الباحث القرآني

﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا﴾ رَأى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في المَنامِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلى الحُدَيْبِيَةِ، وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَأى وهو في الحُدَيْبِيَةِ، والأوَّلُ أصَحُّ، أنَّهُ هو وأصْحابُهُ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ وقَدْ حَلَقُوا وقَصَّرُوا فَقَصَّ الرُّؤْيا عَلى أصْحابِهِ فَفَرِحُوا واسْتَبْشَرُوا وحَسِبُوا أنَّهم داخِلُوها في عامِهِمْ وقالُوا: إنَّ رُؤْيا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَقٌّ فَلَمّا تَأخَّرَ ذَلِكَ قالَ عَلى طَرِيقِ الِاعْتِراضِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُفَيْلٍ ورِفاعَةُ بْنُ الحَرْثِ: واللَّهُ ما حَلَقْنا ولا قَصَّرْنا ولا رَأيْنا المَسْجِدَ الحَرامَ فَنَزَلَتْ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ نَحْوَهُ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِكْشافِ لِيَزْدادَ يَقِينُهُ، وفي رِوايَةٍ أنَّ رُؤْياهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إنَّما كانَتْ أنَّ مَلِكًا جاءَهُ فَقالَ لَهُ: ﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾ إلَخْ، والمَعْنى لَقَدْ صَدَقَهُ سُبْحانَهُ في رُؤْياهُ عَلى أنَّهُ مِن بابِ الحَذْفِ والإيصالِ كَما في قَوْلِهِمْ: صَدَقَنِي سِنُّ بَكْرِهِ، وتَحْقِيقُهُ أنَّهُ تَعالى أراهُ الرُّؤْيا الصّادِقَةَ. وقالَ الرّاغِبُ: الصِّدْقُ يَكُونُ بِالقَوْلِ ويَكُونُ بِالفِعْلِ وما في الآيَةِ صِدْقٌ بِالفِعْلِ وهو التَّحْقِيقُ أيْ حَقَّقَ سُبْحانَهُ رُؤْيَتَهُ. وفي شَرْحِالكِرْمانِيِّ كَذِبٌ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ يُقالُ: كَذَبَنِي الحَدِيثَ وكَذا صَدَقَ كَما في الآيَةِ، وهو غَرِيبٌ لِتَعَدِّي المُثْقَلِ لِواحِدٍ والمُخَفَّفِ لِمَفْعُولَيْنِ انْتَهى. وفي البَحْرِ صَدَقَ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ الثّانِي مِنهُما بِنَفْسِهِ وبِحَرْفِ الجَرِّ تَقُولُ صَدَقْتُ زَيْدًا الحَدِيثَ وصَدَقْتُهُ في الحَدِيثِ، وقَدْ عَدَّها بَعْضُهم في أخَواتِ اسْتَغْفَرْ وأمَرَ والمَشْهُورُ ما أشَرْنا إلَيْهِ أوَّلًا ( بِالحَقِّ ) صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ صِدْقًا مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ أيْ بِالفَرْضِ الصَّحِيحِ والحِكْمَةِ البالِغَةِ وهو ظُهُورُ حالِ المُتَزَلْزِلِ في الإيمانِ والرّاسِخِ فِيهِ، ولِأجْلِ ذَلِكَ أُخِّرَ وُقُوعُ الرُّؤْيا إلى العامِ القابِلِ أوْ حالٌ مِنَ الرُّؤْيا أيْ مُلْتَبِسَةً بِالحَقِّ لَيْسَتْ مِن قَبِيلِ أضْغاثِ الأحْلامِ، وجُوِّزَ كَوْنُهُ حالًا مِنَ الِاسْمِ الجَلِيلِ وكَوْنُهُ حالًا مِن ( رَسُولَهُ ) وكَوْنُهُ ظَرْفًا لَغْوًا لِصَدَقَ وكَوْنُهُ قَسَمًا بِالحَقِّ الَّذِي هو مِن أسْمائِهِ عَزَّ وجَلَّ أوْ بِنَقِيضِ الباطِلِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ﴾ عَلَيْهِ جَوابُ القَسَمِ والوَقْفُ عَلى ( الرُّؤْيا ) وهو عَلى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ جَوابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ والوَقْفُ عَلى ( بِالحَقِّ ) أيْ واللَّهِ لَتَدْخُلُنَّ إلَخْ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنْ شاءَ اللَّهُ﴾ تَعْلِيقٌ لِلْعِدَّةِ بِالمَشِيئَةِ لِتَعْلِيمِ العِبادِ، وبِهِ يَنْحَلُّ ما يُقالُ: إنَّهُ تَعالى خالِقٌ لِلْأشْياءِ كُلِّها وعالِمٌ بِها قَبْلَ وُقُوعِها فَكَيْفَ وقَعَ التَّعْلِيقُ مِنهُ سُبْحانَهُ بِالمَشِيئَةِ، وفي مَعْنى ما ذُكِرَ قَوْلُ ثَعْلَبٍ: اسْتَثْنى سُبْحانَهُ وتَعالى فِيما يَعْلَمُ لِيُسْتَثْنى الخَلْقُ فِيما لا يَعْلَمُونَ. وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ وُقُوعَ الدُّخُولِ مِن مَشِيئَتِهِ تَعالى لا مِن جَلادَتِهِمْ وتَدْبِيرِهِمْ، وذَكَرَ الخَفاجِيُّ أنَّهُ قَدْ وضَعَ فِيهِ الظّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ وأصْلُهُ لَتَدْخُلُنَّهُ لا مَحالَةَ إلّا إنْ شاءَ عَدَمَ الدُّخُولِ فَهو وعْدٌ لَهم عَدَلَ بِهِ عَنْ ظاهِرِهِ لِأجْلِ التَّعْرِيضِ بِهِمْ والإنْكارِ عَلى المُعْتَرِضِينَ عَلى الرُّؤْيا فَيَكُونُ مِن بابِ الكِنايَةِ انْتَهى. وقَدْ أُجِيبَ عَنِ السُّؤالِ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقِيلَ: الشَّكُّ راجِعٌ إلى المُخاطَبِينَ، وفِيهِ شَيْءٌ سَتَعْلَمُهُ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: (p-121)إنَّ التَّعْلِيقَ راجِعٌ إلى دُخُولِهِمْ جَمِيعًا وحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الجِبائِيِّ، وقِيلَ: إنَّهُ ناظِرٌ إلى الأمْنِ فَهو مُقَدَّمٌ مِن تَأْخِيرٍ أيْ لَتَدْخُلُنَّهُ حالَ كَوْنِكم ﴿آمِنِينَ﴾ مِنَ العَدُوِّ إنْ شاءَ اللَّهُ. ورَدَّهُما في الكَشْفِ فَقالَ: أمّا جَعْلُهُ قَيْدَ دُخُولِهِمْ بِالأسْرِ أوِ الأمْنِ فَفِيهِ أنَّ السُّؤالَ بَعْدُ باقٍ لِأنَّ الدُّخُولَ المَخْصُوصَ أيْضًا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى وهو يُنافِي الشَّكَّ، ولَيْسَ نَظِيرَ قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ إذْ لا يَبْعُدُ أنْ لا يَعْرِفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مُسْتَقَرَّ الأمْرِ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ فَإمّا أنْ يُؤَوَّلَ بِأنَّ الشَّكَّ راجِعٌ إلى المُخاطَبِينَ أوْ بِأنَّهُ تَعْلِيمٌ، والثّانِي أوْلى لِأنَّ تَغْلِيبَ الشّاكِّينَ لا يُناسَبُ هَذا المَساقَ بَلِ الأمْرُ بِالعَكْسِ. ودَفْعُ وُرُودِهِ عَلى الحُسَيْنِ بِأنَّ المُرادَ أنَّهُ في مَعْنى لَيَدْخُلُنَّهُ مَن شاءَ اللَّهُ دُخُولَهُ مِنكم فَيَكُونُ كِنايَةً عَنْ أنَّ مِنهم مَن لا يَدْخُلُهُ لِأنَّ أجَلَهُ يَمْنَعُهُ مِنهُ فَلا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ لِما ذُكِرَ. وقِيلَ: هو حِكايَةٌ لِما قالَهُ مَلَكُ الرُّؤْيا لَهُ ﷺ وإلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ كَيْسانَ أوْ لِما قالَهُ هو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِأصْحابِهِ. ورَدَّهُ صاحِبُ التَّقْرِيبِ بِأنَّهُ كَيْفَ يَدْخُلُ في كَلامِهِ تَعالى ما لَيْسَ مِنهُ بِدُونِ حِكايَةٍ. ودُفِعَ بِأنَّ المُرادَ أنَّ جَوابَ القَسَمِ بَيانٌ لِلرُّؤْيا وقائِلُها في المَنامِ المَلَكُ وفي اليَقَظَةِ الرَّسُولُ ﷺ فَهي في حُكْمِ المَحْكِيِّ في دَقِيقِ النَّظَرِ كَأنَّهُ قِيلَ: وهي قَوْلُ المَلَكِ أوِ الرَّسُولِ لَتَدْخُلُنَّ إلَخْ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا وإنْ صَحَّحَ النَّظْمُ الكَرِيمُ لا يَدْفَعُ البُعْدَ، وقَدِ اعْتَرَضَ بِهِ عَلى ذَلِكَ صاحِبُ الكَشْفِ لَكِنَّهُ ادَّعى أنَّ كَوْنَهُ حِكايَةً ما قالَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أقَلُّ بُعْدًا مِن جَعْلِهِ مِن قَوْلِ المَلَكِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وقَوْمٌ مِنَ النُّحاةِ: ( إنْ ) بِمَعْنى إذْ وجَعَلُوا مِن ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وقَوْلُهُ ﷺ في زِيارَةِ القُبُورِ: «(أنْتُمُ السّابِقُونَ وإنّا إنْ شاءَ اللَّهُ بِكم لاحِقُونَ)». والبَصْرِيُّونَ لا يَرْتَضُونَ ذَلِكَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكم ومُقَصِّرِينَ﴾ حالٌ كَآمِنِينَ مِنَ الواوِ المَحْذُوفَةِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾ إلّا أنَّ آمِنِينَ حالٌ مُقارَنَةٌ وهَذا حالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأنَّ الدُّخُولَ في حالِ الإحْرامِ لا في حالِ الحَلْقِ والتَّقْصِيرِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ضَمِيرِ ( آمِنِينَ ) والمُرادُ مُحَلِّقًا بَعْضُكم رَأْسَ بَعْضٍ ومُقَصِّرًا آخَرُونَ فَفي الكَلامِ تَقْدِيرٌ أوْ فِيهِ نِسْبَةُ ما لِلْجُزْءِ إلى الكُلِّ، والقَرِينَةُ عَلَيْهِ أنَّهُ لا يَجْتَمِعُ الحَلْقُ وهو مَعْرُوفٌ والتَّقْصِيرُ وهو أخْذُ بَعْضِ الشَّعْرِ فَلا بُدَّ مِن نِسْبَةِ كُلٍّ مِنهُما لِبَعْضٍ مِنهُمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَخافُونَ﴾ حالٌ مِن فاعِلِ ﴿لَتَدْخُلُنَّ﴾ أيْضًا لِبَيانِ الأمْنِ بَعْدَ تَمامِ الحَجِّ ( وآمِنِينَ ) فِيما تَقَدَّمَ لِبَيانِ الأمْنِ وقْتَ الدُّخُولِ فَلا تَكْرارَ أوْ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في ( آمِنِينَ ) فَإنْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنى آمِنِينَ كانَ حالًا مُؤَكَّدَةً، وإنْ أُرِيدَ لا تَخافُونَ تَبِعَةً في الحَلْقِ أوِ التَّقْصِيرِ ولا نَقْصَ ثَوابٍ فَهو حالٌ مُؤَسِّسَةٌ، ولا يَخْفى الحالُ إذا جُعِلَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿مُحَلِّقِينَ﴾ أوْ ( مُقَصِّرِينَ)، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا في جَوابِ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ الحالُ بَعْدَ الدُّخُولِ؟ فَقِيلَ: لا تَخافُونَ أيْ بَعْدَ الدُّخُولِ. واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الحَلْقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ في النُّسُكِ بَلْ يُجْزِئُ عَنْهُ التَّقْصِيرُ، وظاهِرُ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ أنَّهُ أفْضَلُ مِنهُ وهو الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الأخْبارُ في غَيْرِ النِّساءِ. أخْرَجَ الشَّيْخانِ وأحْمَدُ وابْنُ ماجَهْ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: (قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ والمُقَصِّرِينَ قالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاثًا قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ والمُقَصِّرِينَ قالَ: والمُقَصِّرِينَ)». وأمّا في النِّساءِ فَقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(لَيْسَ عَلى النِّساءِ حَلْقٌ وإنَّما عَلى النِّساءِ التَّقْصِيرُ)». والسُّنَّةُ في الحَلْقِ أنْ (p-122)يُبْدَأ بِالجانِبِ الأيْمَنِ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ «عَنْ أنَسٍ أنَّهُ رَأى النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ لِلْحَلّاقِ هَكَذا وأشارَ بِيَدِهِ إلى جانِبِ الأيْمَنِ وإنْ يَبْلُغْ بِهِ إلى العَظْمَيْنِ» كَما قالَ عَطاءٌ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّهُما كانا يَقُولانِ لِلْحَلّاقِ ابْدَأْ بِالأيْمَنِ وابْلُغْ بِالحَلْقِ العَظْمَيْنِ، واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ أيْضًا عَلى أنَّ التَّقْصِيرَ بِالرَّأْسِ دُونَ اللِّحْيَةِ وسائِرِ شَعْرِ البَدَنِ إذِ الظّاهِرُ أنَّ المُرادَ ومُقَصِّرِينَ رُؤُوسَكم أيْ شَعْرَها لِظُهُورِ أنَّ الرُّؤُوسَ أنْفُسَها لا تُقَصَّرُ ﴿فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا﴾ الظّاهِرُ عَطْفُهُ عَلى ﴿لَقَدْ صَدَقَ﴾ فالتَّرْتِيبُ بِاعْتِبارِ التَّعَلُّقِ الفِعْلِيِّ بِالمَعْلُومِ أيْ فَعَلِمَ عَقِيبَ ما أراهُ الرُّؤْيا الصّادِقَةَ ما لَمْ تَعْلَمُوا مِنَ الحِكْمَةِ الدّاعِيَةِ لِتَقْدِيمِ ما يَشْهَدُ لِلصِّدْقِ عِلْمًا فِعْلِيًّا، وقِيلَ: الفاءُ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ ﴿فَجَعَلَ﴾ لِأجْلِ هَذا العِلْمِ ﴿مِن دُونِ ذَلِكَ﴾ أيْ مِن دُونِ تَحَقُّقِ مِصْداقِ ما أراهُ مِن دُخُولِ المَسْجِدِ الحَرامِ آمِنِينَ إلَخْ، وقِيلَ: أيْ مِن دُونِ فَتْحِ مَكَّةَ، والأوَّلُ أظْهَرُ، وهَذا أنْسَبُ بُقُولِهِ تَعالى: ﴿فَتْحًا قَرِيبًا﴾ وهو فَتْحُ خَيْبَرَ كَما قالَ ابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُ، والمُرادُ بِجَعْلِهِ وعْدَهُ تَعالى وإنْجازَهُ مِن غَيْرِ تَسْوِيفٍ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلى صِدْقِ الرُّؤْيا وتَسْتَرْوِحَ قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ إلى تَيَسُّرِ وُقُوعِها. وقالَ في الكَشّافِ: ﴿ما لَمْ تَعْلَمُوا﴾ أيْ مِنَ الحِكْمَةِ في تَأْخِيرِ فَتْحِ مَكَّةَ إلى العامِ القابِلِ، وفِيهِ أمْرانِ: الأوَّلُ أنَّ فَتْحَ مَكَّةَ لَمْ يَقَعْ في العامِ الَّذِي قالَهُ بَلْ في السَّنَةِ الثّامِنَةِ، والتَّجَوُّزُ في العامِ القابِلِ أوْ تَأْوِيلُ الفَتْحِ بِدُخُولِ المُؤْمِنِينَ مَكَّةَ مُعْتَمِرِينَ لا يَخْفى حالُهُ. الثّانِي إباءُ الفاءِ عَمّا ذُكِرَ لِأنَّ عِلْمَهُ تَعالى بِذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ عَلى إراءَةِ الرُّؤْيا قَطْعًا. وأُجِيبَ عَنْ هَذا بِالتِزامِ كَوْنِ الفاءِ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ أوْ كَوْنُ المُرادِ فَأظْهَرَ مَعْلُومَهُ لَكم وهو الحِكْمَةُ فَتَدَبَّرْ. ونُقِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّ الفَتْحَ القَرِيبَ في الآيَةِ هو بَيْعَةُ الرِّضْوانِ، وقالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ إسْحاقَ: هو فَتْحُ الحُدَيْبِيَةِ، ومِنَ الغَرِيبِ ما قِيلَ: إنَّ المُرادَ بِهِ فَتْحُ مَكَّةَ مَعَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ دُخُولُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصْحابُهُ دُونَ مَكَّةَ عَلى أنَّهُ مُنافٍ لِلسِّياقِ كَما لا يَخْفى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب