الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أدْبارِهِمْ﴾ أيْ رَجَعُوا إلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وغَيْرُهُ: نَزَلَتْ في مُنافِقِينَ كانُوا أسْلَمُوا ثُمَّ نافَقَتْ قُلُوبُهُمْ، وفي إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ هُمُ المُنافِقُونَ الَّذِينَ وُصِفُوا فِيما سَلَفَ بِمَرَضِ القُلُوبِ وغَيْرِهِ مِن قَبائِحِ الأحْوالِ فَإنَّهم قَدْ كَفَرُوا بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى﴾ بِالدَّلائِلِ الظّاهِرَةِ والمُعْجِزاتِ الباهِرَةِ القاهِرَةِ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وجَماعَةٌ عَنْ قَتادَةَ أنَّهُ قالَ: هم أعْداءُ اللَّهِ تَعالى أهْلُ الكِتابِ يَعْرِفُونَ بَعْثَ النَّبِيِّ ﷺ ويَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ ثُمَّ يَكْفُرُونَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّهُ قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا﴾ إلَخْ اليَهُودُ ارْتَدَوْا عَنِ الهُدى بَعْدَ أنْ عَرَفُوا أنَّ مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَبِيٌّ، والمُخْتارُ ما تَقَدَّمَ، وأيًّا ما كانَ فالمَوْصُولُ اسْمُ إنَّ وجُمْلَةُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾ خَبَرُها كَقَوْلِكَ: إنَّ زَيْدًا عَمْرٌو مَرَّ بِهِ أيْ سَهَّلَ لَهم رُكُوبَ العَظائِمِ مِنَ السَّوَلِ بِفَتْحَتَيْنِ وهو الِاسْتِرْخاءُ اسْتُعِيرَ لِلتَّسْهِيلِ أيْ لِعَدِّهِ سَهْلًا هَيِّنًا حَتّى لا يُبالى بِهِ كَأنَّهُ شُبِّهَ بِإرْخاءِ ما كانَ مَشْدُودًا، وقِيلَ: أيْ حَمْلُهم عَلى الشَّهَواتِ مِنَ السَّوَلِ وهو التَّمَنِّي، وأصْلُهُ حَمْلُهم عَلى سُؤْلِهِمْ أيْ ما يَشْتَهُونَهُ ويَتَمَنَّوْنَهُ فالتَّفْعِيلُ لِلْحَمْلِ عَلى المَصْدَرِ كَغَرَبَهُ إذا حَمَلَهُ عَلى الغُرْبَةِ إلّا أنَّهم جَعَلُوا المَصْدَرَ بِمَعْنى اسْمِ المَفْعُولِ، ونُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ. واعْتُرِضَ بِأنَّ السَّوَلَ بِمَعْنى التَّمَنِّي مِنَ السُّؤالِ فَهو مَهْمُوزٌ والتَّسْوِيلَ واوِيٌّ ومَعْناهُ التَّزْيِينُ فَلا مُناسَبَةَ لا لَفْظًا ولا مَعْنًى فالقَوْلُ بِاشْتِقاقِ سَوَّلَ مِنهُ خَطَأٌ، ورُدَّ بِأنَّ السَّوَلَ مِنَ السُّؤالِ ولَهُ اسْتِعْمالانِ فَيَكُونُ مَهْمُوزًا وهو المَعْرُوفُ ومُعْتَلًّا يُقالُ سَألَ يَسْألُ كَخافَ يَخافُ وقالُوا مِنهُ: يَتَساوَلانِ بِالواوِ فَيَجُوزُ كَوْنُ التَّسْوِيلِ مِنَ السَّوَلِ عَلى هَذِهِ اللُّغَةِ أوْ هو عَلى المَشْهُورَةِ خُفِّفَ بِقَلْبِ الهَمْزَةِ ثُمَّ التَزَمَ، ونَظِيرُهُ تَدَيَّرَ مِنَ الدّارِ لِاسْتِمْرارِ (p-75)القَلْبِ في دِيارٍ وكَذَلِكَ تَحَيَّزَ لِاسْتِمْرارِ القَلْبِ في حَيِّزٍ ويَكُونُ مَآلُ المَعْنى عَلى هَذا حَمْلَهم عَلى الشَّهَواتِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ( سُوِّلَ لَهُمْ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وخَرَجَ ذَلِكَ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ أيْ كَيْدُ الشَّيْطانِ سَوَّلَ لَهُمْ، وجُوِّزَ تَقْدِيرُهُ سَوَّلَ كَيْدُهُ لَهم فَحُذِفَ وقامَ الضَّمِيرُ المَجْرُورُ مَقامَهُ فارْتَفَعَ واسْتَتَرَ، قِيلَ: وهو أوْلى لِأنَّهُ تَقْدِيرٌ في وقْتِ الحاجَةِ ولا يَخْفى أنَّ الأوَّلَ أقَلُّ تَكَلُّفًا. ﴿وأمْلى لَهُمْ﴾ أيْ ومَدَّ لَهُمُ الشَّيْطانُ في الأمانِي والآمالِ، ومَعْنى المَدِّ فِيها تَوْسِيعُها وجَعْلُها مَمْدُودَةً بِنَفْسِها أوْ بِزَمانِها بِأنْ يُوَسْوِسَ لَهم بِأنَّكم تَنالُونَ في الدُّنْيا كَذا وكَذا مِمّا لا أصْلَ لَهُ حَتّى يَعُوقَهم عَنِ العَمَلِ، وأصْلُ الإمْلاءِ الإبْقاءُ مِلاوَةٌ مِنَ الدَّهْرِ أيْ بُرْهَةٌ، ومِنهُ قِيلَ: المَعْنى وعَدَهم بِالبَقاءِ الطَّوِيلِ، وجَعَلَ بَعْضُهم فاعِلَ ( أمْلى ) ضَمِيرَهُ تَعالى، والمَعْنى أمْهَلَهم ولَمْ يُعاجِلْهم بِالعُقُوبَةِ وفِيهِ تَفْكِيكٌ لَكِنْ أُيِّدَ بِقِراءَةِ مُجاهِدٍ وابْنِ هُرْمُزَ والأعْمَشِ وسَلّامٍ ويَعْقُوبَ (وأُمْلِي) بِهَمْزَةِ المُتَكَلِّمِ مُضارِعُ أمْلى فَإنَّ الفاعِلَ حِينَئِذٍ ضَمِيرُهُ تَعالى عَلى الظّاهِرِ والأصْلُ تَوافُقُ القِراءَتَيْنِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ماضِيًا مَجْهُولًا مِنَ المَزِيدِ سُكِّنَ آخِرُهُ لِلتَّخْفِيفِ كَما قالُوا في بَقِيَ بَقِي بِسُكُونِ الياءِ. وعَلى الظّاهِرِ جُوِّزَ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلِاسْتِئْنافِ وأنْ تَكُونَ لِلْحالِ ويُقَدَّرُ مُبْتَدَأٌ بَعْدَها أيْ وأنا أُمْلِي لِئَلّا يَكُونَ شاذًّا كَقُمْتُ وأصَكَّ وجْهَهُ، وجُوِّزَتِ الحالِيَّةُ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ أيْضًا عَلى جَعْلِ الفاعِلِ ضَمِيرَهُ تَعالى فَحِينَئِذٍ تُقَدَّرُ قَدْ عَلى المَشْهُورِ. وقَرَأ ابْنُ سِيرِينَ والجَحْدَرِيُّ وشَيْبَةُ وأبُو عَمْرٍو وعِيسى (وأُمْلِي) بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ فَلَهُمْ: نائِبُ الفاعِلِ أيْ أُمْهِلُوا ومُدَّ في أعْمارِهِمْ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الشَّيْطانِ والمَعْنى أمْهَلَ الشَّيْطانُ لَهم أيْ جُعِلَ مِنَ المُنْظَرِينَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ لِأجْلِهِمْ فَفِيهِ بَيانٌ لِاسْتِمْرارِ ضَلالِهِمْ وتَقْبِيحِ حالِهِمْ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب