الباحث القرآني
﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ﴾ إلى آخِرِهِ اسْتِئْنافٌ مَسُوقٌ لَشَرَحِ مَحاسِنِ الجَنَّةِ المَوْعُودَةِ آنِفًا لِلْمُؤْمِنِينَ وبَيانُ كَيْفِيَّةِ أنْهارِها الَّتِي أُشِيرَ إلى جَرَيانِها مِن تَحْتِها وعَبَّرَ عَنْهم بِالمُتَّقِينَ إيذانًا بِأنَّ الإيمانَ والعَمَلَ الصّالِحَ مِن بابِ التَّقْوى الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنْ فِعْلِ الواجِباتِ وتَرْكِ السَّيِّئاتِ، والمَثَلُ الوَصْفُ العَجِيبُ الشَّأْنِ وهو مُبْتَدَأٌ بِاتِّفاقِ المُعْرِبِينَ، واخْتُلِفَ في خَبَرِهِ فَقِيلَ مَحْذُوفٌ فَقالَ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ: تَقْدِيرُهُ ما تَسْمَعُونَ، وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فِيها أنْهارٌ﴾ إلى آخِرِهِ مُفَسِّرٌ لَهُ، وقالَ سِيبَوَيْهِ: تَقْدِيرُهُ فِيما يُتْلى عَلَيْكم أوْ فِيما قَصَصْنا عَلَيْكَ ويُقَدَّرُ مُقَدَّمًا ( وفِيها أنْهارٌ ) إلَخْ بَيانٌ لِذَلِكَ المَثَلِ، وقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ظاهِرٌ في نَفْسِ مَن وعِيَ هَذِهِ الأوْصافَ ولَيْسَ بِذاكَ، ولَعَلَّ الأنْسَبَ بِصَدْرِ النَّظْمِ الكَرِيمِ تَقْدِيرُ النَّضِرِ، وقِيلَ: هو مَذْكُورٌ فَقِيلَ هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِيها أنْهارٌ﴾ إلَخْ عَلى مَعْنى: مَثَلُ الجَنَّةِ وصِفَتِها مَضْمُونُ هَذا الكَلامِ ولا يَحْتاجُ مِثْلُ هَذا الخَيْرِ إلى رابِطٍ.
وقِيلَ: هَذِهِ الجُمْلَةُ هي الخَبَرُ إلّا أنَّ لَفْظَ ( مَثَلُ ) زائِدٌ زِيادَةِ اسْمٍ في قَوْلِ مَن قالَ:
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُما فالمُبْتَدَأُ في الحَقِيقَةِ هو المُضافُ إلَيْهِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: الجَنَّةُ فِيها أنْهارٌ إلَخْ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وقِيلَ: الخَبَرُ قَوْلُهُ تَعالى الآتِي: (p-48)﴿كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ﴾ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بَسْطُ الكَلامِ فِيهِ.
وقَرَأ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وابْنُ عَبّاسٍ وعَبْدُ اللَّهِ والسُّلَمِيُّ (أمْثالُ الجَنَّةِ) أيْ صِفاتُها، قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ قِراءَةَ العامَّةِ بِالتَّوْحِيدِ مَعْناها الكَثْرَةُ لِما في ”مَثَلُ“ مِن مَعْنى المَصْدَرِيَّةِ ولِذا جازَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مِثْلَ رَجُلَيْنِ وبِرَجُلَيْنِ مِثْلَ رِجالٍ وبِامْرَأةٍ مِثْلَ رَجُلٍ، وعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أيْضًا أنَّهُ قُرِئَ (مِثالُ الجَنَّةِ) ومِثالُ الشَّيْءِ في الأصْلِ نَظِيرُهُ الَّذِي يُقابَلُ بِهِ.
﴿مِن ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ أيْ غَيْرِ مُتَغَيِّرِ الطَّعْمِ والرِّيحِ لِطُولِ مُكْثٍ ونَحْوَهُ، وماضِيهِ أسَنَ بِالفَتْحِ مِن بابِ ضَرَبَ ونَصَرَ وبِالكَسْرِ مِن بابِ عَلِمَ حَكى ذَلِكَ الخَفاجِيُّ عَنْ أهْلِ اللُّغَةِ. وفي البَحْرِ أسِنَ الماءُ تَغَيَّرَ رِيحُهُ يَأْسَنُ ويَأْسِنُ ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ في الفَصِيحِ، والمَصْدَرُ أُسُونٌ، وأسِنَ بِكَسْرِ السِّينِ يَأْسَنُ بِفَتْحِها لُغَةَ أسِنا قالَهُ اليَزِيدِيُّ، وأسِنَ الرَّجُلُ بِالكَسْرِ لا غَيْرَ إذا دَخَلَ البِئْرَ فَأصابَتْهُ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ مِنها فَغُشِيَ عَلَيْهِ أوْ دارَ رَأْسُهُ ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎قَدْ أتْرُكُ القَرْنَ مُصْفَرًّا أنامِلُهُ يَمِيدُ في الرِّيحِ مَيْدَ المائِحِ الأسِنِ
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأهْلُ مَكَّةَ (أسِنَ) عَلى وزْنِ حَذِرَ فَهو صِفَةٌ مُشَبِّهَةٌ أوْ صِيغَةُ مُبالَغَةٍ، وقَرَأ (يَسِنُ) بِالياءِ قالَ أبُو عَلِيٍّ: وذَلِكَ عَلى تَخْفِيفِ الهَمْزَةِ ﴿وأنْهارٌ مِن لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ لَمْ يَحْمُضْ ولَمْ يَصِرْ قارِصًا ولا حاذِرًا كَألْبانِ الدُّنْيا وتَغَيَّرُ الرِّيحِ لا يُفارِقُ تَغَيُّرَ الطَّعْمِ ﴿وأنْهارٌ مِن خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ﴾ أيْ لَذِيذَةٍ لَهم لَيْسَ فِيها كَراهَةُ طَعْمٍ ورِيحٍ ولا غائِلَةُ سُكْرٍ وخِمارٍ كَخُمُورِ الدُّنْيا فَإنَّها لا لَذَّةَ في نَفْسِ شُرْبِها وفِيها مِنَ المَكارِهِ والغَوائِلِ ما فِيها وهي صِفَةٌ مُشَبِّهَةٌ مُؤَنَّثُ لَذٍّ وُصِفَتْ بِها الخَمْرُ لِأنَّها مُؤَنَّثَةٌ وقَدْ تُذَكَّرُ أوْ مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ أوْ بِجَعْلِها عَيْنَ اللَّذَّةَ مُبالَغَةً عَلى ما هو المَعْرُوفُ في أمْثالِ ذَلِكَ وقُرِئَتْ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّها صِفَةُ ﴿أنْهارٌ﴾ وبِالنَّصْبِ عَلى أنَّها مَفْعُولٌ لَهُ أيْ كائِنَةً لِأجْلِ اللَّذَّةِ لا لِشَيْءٍ آخَرَ مِنَ الصُّداعِ وسائِرِ آفاتِ خُمُورِ الدُّنْيا ﴿وأنْهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ مِمّا يُخالِفُهُ فَلا يُخالِطُهُ الشَّمْعُ وفَضَلاتُ النَّحْلِ وغَيْرُها، ووَصْفُهُ بِمُصَفّى لِأنَّهُ الغالِبُ عَلى العَسَلِ التَّذْكِيرُ وهو مِمّا يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ كَما نَصَّ عَلَيْهِ أبُو حَيّانَ وغَيْرُهُ، وهَذا عَلى ما قِيلَ تَمْثِيلٌ لِما يَجْرِي مَجْرى الأشْرِبَةِ في الجَنَّةِ بِأنْواعِ ما يُسْتَطابُ مِنها أوْ يُسْتَلَذُّ في الدُّنْيا بِالتَّخْلِيَةِ عَمّا يَنْقُصُها ويُنَغِّصُها والتَّحْلِيَةِ بِما يُوجِبُ غَزارَتَها ودَوامَها.
وبُدِئَ بِالماءِ لِأنَّهُ في الدُّنْيا مِمّا لا يُسْتَغْنى عَنْهُ ثُمَّ بِاللَّبَنِ إذْ كانَ يَجْرِي مَجْرى المَطْعَمِ لِكَثِيرٍ مِنَ العَرَبِ في كَثِيرٍ مِن أوْقاتِهِمْ ثُمَّ بِالخَمْرِ لِأنَّهُ إذا حَصَلَ الرِّيُّ والمَطْعُومُ تَشَوَّفَتِ النَّفْسُ إلى ما يُلْتَذُّ بِهِ ثُمَّ بِالعَسَلِ لِأنَّ فِيهِ الشِّفاءَ في الدُّنْيا مِمّا يُعْرَضُ مِنَ المَشْرُوبِ والمَطْعُومِ فَهو مُتَأخِّرٌ بِالرُّتْبَةِ، وجاءَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ لَبَنَ تِلْكَ الأنْهارِ لَمْ يُحْلَبْ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ وإنَّ خَمْرَها لَمْ تَدُسْها الرِّجالُ بِأرْجُلِها وإنَّ عَسَلَها لَمْ يَخْرُجْ مِن بُطُونِ النَّحْلِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعْدٍ قالَ: سَألْتُ أبا إسْحاقَ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ فَقالَ: سَألْتُ عَنْهُ الحارِثَ فَحَدَّثَنِي أنَّ ذَلِكَ الماءَ تَسْنِيمٌ وقالَ: بَلَغَنِي أنَّهُ لا تَمَسُّهُ يَدٌ وأنَّهُ يَجِيءُ الماءُ هَكَذا حَتّى يَدْخُلَ الفَمَ.
وفِي حَدِيثٍ أخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الكَلْبِيِّ أنَّ نَهْرَ دِجْلَةَ نَهْرُ الخَمْرِ في الجَنَّةِ وأنَّ عَلَيْهِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ونَهْرَ جَيْحُونَ نَهْرُ الماءِ فِيها ويُقالُ لَهُ نَهْرُ الرَّبِّ ونَهْرَ الفُراتِ نَهْرُ اللَّبَنِ وأنَّهُ لِذُرِّيَّةِ المُؤْمِنِينَ ونَهْرَ النِّيلِ نَهْرُ العَسَلِ.
وأخْرَجَ الحَرْثُ بْنُ أبِي أُسامَةَ في مَسْنَدِهِ والبَيْهَقِيُّ عَنْ كَعْبٍ قالَ: نَهْرُ النِّيلِ نَهْرُ العَسَلِ ونَهْرُ دِجْلَةَ نَهْرُ اللَّبَنِ ونَهْرُ الفُراتِ نَهْرُ الخَمْرِ ونَهْرُ سَيْحانَ نَهْرُ الماءِ في الجَنَّةِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ المَذْكُورَ في الآيَةِ لِكُلِّ أنْهارٍ بِالجَمْعِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الأخْبارِ ونَحْوِها، ثُمَّ إنَّها إنْ صَحَّتْ لا يَبْعُدُ تَأْوِيلُها وإنْ كانَتِ القُدْرَةُ الإلَهِيَّةُ (p-49)لا يَتَعاصاها شَيْءٌ ﴿ولَهم فِيها﴾ مَعَ ما ذُكِرَ مِن فُنُونِ الأنْهارِ ﴿مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ أيْ أنْواعٍ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فالجارُّ والمَجْرُورُ صِفَةُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ وقَدَّرَهُ بَعْضُهم زَوْجانِ وكَأنَّهُ انْتَزَعَهُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِيهِما مِن كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ﴾ وقِيلَ: ( مِن ) زائِدَةٌ أيْ ولَهم فِيها كُلُّ الثَّمَراتِ ﴿ومَغْفِرَةٌ﴾ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ السّابِقَةِ أيْ ولَهم مَغْفِرَةٌ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى المُبْتَدَأِ قَبْلُ بِدُونِ قَيْدٍ فِيها