الباحث القرآني

﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ﴾ أيْ ما يُوحى إلَيَّ مِنَ القُرْآنِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلرَّسُولِ، وفِيهِ أنَّ الظّاهِرَ لَوْ كانَ المَعْنى عَلَيْهِ كُنْتُ ﴿مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ لا سِحْرًا ولا مُفْتَرى كَما تَزْعُمُونَ ﴿وكَفَرْتُمْ بِهِ﴾ الواوُ لِلْحالِ والجُمْلَةُ حالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ عَلى المَشْهُورِ مِنَ الضَّمِيرِ في الخَبَرِ وُسِّطَتْ بَيْنَ أجْزاءِ الشَّرْقِ اهْتِمامًا بِالتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ أوْ لِلْعَطْفِ عَلى ( كانَ ) كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ وكَذا الواوُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ إلّا أنَّها تَعْطِفُهُ بِما عُطِفَ عَلَيْهِ عَلى جُمْلَةِ ما قَبْلَهُ، فالجُمَلُ المَذْكُوراتُ بَعْدَ الواواتِ لَيْسَتْ مُتَعاطِفَةً عَلى نَسَقٍ واحِدٍ بَلْ مَجْمُوعُ ( شَهِدَ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ ) مَعْطُوفٌ عَلى مَجْمُوعِ ( كانَ ) وما مَعَهُ، مِثْلُهُ في المُفْرَداتِ ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ﴾ والمَعْنى إنِ اجْتَمَعَ كَوْنُهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى مَعَ كُفْرِكم واجْتَمَعَ شَهادَةُ الشّاهِدِ فَإيمانُهُ مَعَ اسْتِكْبارِكم عَنِ الإيمانِ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى الكَلامُ في جَوابِ الشَّرْطِ وفي مَفْعُولَيْ ( أرَأيْتُمْ ) وضَمِيرُ (بِهِ) عائِدٌ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ اسْمُ كانَ وهو ما يُوحى مِنَ القُرْآنِ أوِ الرَّسُولِ، وعَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ لِلرَّسُولِ، ولَعَلَّهُ يَقُولُ في ضَمِيرِ ( كانَ ) أيْضًا كَذَلِكَ وكُنّا في ضَمِيرِ ﴿عَلى مِثْلِهِ﴾ لِئَلّا يَلْزَمَ التَّفْكِيكُ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الظّاهِرَ رُجُوعُ الضَّمائِرِ كُلِّها لِلْقُرْآنِ، وتَنْوِينُ ﴿شاهِدٌ﴾ لِلتَّفْخِيمِ، وكَذا وصْفُهُ بِالجارِّ والمَجْرُورِ أيْ وشَهِدَ شاهِدٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ الواقِفِينَ عَلى شُؤُونِ اللَّهِ تَعالى وأسْرارِ الوَحْيِ بِما أُوتُوا مِنَ التَّوْراةِ عَلى مِثْلِ القُرْآنِ مِنَ المَعانِي المُنْطَوِيَةِ في التَّوْراةِ مِنَ التَّوْحِيدِ والوَعْدِ والوَعِيدِ وغَيْرِ ذَلِكَ فَإنَّها في الحَقِيقَةِ عَيْنُ ما فِيهِ كَما يُعْرِبُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّهُ لَفي زُبُرِ الأوَّلِينَ﴾ عَلى وجْهٍ، وكَذا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ هَذا لَفي الصُّحُفِ الأُولى﴾ والمِثْلِيَّةُ بِاعْتِبارِ تَأْدِيَتِها بِعِباراتٍ أُخْرى أوْ عَلى مِثْلِ ما ذُكِرَ مِن كَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى والمِثْلِيَّةُ لِما ذُكِرَ، وقِيلَ: عَلى مِثْلِ شَهادَتِهِ أيْ لِنَفْسِهِ بِأنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى كَأنَّهُ لِإعْجازِهِ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ، وقِيلَ: مِثْلُ كِنايَةٍ عَنِ القُرْآنِ نَفْسِهِ لِلْمُبالَغَةِ، وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الضَّمِيرِ لِلرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَسَّرَ المِثْلَ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. (p-12)والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَآمَنَ﴾ أيْ بِالقُرْآنِ لِلسَّبَبِيَّةِ فَيَكُونُ إيمانُهُ مُتَرَتِّبًا عَلى شَهادَةٍ لَهُ بِمُطابَقَتِهِ لِلْوَحْيِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَفْصِيلِيَّةً فَيَكُونُ إيمانُهُ بِهِ هو الشَّهادَةَ لَهُ، والمَعْنى عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُرادَ فَآمَنَ بِالرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ظاهِرٌ بِأدْنى التِفاتٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واسْتَكْبَرْتُمْ﴾ أيْ عَنِ الإيمانِ مَعْطُوفٌ عَلى ما أشَرْنا إلَيْهِ عَلى ( شَهِدَ شاهِدٌ ) وجُوِّزَ كَوْنُهُ مَعْطُوفًا عَلى ( آمَنَ ) لِأنَّهُ قَسِيمُهُ ويُجْعَلُ الكُلُّ مَعْطُوفًا عَلى الشَّرْطِ، ولا تَكْرارَ في ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ لِأنَّ الِاسْتِكْبارَ بَعْدَ الشَّهادَةِ والكُفْرَ قَبْلَها، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ أيِ المَوْسُومِينَ بِهَذا الوَصْفِ، اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ في مَقامِ التَّعْلِيلِ لِلِاسْتِكْبارِ عَنِ الإيمانِ، ووَصْفُهم بِالظُّلْمِ لِلْإشْعارِ بِعِلَّةِ الحُكْمِ فَتُشْعِرُ هَذِهِ الجُمْلَةُ بِأنَّ كُفْرَهم بِهِ لِضَلالِهِمُ المُسَبَّبِ عَنْ ظُلْمِهِمْ وهو دَلِيلُ جَوابِ الشَّرْطِ ولِذا حُذِفَ ومَفْعُولا ( أرَأيْتُمْ ) مَحْذُوفانِ أيْضًا لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِما، والتَّقْدِيرُ أرَأيْتُمْ حالَكم إنْ كانَ كَذا فَقَدْ ظَلَمْتُمْ ألَسْتُمْ ظالِمِينَ، فالمَفْعُولُ الأوَّلُ حالُكم والثّانِي ألَسْتُمْ ظالِمِينَ، والجَوابُ فَقَدْ ظَلَمْتُمْ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: في ( أرَأيْتُمْ ) يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مُنَبِّهَةً فَهي لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلسُّؤالِ لا تَقْتَضِي مَفْعُولًا، ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ ﴿إنْ كانَ﴾ إلَخْ سادَةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْها، وهو خِلافُ ما قَرَّرَهُ مُحَقِّقُو النُّحاةِ في ذَلِكَ. وقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الجَوابَ ألَسْتُمْ ظالِمِينَ بِغَيْرِ فاءٍ. ورَدَّهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ الجُمْلَةَ الِاسْتِفْهامِيَّةَ إذا وقَعَتْ جَوابًا لِلشَّرْطِ لَزِمَها الفاءُ فَإنْ كانَتِ الأداةُ الهَمْزَةَ تُقَدَّمُ عَلى الفاءِ وإلّا تَأخَّرَتْ، ولَعَلَّهُ تَقْدِيرُ مَعْنًى لا تَقْدِيرُ إعْرابٍ، وقَدَّرَهُ بَعْضُهم أفَتُؤْمِنُونَ لِدَلالَةِ ﴿فَآمَنَ﴾ وقَدَّرَهُ الحَسَنُ فَمَن أضَلُّ مِنكم لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مِن أضَلُّ مِمَّنْ هو في شِقاقٍ بَعِيدٍ﴾ وقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ وقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَمَنِ المُحِقُّ مِنّا ومِنكم ومَنِ المُبْطِلُ؟ وقِيلَ: تَهْلَكُونَ، وقِيلَ: هو ﴿فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ﴾ أيْ فَقَدْ آمَنَ مُحَمَّدٌ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِهِ أوِ الشّاهِدُ واسْتَكْبَرْتُمْ أنْتُمْ عَنِ الإيمانِ، وأكْثَرُها كَما تَرى. والشّاهِدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ عِنْدَ الجُمْهُورِ وابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ وابْنِ سِيرِينَ والضَّحّاكِ وعِكْرِمَةَ في رِوايَةِ ابْنِ سَعْدٍ وابْنِ عَساكِرَ عَنْهُ. وفي الكَشْفِ في جَعْلِهِ شاهِدًا والسُّورَةَ مَكِّيَّةً بَحْثٌ ولِهَذا اسْتَثْنَيْتُ هَذِهِ الآيَةَ، وتَحْقِيقُهُ أنَّهُ نَزَلَ ما سَيَكُونُ مَنزِلَةَ الواقِعِ ولِهَذا عُطِفَ ( شَهِدَ ) وما بَعْدَهُ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ﴾ لِيُعْلَمَ أنَّهُ مِثْلُهُ في التَّحْقِيقِ فَيَكُونَ عَلى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿كَما أنْزَلْنا عَلى المُقْتَسِمِينَ﴾ أيْ أنْذَرَ قُرَيْشًا مِثْلَ ما أنْزَلْناهُ عَلى يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ وقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ مِن نُزُولِ الآيَةِ، ومَصَبُّ الإلْزامِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَآمَنَ﴾ كَأنَّهُ قِيلَ: أخْبِرُونِي إنْ يُؤْمِن بِهِ عالِمٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أيْ عالِمٌ لِما تَحَقَّقَ عِنْدَهُ أنَّهُ مِثْلُ التَّوْراةِ ألَسْتُمْ تَكُونُونَ أضَلَّ النّاسِ، فَفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّهُ مِثْلُ التَّوْراةِ يَجِبُ الإيمانُ بِهِ شَهِدَ ذَلِكَ الشّاهِدُ أوْ لَمْ يَشْهَدْ لِأنَّ تِلْكَ الشَّهادَةَ يَعْقُبُها الإيمانُ مِن غَيْرِ مُهْلَةٍ فَلَوْ لَمْ يُؤْمِن لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِما في التَّوْراةِ وهَذا يَصْلُحُ جَوابًا مُسْتَقِلًّا مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى الأوَّلِ فافْهَمْ، وقَوْلُ مَن قالَ: الشّاهِدُ عَبْدُ اللَّهِ عَلى هَذا بَيانٌ لِلْواقِعِ وأنَّهُ كانَ مِمَّنْ شَهِدَ وآمَنَ لا أنَّ المُرادَ بِلَفْظِ الآيَةِ عَبْدُ اللَّهِ خُصُوصًا، وعَلى الوَجْهَيْنِ لا بُدَّ مِن تَأْوِيلِ قَوْلِ سَعْدٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ في حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ وغَيْرِهِما وفِيهِ نَزَلَ ﴿وشَهِدَ شاهِدٌ﴾ بِأنَّ المُرادَ في شَأْنِهِ الَّذِي سَيَحْدُثُ عَلى الأوَّلِ أوْ فِيهِ وفِيمَن هو عَلى حالِهِ كَأنَّهُ قِيلَ: هو مِنَ النّازِلِينَ فِيهِ لِأنَّهُ كانَ مِنَ الشّاهِدِينَ انْتَهى. وتُعِقِّبَ قَوْلُهُ: إنَّهُ نَزَلَ ما سَيَكُونُ مَنزِلَةَ الواقِعِ بِأنَّهُ لا حاجَةَ إلى ذَلِكَ التَّنْزِيلِ عَلى تَقْدِيرِ مَكِّيَّتِها، وكَوْنِ (p-13)الشّاهِدِ ابْنَ سَلامٍ لِمَكانِ العَطْفِ عَلى الشَّرْطِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الماضِي مُسْتَقْبَلًا وحِينَئِذٍ لا ضَيْرَ في شَهادَةِ الشّاهِدِ بَعْدَ نُزُولِها، ومَعَ هَذا فالظّاهِرُ مِنَ الأخْبارِ أنَّ النُّزُولَ كانَ في المَدِينَةِ وأنَّهُ بَعْدَ شَهادَةِ ابْنِ سَلامٍ. أخْرَجَ أبُو يَعْلى والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ «عَنْ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ الأشْجَعِيِّ قالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأنا مَعَهُ حَتّى دَخَلْنا كَنِيسَةَ اليَهُودِ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَكَرِهُوا دُخُولَنا عَلَيْهِمْ فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أرُونِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنكم يَشْهَدُونَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يُحْبِطُ اللَّهُ تَعالى عَنْ كُلِّ يَهُودِيٍّ تَحْتَ أدِيمِ السَّماءِ الغَضَبَ الَّذِي عَلَيْهِ فَسَكَتُوا فَما أجابَهُ مِنهم أحَدٌ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَلَمْ يُجِبْهُ أحَدٌ فَثَلَّثَ فَلَمْ يُجِبْهُ أحَدٌ فَقالَ: أبَيْتُمْ فَواللَّهِ لَأنا الحاشِرُ وأنا العاقِبُ وأنا المُقَفّى آمَنتُمْ أوْ كَذَّبْتُمْ ثُمَّ انْصَرَفَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأنا مَعَهُ حَتّى كِدْنا أنْ نَخْرُجَ فَإذا رَجُلٌ مِن خَلْفِهِ فَقالَ: كَما أنْتَ يا مُحَمَّدُ فَأقْبَلَ فَقالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: أيُّ رَجُلٍ تَعْلَمُونِي فِيكم يا مَعْشَرَ اليَهُودِ؟ قالُوا: واللَّهِ ما نَعْلَمُ فِينا رَجُلًا أعْلَمَ بِكِتابِ اللَّهِ تَعالى ولا أفْقَهَ مِنكَ ولا مِن أبِيكَ ولا مِن جِدِّكِ قالَ: فَإنِّي أشْهَدُ بِاللَّهِ أنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي تَجِدُونَهُ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ فَقالُوا: كَذَبْتَ ثُمَّ رَدُّوا عَلَيْهِ وقالُوا شَرًّا فَقامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأنا وابْنُ سَلامٍ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ﴾ الآيَةَ».، ورُوِيَ حَدِيثُ شَهادَتِهِ وإيمانِهِ عَلى وجْهٍ آخَرَ، ولا يَظْهَرُ لِي الجَمْعُ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما ذُكِرَ، وهو أيْضًا ظاهِرٌ في كَوْنِ النُّزُولِ بَعْدَ الشَّهادَةِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: «جاءَ مَيْمُونُ بْنُ يامِينَ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وكانَ رَأْسَ اليَهُودِ بِالمَدِينَةِ فَأسْلَمَ وقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْ إلَيْهِمْ- يَعْنِي اليَهُودَ- فاجْعَلْ بَيْنَكَ وبَيْنَهم حَكَمًا مِن أنْفُسِهِمْ فَإنَّهم سَيَرْضُونِي فَبَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَيْهِمْ وأدْخَلَهُ الدّاخِلُ فَأتَوْهُ فَخاطَبُوهُ مَلِيًّا فَقالَ لَهُمُ: اخْتارُوا رَجُلًا مِن أنْفُسِكم يَكُونُ حَكَمًا بَيْنِي وبَيْنَكم قالُوا: فَإنّا قَدْ رَضِيَنا بِمَيْمُونِ بْنِ يامِينَ فَأخْرَجَهُ إلَيْهِمْ فَقالَ لَهم مَيْمُونُ: لَنَشْهَدُ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وأنَّهُ عَلى الحَقِّ فَأبَوْا أنْ يُصَدِّقُوهُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ﴾ الآيَةَ». وهُوَ ظاهِرٌ في مَدَنِيَّةِ الآيَةِ وأنَّ نُزُولَها قَبْلَ شَهادَةِ الشّاهِدِ لَكِنَّهُ ظاهِرٌ في أنَّ الشّاهِدَ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وكَوْنُهُ كانَ يُسَمّى بِذَلِكَ قَبْلُ لَمْ أرَهُ، ولا يَظْهَرُ لِي وجْهُ التَّعْبِيرِ بِهِ دُونَ المَشْهُودِ إنْ كانَ، والَّذِي رَأيْتُهُ في الِاسْتِيعابِ في تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّهُ ابْنُ سَلامِ بْنِ الحَرْثِ الإسْرائِيلِيِّ الأنْصارِيِّ يُكَنّى أبا يُوسُفَ وكانَ اسْمُهُ في الجاهِلِيَّةِ الحُصَيْنَ فَلَمّا أسْلَمَ سَمّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. ومِن كَذِبِ اليَهُودِ وجَهْلِهِمْ بِالتّارِيخِ ما يَعْتَقِدُونَهُ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ حِينَ سافَرَ إلى الشّامِ في تِجارَةٍ لِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها اجْتَمَعَ بِأحْبارِ اليَهُودِ وقَصَّ عَلَيْهِمْ أحْلامَهُ فَعَلِمُوا أنَّهُ صاحِبُ دَوْلَةٍ فَأصْحَبُوهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ وبَقِيَ مَعَهُ مُدَّةً فَتَعَلَّمَ مِنهُ عِلْمَ الشَّرائِعِ والأُمَمِ السّالِفَةِ وأفْرَطُوا في الكَذِبِ إلى أنْ نَسَبُوا القُرْآنَ المُعْجِزَ إلى تَأْلِيفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وعَبْدُ اللَّهِ هَذا مِمّا لَيْسَ لَهُ إقامَةٌ بِمَكَّةَ ولا تَرَدُّدٌ إلَيْها، ولَمْ يَرَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلّا في المَدِينَةِ وأسْلَمَ إذْ قَدِمَها عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أوْ قَبْلَ وفاتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِعامَيْنِ عَلى ما حَكاهُ في البَحْرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، فَما أكْذَبَ اليَهُودَ وأبْهَتَهم لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعالى، وناهِيكَ مِن طائِفَةٍ ما ذُمَّ في القُرْآنِ طائِفَةٌ مِثْلُها. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مَسْرُوقٍ أنَّ الشّاهِدَ هو مُوسى بْنُ عِمْرانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ كانَ يَدَّعِي مَكِّيَّةَ الآيَةِ ويُنْكِرُ نُزُولَها في ابْنِ سَلامٍ ويَقُولُ: إنَّما كانَتْ خُصُومَةً خاصَمَ بِها مُحَمَّدٌ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكَأنَّهُ عَلى هَذا لا يَحْتاجُ إلى القَوْلِ بِأنَّها نَزَلَتْ بِخُصُوصِ شاهِدٍ، وأُيِّدَ عَدَمُ إرادَةِ الخُصُوصِ بِأنَّ ﴿شاهِدٌ﴾ في الآيَةِ نَكِرَةٌ والنَّكِرَةُ في سِياقِ الشَّرْطِ تَعُمُّ، وأنا أقُولُ: بِكَوْنِ التَّنْوِينِ في (p-14)﴿شاهِدٌ﴾ لِلتَّعْظِيمِ وبِمَدَنِيَّةِ الآيَةِ ونُزُولِها في ابْنِ سَلامٍ، والخِطاباتُ فِيها مُطْلَقًا لِكُفّارِ مَكَّةَ، ورُبَّما يُظَنُّ عَلى بَعْضِ الرِّواياتِ أنَّها لِلْيَهُودِ ولَيْسَ كَذَلِكَ، وهُمُ المَعْنِيُّونَ أيْضًا بِالَّذِينِ كَفَرُوا في قَوْلِهِ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب