الباحث القرآني

﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى آخِرِهِ، وهو حِكايَةٌ لِبَعْضٍ آخَرَ مِن أقاوِيلِهِمُ الباطِلَةِ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ والمُؤْمِنِينَ بِهِ. وفِيهِ تَحْقِيقٌ لِاسْتِكْبارِهِمْ أيْ وقالَ كُفّارُ مَكَّةَ: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ لِأجْلِهِمْ وفي شَأْنِهِمْ فاللّامُ لِلتَّعْلِيلِ كَما سَمِعْتَ في ﴿قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ﴾ . وقِيلَ: هي لامُ المُشافَهَةِ والتَّبْلِيغِ والتَفَتُوا في قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْ كانَ﴾ أيْ ما جاءَ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ القُرْآنِ، وقِيلَ: الإيمانُ ﴿خَيْرًا ما سَبَقُونا إلَيْهِ﴾ ولَوْلاهُ لَقالُوا: سَبَقْتُمُونا بِالخِطابِ أوْ لِما سَمِعُوا أنَّ جَماعَةً آمَنُوا خاطَبُوا جَماعَةً أُخْرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أيْ قالُوا لِلَّذِينِ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقَنا إلَيْهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَلَغَنا إيمانُهم. وتُعِقِّبَ بِأنَّ هَذا لَيْسَ مِن مُواطِنِ الِالتِفاتِ، وكَوْنُهم قَصَدُوا تَحْقِيرَ المُؤْمِنِينَ بِالغِيبَةِ لا وجْهَ لَهُ، وكَوْنُ المُشافِهِينَ طائِفَةً مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُخْبَرِ عَنْهم طائِفَةً أُخْرى خِلافُ الظّاهِرِ، فالأوْلى كَوْنُها لِلتَّعْلِيلِ وقالُوا ذَلِكَ لِما رَأوْا أنَّ أكْثَرَ المُؤْمِنِينَ كانُوا فُقَراءَ ضُعَفاءَ كَعَمّارٍ وصُهَيْبٍ وبِلالٍ وكانُوا يَزْعُمُونَ أنَّ الخَيْرَ الدِّينِيَّ يَتْبَعُ الخَيْرَ الدُّنْيَوِيَّ وأنَّهُ لا يَتَأهَّلُ لِلْأوَّلِ إلّا مَن كانَ لَهُ القَدَحُ المُعَلّى مِنَ الثّانِي، ولِذا قالُوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ وخَطَؤُهم في ذَلِكَ مِمّا لا يَخْفى. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَوْنِ بْنِ أبِي شَدّادٍ قالَ: كانَتْ لِعُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أمَةٌ أسْلَمَتْ قَبْلَهُ يُقالُ لَها زَنِيرَةُ فَكانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَضْرِبُها عَلى إسْلامِها وكانَ كَفّارُ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ: لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقَتْنا إلَيْهِ زَنِيرَةُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى في شَأْنِها ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةَ، ولَعَلَّهم لَمْ يُرِيدُوا زَنِيرَةَ بِخُصُوصِها بَلْ مَن شابَهَها أيْضًا. وفِي الآيَةِ تَغْلِيبُ المُذَكَّرِ عَلى المُؤَنَّثِ، وقالَ أبُو المُتَوَكِّلِ: أسْلَمَ َبُو ذَرٍّ ثُمَّ أسْلَمَتْ غِفارُ فَقالَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ، وقالَ الكَلْبِيُّ والزَّجّاجُ: قالَ ذَلِكَ بَنُو عامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وغَطَفانُ وأسَدٌ وأشْجَعُ لَمّا أسْلَمَ أسْلَمُ وجُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ وغِفارُ وقالَ الثَّعْلَبِيُّ: هي مَقالَةُ اليَهُودِ حِينَ أسْلَمَ ابْنُ سَلامٍ، وأصْحابُهُ مِنهُمْ، ويَلْزَمُ عَلَيْهِ القَوْلُ بِأنَّ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وعَدَّها في المُسْتَثْنَياتِ أوْ كَوْنُ ( قالَ ) فِيها كَنادى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونادى أصْحابُ الأعْرافِ﴾ وهَذا كَما تَرى والمُعَوَّلُ عَلَيْهِ ما تَقَدَّمَ ﴿وإذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾ أيْ بِالقُرْآنِ، وقِيلَ: بِالرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، و( إذْ ) عَلى ما اخْتارَهُ جارُ اللَّهِ ظَرْفٌ لِمُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ السّابِقُ واللّاحِقُ أيْ وإذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ظَهَرَ عِنادُهم واسْتِكْبارُهُمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَسَيَقُولُونَ هَذا إفْكٌ قَدِيمٌ﴾ أيْ يَتَحَقَّقُ مِنهم هَذا القَوْلُ والطَّعْنُ حِينًا فَحِينًا كَما يُؤْذِنُ بِذَلِكَ صِيغَةُ المُضارِعِ مُسَبَّبٌ عَنِ العِنادِ والِاسْتِكْبارِ، وإذا جازَ مِثْلُ حِينَئِذٍ الآنَ أيْ كانَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ واسْمَعِ الآنَ بِدَلِيلِ قَرِينَةِ الحالِ فَهَذا أجْوَزُ، والإشارَةُ إلى القُرْآنِ العَظِيمِ، وقَوْلُهُمْ: ذَلِكَ فِيهِ كَقَوْلِهِمْ: ( أساطِيرُ الأوَّلِينَ ) ولَمْ يُجَوَّزْ أنْ يَكُونَ ( فَسَيَقُولُونَ ) عامِلًا في الظَّرْفِ لِتَدافُعِ دَلالَتَيِ المُضِيِّ والِاسْتِقْبالِ، وإنَّما لَمْ يَجْعَلْهُ مِن قَبِيلِ ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿إذِ الأغْلالُ﴾ نَظْمًا لِلْمُسْتَقْبَلِ في سِلْكِ المَقْطُوعِ كَما اخْتارَهُ ابْنُ الحاجِبِ في الأمالِي لِأنَّ المَعْنى هاهُنا- كَما في الكَشْفِ- عَلى أنَّ عَدَمَ الهِدايَةِ مُحَقَّقٌ واقِعٌ لا أنَّهُ سَيَقَعُ البَتَّةَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بَعْدَما بَيَّنَ اسْتِكْبارَهم وعِنادَهم كَيْفَ يَنُصُّ عَلى (p-15)أنَّهم مُجادِلُونَ مُعْرِضُونَ عَنِ القُرْآنِ وتَدَبُّرِهِ غَيْرَ مُهْتَدِينَ بِبَشائِرِهِ ونُذُرِهِ. وقالَ بَعْضُهُمُ: الظَّرْفُ مَعْمُولٌ- لِسَيَقُولُونَ- والفاءُ لا تَمْنَعُ عَنْ عَمَلِ ما بَعْدَها فِيما قَبْلَها كَما ذَكَرَهُ الرَّضِيُّ، والتَّسَبُّبُ المُشْعِرَةُ بِهِ عَنْ كُفْرِهِمْ، و(سَيَقُولُونَ) بِمَعْنى قالُوا، والعُدُولُ إلَيْهِ لِلْإشْعارِ بِالِاسْتِمْرارِ وتُعِقِّبَ بِأنَّ ذَلِكَ مَعَ السِّينِ بَعِيدٌ، وقِيلَ: إذْ تَعْلِيلِيَّةٌ لِلْقَوْلِ. وتُعِقِّبَ بِأنَّهُ مُعَلَّلٌ بِكُفْرِهِمْ كَما آذَنَتْ بِهِ الفاءُ، وقَدَّرَ بَعْضُهُمُ العامِلَ المَحْذُوفَ قالُوا ما قالُوا، ورَجَّحَهُ عَلى التَّقْدِيرِ السّابِقِ ولَيْسَ بِراجِحٍ عَلَيْهِ كَما لا يَخْفى عَلى راجِحٍ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب