُ إلى التَّفَرُّقِ إلى الفَرْقِ الكَثِيرَةِ، ومِنها النُّسْطُورِيَّةُ واليَعْقُوبِيَّةُ والمَلْكانِيَّةُ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِمْ، فَضَمِيرُ ( بَيْنَهم ) إلى النَّصارى كَما رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ، واخْتارَهُ الزَّجّاجُ والطَّبَرِيُّ، وعَنِ الحَسَنِ وجَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ عائِدٌ عَلى اليَهُودِ والنَّصارى.
﴿وسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ في الدُّنْيا مِن نَقْضِ المِيثاقِ ونِسْيانِ الحَظِّ الوافِرِ مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ، والكَلامُ مَساقٌ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِالجَزاءِ والعِقابِ، فالإنْباءُ مَجازٌ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ وانْكِشافِهِ لَهُمْ، لا أنَّ ثَمَّتْ أخْبارًا حَقِيقَةً، والنُّكْتَةُ في التَّعْبِيرِ بِالإنْباءِ الإنْباءُ بِأنَّهم لا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ ما يَعْمَلُونَهُ مِنَ الأعْمالِ السَّيِّئَةِ واسْتِتْباعِها لِلْعَذابِ، فَيَكُونُ تَرْتِيبُ العَذابِ عَلَيْها في إفادَةِ العِلْمِ بِحَقِيقَةِ حالِها بِمَنزِلَةِ الإخْبارِ بِها، والِالتِفاتُ إلى ذِكْرِ الِاسْمِ الجَلِيلِ لِما مَرَّ مِرارًا، والتَّعْبِيرُ عَنِ العَمَلِ بِالصُّنْعِ لِلْإيذانِ بِرُسُوخِهِمْ فِيهِ ( وسَوْفَ ) لِتَأْكِيدِ الوَعِيدِ.
{"ayah":"وَمِنَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّا نَصَـٰرَىٰۤ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَهُمۡ فَنَسُوا۟ حَظࣰّا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَأَغۡرَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ وَسَوۡفَ یُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُوا۟ یَصۡنَعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