لِأنَّ المَغْفِرَةَ قَبْلَ دُخُولِ الجَنَّةِ أوْ بِالقَيْدِ والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ ونَعِيمُ مَغْفِرَةٍ أوْ جَعْلِ المَغْفِرَةِ عِبارَةً عَنْ أثَرِها وهو النَّعِيمُ أوْ مَجازًا عَنْ رِضْوانِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقَدْ يُقالُ: المُرادُ بِالمَغْفِرَةِ هُنا سَتْرُ ذُنُوبِهِمْ وعَدَمُ ذِكْرِها لَهم لِئَلّا يَسْتَحْيُوا فَتَتَنَغَّصَ لَذَّتُهم والمَغْفِرَةُ السّابِقَةُ سَتْرُ الذُّنُوبِ وعَدَمُ المُؤاخَذَةِ بِها وحِينَئِذٍ العَطْفُ عَلى المُبْتَدَأِ مِن غَيْرِ ارْتِكابِ شَيْءٍ مِمّا ذُكِرَ، وقَدْ رَأيْتُ نَحْوَ هَذا بَعْدَ كِتابَتِهِ لِلطَّبَرْسِيِّ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ ولَعَلَّهُ أوْلى مِمّا قالُوهُ، وتَنْوِينُ ( مَغْفِرَةٌ ) لِلتَّعْظِيمِ أيْ مَغْفِرَةٌ عَظِيمَةٌ لا يُقادَرُ قَدْرُها، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن رَبِّهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ لَها مُؤَكِّدَةٌ لِما أفادَهُ التَّنْكِيرُ مِنَ الفَخامَةِ الذّاتِيَّةِ بِالفَخامَةِ الإضافِيَّةِ أيْ كائِنَةً مِن رَبِّهِمْ، وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ﴾ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أمَّنَ هو خالِدٌ في هَذِهِ الجَنَّةِ حَسْبَما جَرى بِهِ الوَعْدُ كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ كَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والنّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ لِبَيانِ ما يَمْتازُ بِهِ مَن عَلى بَيِّنَةٍ في الآخِرَةِ تَقْرِيرًا لِإنْكارِ المُساواةِ وفِيهِ بُعْدٌ. وذَهَبَ جارُ اللَّهِ إلى أنَّهُ خَبْرُ ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ﴾ وأنَّ ذاكَ مُرَتَّبٌ عَلى الإنْكارِ السّابِقِ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أفَمَن كانَ﴾ إلَخْ، والمَعْنى أمَثَلُ الجَنَّةِ كَمَثَلِ جَزاءِ مَن هو خالِدٌ في النّارِ فالمُضافانِ مَحْذُوفانِ الجَزاءُ بِقَرِينَةِ مُقابَلَةِ الجَنَّةِ ولَفْظُ المَثَلِ بِقَرِينَةِ تَقَدُّمِهِ ومِثْلُهُ كَثِيرٌ، وفائِدَةُ التَّعْرِيَةِ عَنْ حَرْفِ الإنْكارِ أنَّ مَنِ اشْتُبِهَ عَلَيْهِ الأوَّلُ أعْنِي حالَ المُتَمَسِّكِ بِالبَيِّنَةِ وحالَ التّابِعِ لِهَواهُ فالثّانِي مِثْلُهُ عِنْدَهُ وإذْ ذاكَ لا يَسْتَحِقُّ الخِطابَ، ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ حَضْرَمِيِّ بْنِ عامِرٍ:
؎أفْرَحُ أنْ أرْزَأ الكِرامُ وأنْ ∗∗∗ أُورِثَ ذَوْدًا شَصائِصًا نُبْلًا
فَإنَّهُ كَلامٌ مُنْكَرٌ لِلْفَرَحِ بِرَزِيَّةِ الكِرامِ ووِراثَةِ الذَّوْدِ مَعَ تَعَرِّيهِ مِن حَرْفِ الإنْكارِ لِانْطِوائِهِ تَحْتَ حُكْمِ مَن قالَ لَهُ: أتَفْرَحُ بِمَوْتِ أخِيكَ وبِوِراثَةِ إبِلِهِ وذَلِكَ مِنَ التَّسْلِيمِ الَّذِي يَقِلُّ تَحْتَهُ كُلُّ إنْكارٍ، وجُعِلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِيها أنْهارٌ﴾ كالتَّكْرِيرِ لِلصِّلَةِ أيْ صِلَةً بَعْدَ صِلَةٍ يَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَها لِأنَّهُ كالتَّفْصِيلِ لِلْمَوْعُودِ، ولِهَذا لَمْ يَتَخَلَّلِ العاطِفَةَ بَيْنَهُما، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ عَلى أنَّ الظَّرْفَ في مَوْضِعِ ذَلِكَ ﴿وأنْهارٌ﴾ فاعِلُهُ لا عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ والظَّرْفُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ والجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ حالٌ لِعَدَمِ الواوِ فِيها، وقَدْ صَرَّحُوا بِأنَّ الِاكْتِفاءَ فِيها بِالضَّمِيرِ غَيْرُ فَصِيحٍ، واعْتِبارُها فِعْلِيَّةً بِتَقْدِيرِ مُتَعَلِّقِ الظَّرْفِ اسْتَقَرَّ لا يَخْفى حالُهُ، وقِيلَ: في الحالِ ضَعْفٌ مِن حَيْثُ المَعْنى لِمَجِيئِهِ مَجِيءَ الفَضَلاتِ وهي أُمُّ الإنْكارِ، وأيْضًا هو حالٌ مِنَ الجَنَّةِ لا مِن ضَمِيرِها في الصِّلَةِ وفي العامِلِ تَكَلُّفٌ، ثُمَّ الحالُ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ وجَعْلُها مُؤَكِّدَةً وقَدْ عُلِمَ كَوْنُها كَذَلِكَ مِن إخْبارِهِ تَعالى فِيهِ أيْضًا تَكَلُّفٌ، وأنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، قالَ في الكَشْفِ: وهو الوَجْهُ، والتَّقْدِيرُ هي فِيها أنْهارٌ وكَأنَّهُ قِيلَ: أنّى يَكُونُ صِفَةَ الجَنَّةِ وهي كَذا وكَذا كَصِفَةِ النّارِ الِاسْتِئْنافُ هاهُنا بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: وهي كَذا وكَذا اعْتِراضًا لِما في لَفْظِ المَثَلِ مِنَ الأشْعارِ بِالوَصْفِ العَجِيبِ، ولَيْسَ خَبَرُ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ وهو ﴿كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ﴾ (p-50)مَوْرِدَ السُّؤالِ لِيُعْتَرَضَ بِوُقُوعِ الِاسْتِئْنافِ قَبْلَ مُضِيِّهِ. وأوْرَدَ أنَّهُ لا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ المُبْتَدَأِ لِأنَّ ﴿فِيها أنْهارٌ﴾ جُمْلَةٌ بِرَأْسِها، والجَوابُ أنَّ التَّقْدِيرَ مِثْلُها فِيها أنْهارٌ فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ فَصارَ مَرْفُوعًا ثُمَّ حُذِفَ ولِهَذا قالَ في السُّؤالِ: كَأنَّ قائِلًا قالَ: وما مِثْلُها؟ ويَجْرِي ما قُرِّرَ في قِراءَةِ الأمِيرِ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ ومَن مَعَهُ أمْثالُ بِالجَمْعِ فَيُقالُ: التَّقْدِيرُ أمْثالُ الجَنَّةِ كَأمْثالِ جَزاءِ مَن هو خالِدٌ في النّارِ، ويُقَدَّرُ المُضافُ الأوَّلُ جَمْعًا لِلْمُطابَقَةِ، ولَعَمْرِي لَقَدْ أبْعَدَ جارُ اللَّهِ المَغْزى، وقَدِ اسْتَحْسَنَ ما ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ قالَ صاحِبُ الكَشْفِ بَعْدَ تَقْرِيرِ جَعْلِ ﴿كَمَن هو خالِدٌ﴾ خَبَرًا لِمِثَلِ الجَنَّةِ: هَذا هو الوَجْهُ اللّائِحُ المُناسِبُ المَساقِ.
وقالَ ابْنُ المُنِيرِ: في الِانْتِصافِ بَعْدَ نَقْلِهِ كَمْ ذَكَرَ النّاسُ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ فَلَمْ أرَ أطَلى ولا أحْلى مِن هَذِهِ النُّكَتِ الَّتِي ذَكَرَها لا يَعُوزُها إلّا التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ في الكَلامِ مَحْذُوفًا لِيَتَعادَلَ. والتَّقْدِيرُ مَثَلُ ساكِنِ الجَنَّةِ كَمَن هو خالِدٌ في النّارِ، ومِن هَذا النَّمَطِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحاجِّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ﴾ إلَخْ، وما قَدَّرْناهُ لِتَحْصِيلِ التَّعادُلِ أوْلى وإنْ كانَ فِيهِ كَثْرَةُ حَذْفٍ فَتَأمَّلْ ذاكَ واللَّهُ تَعالى يَتَوَلّى هُداكَ، والضَّمِيرُ المُفْرَدُ أعْنِي ( هو ) راجِعٌ إلى ( مَن ) بِاعْتِبارِ لَفْظِها كَما أنَّ ضَمِيرَ الجَمْعِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وسُقُوا ماءً حَمِيمًا﴾ راجِعٌ إلَيْها بِاعْتِبارِ مَعْناها، والمُرادُ وسُقُوا ماءً حارًّا مَكانَ تِلْكَ الأشْرِبَةِ وفِيهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ ﴿فَقَطَّعَ أمْعاءَهُمْ﴾ مِن فَرْطِ الحَرارَةِ.
رُوِيَ أنَّهُ إذا أُدْنِي مِنهم شَوى وُجُوهَهم وامْتازَتْ فَرْوَةُ رَؤُوسِهِمْ فَإذا شَرِبُوهُ قَطَّعَ أمْعاءَهُمْ، وهي جَمْعُ مِعًى بِالفَتْحِ والكَسْرِ ما يَنْتَقِلُ الطَّعامُ إلَيْهِ بَعْدَ المَعِدَةِ ويُقالُ لَهُ عَفاجٌ وهو مُذَكَّرٌ وقَدْ يُؤَنَّثُ
{"ayah":"مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِیهَاۤ أَنۡهَـٰرࣱ مِّن مَّاۤءٍ غَیۡرِ ءَاسِنࣲ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّن لَّبَنࣲ لَّمۡ یَتَغَیَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ خَمۡرࣲ لَّذَّةࣲ لِّلشَّـٰرِبِینَ وَأَنۡهَـٰرࣱ مِّنۡ عَسَلࣲ مُّصَفࣰّىۖ وَلَهُمۡ فِیهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَـٰلِدࣱ فِی ٱلنَّارِ وَسُقُوا۟ مَاۤءً حَمِیمࣰا فَقَطَّعَ أَمۡعَاۤءَهُمۡ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق