الباحث القرآني

﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ أنْ تَصِلُوا إلَيْهِ وتَطُوفُوا بِهِ ﴿والهَدْيَ﴾ بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في ﴿صَدُّوكُمْ﴾ أيْ وصَدُّوا الهَدْيَ وهو ما يُهْدى إلى البَيْتِ، قالَ الأخْفَشُ: الواحِدَةُ هَدْيَةٌ ويُقالُ لِلْأُنْثى هَدْيٌ كَأنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. وفي البَحْرِ إسْكانُ دالِهِ لُغَةُ قُرَيْشٍ وبِها قَرَأ الجُمْهُورُ، وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ والحَسَنُ وعِصْمَةُ عَنْ عاصِمٍ واللُّؤْلُؤِيُّ وخارِجَةُ عَنْ أبِي عَمْرٍو بِكَسْرِ الدّالِ وتَشْدِيدِ الياءِ وذَلِكَ لُغَةٌ، وهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ عَلى ما صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ واحِدٍ، وكانَ هَذا الهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً عَلى ما هو المَشْهُورُ، وقالَ مُقاتِلٌ: كانَ مِائَةَ بَدَنَةٍ. وقَرَأ الجُعْفِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو (الهَدْيِ) بِالجَرِّ عَلى أنَّهُ عَطْفٌ عَلى المَسْجِدِ الحَرامِ بِحَذْفِ المُضافِ أيْ ونَحْرَ الهَدْيِ. وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى إضْمارِ وصَدِّ الهَدْيِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿مَعْكُوفًا﴾ حالٌ مِنَ ( الهَدْيَ ) عَلى جَمِيعِ القِراءاتِ، وقِيلَ: عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ( الهَدْيُ ) مُبْتَدَأٌ والكَلامُ نَحْوَ حُكْمُكَ مَسْمَطًا، وقَوْلُهُ تَعالى: ( ونَحْنُ عُصْبَةٌ ) عَلى قِراءَةِ النَّصْبِ وهو كَما تَرى، والمَعْكُوفُ المَحْبُوسُ يُقالُ: عَكَفْتُ الرَّجُلَ عَنْ حاجَتِهِ حَبَسْتُهُ عَنْها، وأنْكَرَ أبُو عَلِيٍّ تَعْدِيَةَ عَكَفَ وحَكاها ابْنُ سِيدَهْ والأزْهَرِيُّ وغَيْرُهُما، وظاهِرُ ما في الآيَةِ (p-113)مَعَهم، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ ( الهَدْيَ ) كَأنَّهُ قِيلَ: وصَدُّوا بُلُوغَ الهَدْيِ مَحَلَّهُ أوْ صَدُّوا عَنْ بُلُوغِ الهَدْيِ أوْ وصَدَّ بُلُوغَ الهَدْيِ حَسَبَ اخْتِلافِ القِراءاتِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ لِلصَّدِّ أيْ كَراهَةَ أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ، وأنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ مَجْرُورًا بِلامٍ مُقَدَّرَةٍ. لِمَعْكُوفًا. أيْ مَحْبُوسًا لِأجْلِ أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ويَكُونُ الحَبْسُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِنَزْعِ الخافِضِ وهو مِن أوْ عَنْ أيْ مَحْبُوسًا مِن أوْ عَنْ أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فَيَكُونُ الحَبْسُ مِنَ المُشْرِكِينَ عَلى ما هو الظّاهِرُ، ومَحِلُّ الهَدْيِ مَكانٌ يَحِلُّ فِيهِ نَحْرُهُ أيْ يَسُوغُ أوْ مَكانُ حُلُولِهِ أيْ وُجُوبِهِ ووُقُوعِهِ كَما نُقِلَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ، والمُرادُ مَكانُهُ المَعْهُودُ وهو مِنًى، أمّا عَلى رَأْيِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَلِأنَّ مَكانَهُ لِمَن مَنَعَ حَيْثُ مَنَعَ فَيَكُونُ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ومَن مَعَهُ ولِذا نَحَرُوا هُناكَ أعْنِي في الحُدَيْبِيَةِ، وأمّا عَلى رَأْيِ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَلِأنَّ مَكانَهُ الحَرَمُ مُطْلَقًا وبَعْضُ الحُدَيْبِيَةِ حَرَمٌ عِنْدِهِ وقَدْ رَوَوْا أنَّ مَضارِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَتْ في الحِلِّ مِنها ومُصَلّاهُ في الحَرَمِ والنَّحْرُ قَدْ وقَعَ فِيما هو حَرَمٌ فَيَكُونُ الهَدْيُ بالِغًا مَحِلَّهُ غَيْرَ مَعْكُوفٍ عَنْ بُلُوغِهِ فَلا بُدَّ مِن إرادَةِ المَعْهُودِ لِيَتَسَنّى ذَلِكَ، وزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ الآيَةَ دَلِيلٌ لِأبِي حَنِيفَةَ عَلى أنَّ المَمْنُوعَ مَحِلُّ هَدْيِهِ الحَرَمُ ثُمَّ تَكَلَّمَ بِما لا يَخْفى حالُهُ عَلى مَن راجَعَهُ. ومِنَ النّاسِ مَن قَرَّرَ الِاسْتِدْلالَ بِأنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ يَكُونُ بِمَعْنى الحَرَمِ وهَمَّ لَمّا صَدُّوهم عَنْهُ ومَنَعُوا هَدْيَهم أنْ يَدْخُلَهُ فَيَصِلَ إلى مَحِلِّهِ دَلَّ بِحَسَبِ الظّاهِرِ عَلى أنَّهُ مَحِلُّهُ، ثُمَّ قالَ: ولا يُنافِيهِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ نَحَرَ في طَرَفٍ مِنهُ كَما لا يُنافى الصَّدُّ عَنْهُ كَوْنَ مُصَلّاهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فِيهِ لِأنَّهم مَنَعُوهم فَلَمْ يَمْتَنِعُوا بِالكُلِّيَّةِ وهو كَما تَرى. والإنْصافُ أنَّهُ لا يَتِمُّ الِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ عَلى هَذا المَطْلَبِ أصْلًا. وطَعَنَ بَعْضُ أجِلَّةِ الشّافِعِيَّةِ في كَوْنِ شَيْءٍ مِنَ الحُدَيْبِيَةَ مِنَ الحَرَمِ فَقالَ: إنَّهُ خِلافُ ما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ وحُدُودُ الحَرَمِ مَشْهُورَةٌ مِن زَمَنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا يُعْتَدُّ بِرِوايَةٍ شَذَّبَها الواقِدِيُّ كَيْفَ وقَدْ صَرَّحَ بِخِلافِها البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ الثِّقاتِ، والرِّوايَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ لَيْسَتْ بِثَبْتٍ انْتَهى، ولَعَلَّ مَن قالَ: بِأنَّ بَعْضَها مِنَ الحَرَمِ اسْتَنَدَ في ذَلِكَ إلى خَبَرٍ صَحِيحٍ. ومِن قَواعِدِهِمْ أنَّ المُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلى النّافِي واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ ﴿ولَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ونِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ صِفَةُ ( رِجالٌ ونِساءٌ ) عَلى تَغْلِيبِ المُذَكَّرِ عَلى المُؤَنَّثِ. وكانُوا عَلى ما أخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ. وغَيْرُهُ عَنْ أبِي جُمُعَةَ جُنْبُذِ بْنِ سَبُعٍ تِسْعَةَ نَفَرٍ سَبْعَةَ رِجالٍ وهو مِنهم وامْرَأتَيْنِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ تَطَئُوهُمْ﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنهم وجُوِّزَ كَوْنُهُ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في ﴿تَعْلَمُوهُمْ﴾ واسْتَبْعَدَهُ أبُو حَيّانَ، والوَطْءُ الدَّوْسُ واسْتُعِيرَ هُنا لِلْإهْلاكِ وهي اسْتِعارَةٌ حَسَنَةٌ وارِدَةٌ في كَلامِهِمْ قَدِيمًا وحَدِيثًا، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الحارِثِ بْنِ وعْلَةَ الذُّهْلِيُّ: ؎ووَطِئَتْنا وطْأً عَلى حَنَقٍ وطْءَ المُقَيَّدِ نابِتِ الهَرَمِ وقَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن حَدِيثِ: «(وإنَّ آخِرَ وطْأةٍ وطِئَها اللَّهُ تَعالى بِوَجٍّ)». وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «(اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطَأتَكَ عَلى مُضَرَ)» ﴿فَتُصِيبَكم مِنهُمْ﴾ أيْ مِن جِهَتِهِمْ ﴿مَعَرَّةٌ﴾ أيْ مَكْرُوهٌ ومَشَقَّةٌ مَأْخُوذٌ مِنَ العَرِّ والعَرَّةِ وهو الجَرَبُ الصَّعْبُ اللّازِمُ، وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: هي مَفْعَلَةٌ مِن عَرَّهُ إذا عَراهُ ودَهاهُ ما يَكْرَهُ، والمُرادُ بِها هُنا عَلى ما رُوِيَ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ تَعْيِيرُ الكُفّارِ وقَوْلُهم في المُؤْمِنِينَ: إنَّهم قَتَلُوا أهْلَ دِينِهِمْ، وقِيلَ: التَّأسُّفُ عَلَيْهِمْ وتَألُّمُ النَّفْسِ مِمّا أصابَهم. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المَأْثَمُ بِقَتْلِهِمْ. وقالَ ابْنُ إسْحَقَ: الدِّيَةُ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكِلا القَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ لِأنَّهُ لا إثْمَ ولا دِيَةَ (p-114)فِي قَتْلِ مُؤْمِنٍ مَسْتُورِ الإيمانِ بَيْنَ أهْلِ الحَرْبِ: وقالَ الطَّبَرِيُّ: هي الكَفّارَةُ. وتَعَقَّبَ بَعْضُهم هَذا أيْضًا بِأنَّ في وُجُوبِ الكَفّارَةِ خِلافًا بَيْنَ الأئِمَّةِ. وفي الفُصُولِ العِمادِيَّةِ ذِكْرٌ في تَأْسِيسِ النَّظائِرِ في الفِقْهِ قالَ أصْحابُنا: دارُ الحَرْبِ تَمْنَعُ وُجُوبَ ما يَنْدَرِئُ بِالشُّبَهاتِ لِأنَّ أحْكامَنا لا تَجْرِي في دارِهِمْ وحُكْمَ دارِهِمْ لا يَجْرِي في دارِنا. وعِنْدَ الشّافِعِيِّ دارُ الحَرْبِ لا تَمْنَعُ وُجُوبَ ما يَنْدَرِئُ بِالشُّبَهاتِ، بَيانُ ذَلِكَ حَرْبِيٌّ أسْلَمَ في دارِ الحَرْبِ وقَتَلَ مُسْلِمًا دَخَلَ دارَهم بِأمانٍ لا قِصاصَ عَلَيْهِ عِنْدَنا ولا دِيَةَ وعِنْدَ الشّافِعِيِّ عَلَيْهِ القِصاصُ وعَلى هَذا لَوْ أنَّ مُسْلِمَيْنِ مُتَسامِنَيْنِ دَخَلا دارَ الحَرْبِ وقَتَلَ أحَدُهُما صاحِبَهُ لا قِصاصَ عَلَيْهِ عِنْدَنا وعِنْدَ الشّافِعِيِّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْألَةً مُخْتَلَفًا فِيها بَيْنَ أبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ فَقالَ: إذا قَتَلَ أحَدُ الأسِيرَيْنِ صاحِبَهُ في دارِ الحَرْبِ لا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ إلّا الكَفّارَةَ لِأنَّهُ تَبَعٌ لَهم فَصارَ كَواحِدٍ مِن أهْلِ الحَرْبِ، وعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجِبُ الدِّيَةُ لِأنَّ لَهُ حُكْمَ نَفْسِهِ فاعْتُبِرَ حُكْمُ نَفْسِهِ عَلى حِدَةٍ انْتَهى. ونُقِلَ عَنِ الكافِي أنَّ مَن أسْلَمَ في دارِ الحَرْبِ ولَمْ يُهاجِرْ إلَيْنا وقَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا أوْ خَطَأً ولَهُ ورَثَةٌ مُسْلِمُونَ ثُمَّ لا يَضْمَنُ شَيْئًا إنْ كانَ عَمْدًا وإنْ كانَ خَطَأً ضَمِنَ الكَفّارَةَ دُونَ الدِّيَةِ انْتَهى وتَمامُ الكَلامِ في هَذا المَقامِ يُطْلَبُ في مَحَلِّهِ، والزَّمَخْشَرِيُّ فَسَّرَ المَعَرَّةَ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ والكَفّارَةِ وسُوءِ قالَةِ المُشْرِكِينَ والمَأْثَمِ إذا جَرى مِنهم بَعْضُ التَّقْصِيرِ وهو كَما نَرى. ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ في ﴿تَطَئُوهُمْ﴾ قِيلَ ولا تَكْرارَ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ سَواءٌ كانَ ﴿أنْ تَطَئُوهُمْ﴾ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِن ( رِجالٌ ونِساءٌ ) أوْ بَدَلًا مِنَ المَنصُوبِ في ﴿لَمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ أمّا عَلى الثّانِي فَلِأنَّ حاصِلَ المَعْنى ولَوْلا مُؤْمِنُونَ لَمْ تَعْلَمُوا وطْأتَهم وإهْلاكَهم وأنْتُمْ غَيْرُ عالِمِينَ بِإيمانِهِمْ لِأنَّ احْتِمالَ أنَّهم يَهْلَكُونَ مِن غَيْرِ شُعُورٍ مَعَ إيمانِهِمْ سَبَبُ الكَفِّ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ العِلْمانِ فَمُتَعَلِّقُ العِلْمِ في الأوَّلِ الوَطْأةُ وفي الثّانِي أنْفُسُهم بِاعْتِبارِ الإيمانِ، وأمّا عَلى الأوَّلِ فَلِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) لِما كانَ حالًا مِن فاعِلِ ﴿تَطَئُوهُمْ﴾ كانَ العِلْمُ بِهِمْ راجِعًا إلى العِلْمِ بِاعْتِبارِ الإهْلاكِ كَما تَقُولُ أهْلَكْتُهُ مِن غَيْرِ عِلْمٍ فَلا الإهْلاكُ مِن غَيْرِ شُعُورٍ ولا العِلْمُ بِإيمانِهِمْ حاصِلٌ والأمْرانِ لِكَوْنِهِما مَقْصُودَيْنِ بِالذّاتِ صَرَّحَ بِهِما وإنْ تَقارَبا أوْ تَلازَما في الجُمْلَةِ. وجُوِّزَ أنْ يَجْعَلَ ﴿لَمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ كِنايَةً عَنِ الِاخْتِلاطِ كَما يُلَوِّحُ إلَيْهِ كَلامُ الكَشّافِ، وفِيهِ ما يَدْفَعُ التَّكْرارَ أيْضًا، وفي ذَلِكَ بَحْثٌ يُدْفَعُ بِالتَّأمُّلِ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ضَمِيرِ ( مِنهم ) وأنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِـ ( تُصِيبَكم )، أوْ صِفَةً لِمَعَرَّةٍ قِيلَ: وهو عَلى مَعْنى فَتُصِيبَكم مِنهم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنَ الَّذِي يُعَيِّرُكم ويَعِيبُ عَلَيْكم، يَعْنِي إنْ وطِئْتُمُوهم غَيْرَ عالِمِينَ لَزِمَكم سُبَّةٌ مِنَ الكُفّارِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أيْ لا يَعْلَمُونَ أنَّكم مَعْزُورُونَ فِيهِ أوْ عَلى مَعْنى لَمْ تَعْلَمُوا أنْ تطئوهم فَتُصِيبَكم مِنهم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنكم أيْ فَتَقْتُلُوهم بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنكم أوْ تُؤْذُوهم بِغَيْرِ عِلْمٍ فافْهَمْ ولا تَغْفُلْ. وجَوابُ ( لَوْلا ) مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، والمَعْنى عَلى ما سَمِعْتَ أوَّلًا لَوْلا كَراهَةُ أنْ تُهْلِكُوا أُناسًا مُؤْمِنِينَ بَيْنَ ظَهَرانَيِ الكُفّارِ جاهِلِينَ بِهِمْ فَيُصِيبَكم بِإهْلاكِهِمْ مَكْرُوهٌ لَمّا كَفَّ أيْدِيَكم عَنْهم، وحاصِلُهُ أنَّهُ تَعالى ولَوْ لَمْ يَكُفَّ أيْدِيَكم عَنْهم لانْجَرَّ الأمْرُ إلى إهْلاكِ مُؤْمِنِينَ بَيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ فَيُصِيبَكم مِن ذَلِكَ مَكْرُوهٌ وهو عَزَّ وجَلَّ يَكْرَهُ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: دَفَعَ اللَّهُ تَعالى عَنِ المُشْرِكِينَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ بِأُناسٍ مِنَ المُسْلِمِينَ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، وظاهِرُ الأوَّلِ عَلى ما قِيلَ أنَّ عِلَّةَ الكَفِّ صَوْنُ المُخاطَبِينَ عَنْ إصابَةِ المَعَرَّةِ، وظاهِرُ هَذا أنَّ عِلَّتَهُ صَوْنُ أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ عَنِ الوَطْءِ والأمْرُ فِيهِ سَهْلٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ﴾ عِلَّةٌ لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ الجَوابُ المَحْذُوفُ عَلى ما اخْتارَهُ في الإرْشادِ كَأنَّهُ قِيلَ: لَكِنَّهُ سُبْحانَهُ كَفَّها عَنْهم لِيُدْخِلَ بِذَلِكَ الكَفِّ المُؤَدِّي إلى الفَتْحِ بِلا مَحْذُورٍ في رَحْمَتِهِ (p-115)الواسِعَةِ ﴿مَن يَشاءُ﴾ وهم أُولَئِكَ المُؤْمِنُونَ وذَلِكَ بِأمْنِهِمْ وإزالَةِ اسْتِضْعافِهِمْ تَحْتَ أيْدِي المُشْرِكِينَ وبِتَوْفِيقِهِمْ لِإقامَةِ مَراسِمِ العِبادَةِ عَلى الوَجْهِ الأتَمِّ، والتَّعْبِيرُ عَنْهم بِمَن يَشاءُ دُونَ الضَّمِيرِ بِأنْ يُقالَ: لِيُدْخِلَهُمُ اللَّهُ رَحْمَتَهُ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ عِلَّةَ الإدْخالِ المَشِيئَةُ المَبْنِيَّةُ عَلى الحِكَمِ الجَمَّةِ والمَصالِحِ، وجَعَلَهُ بَعْضُهم عِلَّةً لِما يُفْهَمُ مِن صَوْنِ مَن بِمَكَّةَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والرَّحْمَةُ تَوْفِيقُهم لِزِيادَةِ الخَيْرِ والطّاعَةِ بِإبْقائِهِمْ عَلى عَمَلِهِمْ وطاعَتِهِمْ، وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِمَن يَشاءُ، بَعْضُ المُشْرِكِينَ ويُرادُ بِالرَّحْمَةِ الإسْلامُ فَإنَّ أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ إذا صانَهُمُ الكَفُّ المَذْكُورُ أظْهَرُوا إيمانَهم لِمُعايَنَةِ قُوَّةِ الدِّينِ فَيَقْتَدِي بِهِمُ الصّائِرُونَ لِلْإسْلامِ، واسْتَحْسَنَ بَعْضُهم كَوْنَهُ عِلَّةً لِلْكَفِّ المُعَلَّلِ بِالصَّوْنِ. وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِمَن يَشاءُ، المُؤْمِنُونَ فَيُرادُ بِالرَّحْمَةِ التَّوْفِيقُ لِزِيادَةِ الخَيْرِ، والمُشْرِكُونَ فَيُرادُ بِها الإسْلامُ، وبَيَّنَ وجْهَ التَّعْلِيلِ بِأنَّهم إذا شاهَدُوا مَنعَ تَعْذِيبِهِمْ بَعْدَ الظَّفَرِ عَلَيْهِمْ لِاخْتِلاطِ المُؤْمِنِينَ بِهِمِ اعْتِناءً بِشَأْنِهِمْ رَغِبُوا في الإسْلامِ والِانْخِراطِ في سِلْكِ المَرْحُومَيْنِ وأنَّ المُؤْمِنَيْنِ إذا عَلِمُوا مَنعَ تَعْذِيبِ المُشْرِكِينَ بَعْدَ الظَّفَرِ عَلَيْهِمْ لِاخْتِلاطِهِمْ بِهِمْ أظْهَرُوا إيمانَهم فَيُقْتَدى بِهِمْ، وقالَ: لا وجْهَ لِجَعْلِ اللّامِ مُسْتَعارَةً مِن مَعْنى التَّعْلِيلِ لِما يَتَرَتَّبُ عَلى الشَّيْءِ لِأنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الحَقِيقَةِ المُتَبادَرَةِ مِن غَيْرِ داعٍ، وما يُظَنُّ مِن أنَّ تَعْلِيلَ الكَفِّ بِما ذُكِرَ مَعَ أنَّهُ مُعَلَّلٌ بِالصَّوْنِ فاسِدٌ لِما فِيهِ مِنِ اجْتِماعِ عِلَّتَيْنِ عَلى مَعْلُولٍ واحِدٍ شَخْصِيٍّ فاسِدٍ لِأنَّ العِلَلَ إذا لَمْ تَكُنْ تامَّةً حَقِيقَةً لا يَضُرُّ تَعَدُّدُها وما هُنا كَذَلِكَ. هَذا وجَعْلُ ذَلِكَ عِلَّةً لِما دَلَّ عَلَيْهِ الجَوابُ عَلى ما سَمِعْتَ أوَّلًا أوْلى عِنْدِي لِما فِيهِ مِن شِدَّةِ التِحامِ النَّظْمِ الجَلِيلِ، وحَمْلُ ( مَن يَشاءُ ) عَلى المُؤْمِنِينَ المُسْتَضْعَفِينَ دُونَ بَعْضِ المُشْرِكِينَ أوْفَقُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابًا ألِيمًا﴾ والتَّزَيُّلُ التَّفَرُّقُ والتَّمَيُّزُ، وجُوِّزَ في ضَمِيرِ ﴿تَزَيَّلُوا﴾ كَوْنُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ المَذْكُورِينَ فِيما سَبَقَ أيْ لَوْ تَفَرَّقَ أُولَئِكَ المُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ وتَمَيَّزُوا عَنِ الكُفّارِ وخَرَجُوا مِن مَكَّةَ ولَمْ يَبْقَوْا بَيْنَهم لَعَذَّبْنا إلَخْ، وكَوْنُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ والكُفّارِ أيْ لَوِ افْتَرَقَ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ ولَمْ يَبْقَوْا مُخْتَلِطِينَ لَعَذَّبْنا إلَخْ. واخْتارَ غَيْرُ واحِدٍ الأوَّلَ فَمِنهم لِلْبَيانِ، والمُرادُ تَعْذِيبُهم في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والسَّبْيِ كَما قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ وإلّا لَمْ يَكُنْ- لِـ لَوْ- مَوْقِعٌ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنِفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها، وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ كالتَّكْرارِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ( لَوْلا رِجالٌ ) لِأنَّ مَرْجِعَهُما في المَعْنى شَيْءٌ واحِدٌ ويَكُونُ لَعَذَّبْنا هو الجَوا - لِـ لَوْلا - السّابِقَةِ. واعْتَرَضَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ التَّغايُرَ ظاهِرٌ فَلا يَكُونُ تَكْرارًا ولا مُشابِهًا. وأُجِيبُ بِأنَّ كَراهَةَ وطْئِهِمْ لِعَدَمِ تَمَيُّزِهِمْ عَنِ الكَفّارِ الَّذِي هو مَدْلُولُ الثّانِي فَيَكُونُ كَبَدَلِ الِاشْتِمالِ ويَكْفِي ذَلِكَ في كَوْنِهِ كالتَّكْرارِ، وقالَ ابْنُ المُنِيرِ: إنَّما كانَ مَرْجِعُهُما واحِدًا وإنْ كانَتْ ( لَوْلا ) تَدُلُّ عَلى امْتِناعٍ لِوُجُودٍ ( ولَوْ ) تَدُلُّ عَلى امْتِناعٍ لِامْتِناعٍ وبَيْنَ هَذَيْنِ تَنافٍ ظاهِرٌ لِأنَّ (لَوْلا) هاهُنا دَخَلَتْ عَلى وُجُودٍ ولَوْ دَخَلَتْ عَلى ﴿تَزَيَّلُوا﴾ وهو راجِعٌ إلى عَدَمِ وُجُودِهِمْ وامْتِناعُ عَدَمِ الوُجُودِ ثُبُوتٌ فَآلا إلى أمْرٍ واحِدٍ مِن هَذا الوَجْهِ قالَ: وكانَ جَدِّي يَخْتارُ هَذا الوَجْهَ ويُسَمِّيهِ تَطْرِيَةً وأكْثَرُ ما يَكُونُ إذا تَطاوَلَ الكَلامُ وبَعُدَ عَهْدُ أوَّلِهِ واحْتِيجَ إلى بِناءِ الآخِرِ عَلى الأوَّلِ فَمَرَّةً يَطْرى بِلَفْظِهِ ومَرَّةً بِلَفْظٍ آخَرَ يُؤَدِّي مُؤَدّاهُ انْتَهى. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ في حَذْفِ الجَوابِ دَلِيلًا عَلى شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ تَعالى وأنَّهُ لَوْلا حَقُّ المُؤْمِنِينَ لَفَعَلَ بِهِمْ ما لا يَدْخُلُ تَحْتَ الوَصْفِ ولا يُقاسُ، ومِنهُ يُعْلَمُ أنَّ ذَلِكَ الوَجْهَ أرْجَحُ مِن جَعْلِ ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ بِمَنزِلَةِ التَّكْرارِ لِلتَّطْرِيَةِ فَتَطْرِيَةُ الجَوابِ وتَقْوِيَتُهُ أوْلى وأوْفَقُ لِمُقْتَضى المَقامِ، واخْتارَ الطِّيبِيُّ الأوَّلَ أيْضًا مُعَلِّلًا لَهُ بِأنَّهُ حِينَئِذٍ يُقَرِّبُ مِن بابِ الطَّرْدِ والعَكْسُ لِأنَّ التَّقْدِيرَ لَوْلا وُجُودُ مُؤْمِنِينَ مُخْتَلِطِينَ بِالمُشْرِكِينَ غَيْرَ مُتَمَيِّزِينَ مِنهم لَوَقَعَ ما كانَ جَزاءً لِكُفْرِهِمْ وصَدِّهِمْ ولَوْ حَصَلَ (p-116)التَّمْيِيزُ وارْتَفَعَ الِاخْتِلاطُ لَحَصَلَ التَّعْذِيبُ، ثُمَّ إنَّ تَقْدِيرَ الجَوابِ ما تَقَدَّمَ عِنْدَ القائِلِينَ بِالحَذْفِ هو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ، وجَوَّزَ بَعْضُهم تَقْدِيرَهُ لَعَجَّلَ لَهم ما يَسْتَحِقُّونَ وجَعَلَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلَخْ فَكَأنَّهُ قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا واسْتَحَقُّوا التَّعْجِيلَ في إهْلاكِهِمْ ولَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ إلَخْ لَعَجَّلَ لَهم ذَلِكَ وهو أيْضًا أوْلى مِن حَدِيثِ التَّكْرارِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ وابْنُ مِقْسَمٍ وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ عَوْنٍ (لَوْ تَزايَلُوا) عَلى وزْنِ تَفاعَلُوا. وفِي الآيَةِ عَلى ما قالَ الكِيا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ خَرْقُ سَفِينَةِ الكُفّارِ إذا كانَ فِيها أسْرى مِنَ المُسْلِمِينَ وكَذَلِكَ رَمْيُ الحُصُونِ إذا كانُوا بِها والكُفّارُ إذا تَتَرَّسُوا بِهِمْ، وفِيهِ كَلامٌ في كُتُبِ الفُرُوعِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب