الباحث القرآني

(وإذا قِيلَ أنَّ) بِفَتْحِ اَلْهَمْزَةِ عَلى لُغَةِ سَلِيمٍ ﴿والسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها﴾ بِرَفْعِ (اَلسّاعَةِ) في قِراءَةِ اَلْجُمْهُورِ عَلى اَلْعَطْفِ عَلى مَحَلِّ إنَّ واسْمِها عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو عَلِيٍّ وتَبِعَهُ اَلزَّمَخْشَرِيُّ، ومَن زَعَمَ أنَّ لِاسْمِ إنَّ مَوْضِعًا جَوَّزَ اَلْعَطْفَ عَلَيْهِ هُنا، وزَعَمَ أبُو حَيّانَ أنَّ اَلصَّحِيحَ أنَّهُ لا يَجُوزُ كِلا اَلْوَجْهَيْنِ وعَلَيْهِ فَجُمْلَةُ ﴿السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها﴾ عَطْفٌ عَلى اَلْجُمْلَةِ اَلسّابِقَةِ، وقَرَأ حَمْزَةُ (والسّاعَةَ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى اِسْمِ إنَّ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ اَلْأعْمَشِ. وأبِي عَمْرٍو. وأبِي حَيْوَةَ. وعِيسى. والعَبْسِيِّ. والمُفَضَّلِ، وذِكْرُ أمْرِ اَلسّاعَةِ وإنَّها لا رَيْبَ في وُقُوعِها مَعَ أنَّها مِن جُمْلَةِ ما وعَدَ اَللَّهُ تَعالى اِعْتِناءً بِأمْرِ اَلْبَعْثِ اَلْمَقْصُودِ بِالمَقامِ ﴿قُلْتُمْ﴾ لِغايَةِ عُتُوِّكُمْ: ﴿ما نَدْرِي ما السّاعَةُ﴾ أيْ أيُّ شَيْءٍ هي اِسْتِغْرابًا لَها جِدًّا كَما يُؤْذِنُ بِهِ جَمْعُ (ما نَدْرِي) مَعَ اَلِاسْتِفْهامِ. ﴿إنْ نَظُنُّ إلا ظَنًّا﴾ اِسْتُشْكِلَ ذَلِكَ لِما أنَّهُ اِسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ وقَدْ قالُوا: لا يَجُوزُ تَفْرِيغُ اَلْعامِلِ إلى اَلْمَفْعُولِ اَلْمُطْلَقِ اَلْمُؤَكَّدِ فَلا يُقالُ: ما ضَرَبْتُ إلّا ضَرْبًا لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ ما ضَرَبْتُ إلّا ضَرَبْتُ، وقالَ اَلرَّضِيُّ: إنَّ اَلِاسْتِثْناءَ اَلْمُفَرَّغَ يَجِبُ أنْ يُسْتَثْنى مِن مُتَعَدِّدٍ مُقَدَّرٍ مُعْرَبٍ بِإعْرابِ اَلْمُسْتَثْنى مُسْتَغْرِقٍ لِذَلِكَ اَلْجِنْسِ حَتّى يَدْخُلَ فِيهِ اَلْمُسْتَثْنى بِيَقِينٍ ثُمَّ يَخْرُجُ بِالِاسْتِثْناءِ ولَيْسَ مَصْدَرُ نَظُنُّ مُحْتَمَلًا مَعَ اَلظَّنِّ غَيْرُهُ حَتّى يَخْرُجَ اَلظَّنُّ مِنهُ، وكَذا يُقالُ في ما ضَرَبْتُ إلّا ضَرْبًا ونَحْوِهِ وهَذا مُرادُ مَن قالَ: إنَّهُ مِن قَبِيلِ اِسْتِثْناءِ اَلشَّيْءِ مِن نَفْسِهِ. واخْتَلَفُوا في حَلِّهِ فَقِيلَ: إنَّ مَعْنى ما نَظُنُّ ما نَفْعَلُ اَلظَّنَّ كَما في نَحْوِ قِيمَ وقُعِدَ وحِينَئِذٍ يَصِحُّ اَلِاسْتِثْناءُ ويَتَغايَرُ مَوْرِدُ اَلنَّفْيِ والإيجابِ مِن حَيْثُ اَلتَّقْدِيرِ والتَّجَوُّزِ في اَلِاسْتِثْناءِ مِنَ اَلْعامِّ اَلْمُقَدَّرِ وجَعْلُ (نَظُنُّ) في مَعْنى نَفْعَلُ اَلْفِعْلَ لا نَفْعَلُ اَلظَّنَّ كَأنَّهُ قِيلَ: ما نَفْعَلُ فِعْلًا إلّا اَلظَّنَّ، وكَذا يُقالُ في أمْثالِهِ ومِنها قَوْلُ اَلْأعْشى: ؎وحَلَّ بِهِ اَلشَّيْبُ أثْقالَهُ وما اِغْتَرَّهُ اَلشَّيْبُ إلّا اِغْتِرارا (p-158)وارْتَضاهُ صاحِبُ اَلْكَشْفِ، وقِيلَ: ما نَظُنُّ بِتَأْوِيلِ ما نَعْتَقِدُ ويَكُونُ (ظَنًّا) مَفْعُولًا بِهِ أيْ ما نَعْتَقِدُ شَيْئًا إلّا ظَنًّا، وارْتَضاهُ أبُو حَيّانَ. وتُعُقِّبَ بِأنَّ ظاهِرَ حالِهِمْ أنَّهم مُتَرَدِّدُونَ لا مُعْتَقِدُونَ. وأُجِيبَ بِأنَّ اَلِاعْتِقادَ اَلْمَنفِيَّ لا يُنافِي ظاهِرَ حالِهِمْ بَلْ يُقَرِّرُها عَلى أتَمِّ وجْهٍ، وقِيلَ اَلْمُسْتَثْنى ظَنُّ أمْرِ اَلسّاعَةِ والمُسْتَثْنى مِنهُ مُطْلَقُ اَلظَّنِّ كَأنَّهُ قِيلَ لا ظَنَّ ولا تَرَدُّدَ لَنا إلّا ظَنُّ أمْرِ اَلسّاعَةِ والتَّرَدُّدُ فِيهِ فالكَلامُ لِنَفْيِ ظَنِّهِمْ فِيما سِوى ذَلِكَ مُبالَغَةً، وقالَ اَلرَّضِيُّ: إنَّ ما ضَرَبْتُ إلّا ضَرْبًا يَحْتَمِلُ اَلتَّعَدُّدَ مِن حَيْثُ تَوَهُّمِ اَلْمُخاطَبِ إذْ رُبَّما تَقُولُ ضَرَبْتُ وقَدْ فَعَلْتَ غَيْرَ اَلضَّرْبِ مِمّا يَجْرِي مَجْراهُ مِن مُقَدِّماتِهِ كالتَّهْدِيدِ فَتَدْفَعُ ذَلِكَ وتَقُولُ ضَرَبْتُ ضَرْبًا فَهو نَظِيرُ جاءَ زَيْدٌ زَيْدٌ فَلَمّا كانَ ضَرَبْتُ مُحْتَمِلًا لِلضَّرْبِ وغَيْرِهِ مِن حَيْثُ اَلتَّوَهُّمِ صارَ كالمُتَعَدِّدِ اَلشّامِلِ لِلضَّرْبِ وغَيْرِهِ، وحاصِلُهُ أنَّ اَلضَّرْبَ لَمّا احْتَمَلَ قَبْلَ اَلتَّأْكِيدِ والِاسْتِثْناءِ فِعْلًا آخَرَ حُمِلَ عَلى اَلْعُمُومِ بِقَرِينَةِ اَلِاسْتِثْناءِ فَيَكُونُ اَلْمَعْنى ما فَعَلْتُ شَيْئًا إلّا ضَرْبًا، وهَكَذا ﴿إنْ نَظُنُّ إلا ظَنًّا﴾ وهَذا كالمُتَّحِدِ مَعَ ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا، ورُدَّ بِأنَّ اَلِاسْتِثْناءَ يَقْتَضِي اَلشُّمُولَ اَلْمُحَقَّقَ ولا يَكْفِي فِيهِ اَلِاحْتِمالُ اَلْمُحَقَّقُ فَضْلًا عَنِ اَلْمُتَوَهَّمِ. وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّهُ إذا تَجَرَّدَ اَلْفِعْلُ لِمَعْنًى عامٍّ صارَ اَلشُّمُولُ مُحَقَّقًا عَلى أنَّ عَدَمَ كِفايَةِ اَلشُّمُولِ اَلْفَرْضِيِّ غَيْرُ مُسَلَّمٍ كَما يَعْرِفُهُ مَن يَتَتَبَّعُ مَوارِدَهُ، وذَهَبَ اِبْنُ يَعِيشَ. وأبُو اَلْبَقاءِ إلى أنَّهُ عَلى اَلْقَلْبِ والتَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ والأصْلُ إنْ نَحْنُ إلّا نَظُنُّ ظَنًّا وحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ اَلْمُبَرِّدِ، وقَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ ما حَكاهُ أبُو عَمْرِو بْنُ اَلْعَلاءِ وسِيبَوَيْهِ مِن قَوْلِ اَلْعَرَبِ: لَيْسَ اَلطِّيبُ إلّا اَلْمِسْكُ بِالرَّفْعِ فَقالَ: اَلْأصْلُ لَيْسَ إلّا اَلطِّيبَ اَلْمِسْكُ لِيَكُونَ اِسْمُ لَيْسَ ضَمِيرَ اَلشَّأْنِ وما بَعْدَ إلّا مُبْتَدَأً وخَبَرًا في مَوْضِعِ اَلْخَبَرِ لَها، ورَدَّهُ اَلرَّضِيُّ وقالَ: إنَّهُ تَكَلُّفٌ لِما فِيهِ مِنَ اَلتَّعْقِيدِ اَلْمُخِلِّ بِالفَصاحَةِ. والمِثالُ اَلْمَحْكِيُّ وارِدٌ عَلى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ فَإنَّهم عامَلُوا لَيْسَ مُعامَلَةَ ما فَأهْمَلُوها لِانْتِقاضِ اَلنَّفْيِ بِإلّا، وقِيلَ (ظَنًّا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ والمُسْتَثْنى مَحْذُوفٌ والتَّقْدِيرُ إنْ نَظُنُّ إلّا أنَّكم تَظُنُّونَ ظَنًّا. وحُكِيَ عَنِ اَلْمِبْرَدِ أيْضًا وفِيهِ حَذْفُ إنَّ واسْمِها وخَبَرِها وإبْقاءُ اَلْمَصْدَرِ وذَلِكَ لا يَجُوزُ، وفِيهِ أيْضًا مِنَ اَلتَّعْقِيدِ اَلْمُخِلِّ بِالفَصاحَةِ ما فِيهِ، ولا أظُنُّ صِحَّةَ حِكايَتِهِ عَنِ اَلْمُبَرِّدِ لِغايَةِ بُرُودَتِهِ، وجَوَّزَ صاحِبُ اَلتَّقْرِيبِ أنْ يَكُونَ اَلْمُرادُ إنْ نَظُنُّ إلّا ظَنًّا ضَعِيفًا فَهو مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ حُذِفَتْ صِفَتُهُ كَما صَرَّحَ بِهِ في اَلْبَحْرِ لا مُؤَكِّدٌ، وهَذا يُوافِقُ ما ذَكَرَهُ اَلْإمامُ اَلسَّكّاكِيُّ في بَحْثٍ أنَّ اَلتَّنْكِيرَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّحْقِيرِ. وتُعُقِّبَ بِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ يَأْباهُ فَإنَّ مُقابِلَ اَلِاسْتِيقانِ مُطْلَقُ اَلظَّنِّ لا اَلضَّعِيفُ مِنهُ، وقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ بِأنَّ هَذِهِ اَلْجُمْلَةَ كالتَّأْكِيدِ لِما قَبْلَها والمُرادُ بِها اِسْتِمْرارُ اَلنَّفْيِ وتَأْكِيدُهُ، قِيلَ: والمَعْنى وما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ إمْكانَ اَلسّاعَةِ أيْ لا نَتَيَقَّنُ إمْكانَها أصْلًا فَضْلًا عَنْ تَحَقُّقِ وُقُوعِها اَلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ والسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها﴾ فَقَوْلُهم ذَلِكَ رَدٌّ لِهَذا، ولَعَلَّ اَلْمُثْبِتِينَ لِأنْفُسِهِمُ اَلظَّنَّ مِن غَيْرِ إيقانٍ بِأمْرِ اَلسّاعَةِ غَيْرُ اَلْقائِلِينَ إنْ هي إلّا حَياتُنا اَلدُّنْيا فَإنَّ ذَلِكَ ظاهِرٌ في أنَّهم مُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ جازِمُونَ بِنَفْيِ اَلسّاعَةِ فَيَكُونُ اَلْكَفَرَةُ صِنْفَيْنِ صِنْفٌ جازِمُونَ بِنَفْيِها كَأئِمَّتِهِمْ وصِنْفٌ مُتَرَدِّدُونَ مُتَحَيِّرُونَ فِيها فَإذا سَمِعُوا ما يُؤْثَرُ عَنْ آبائِهِمْ أنْكَرُوها وإذا سَمِعُوا اَلْآياتِ اَلْمَتْلُوَّةَ تَقَهْقَرَ إنْكارُهم فَتَرَدَّدُوا. ويُحْتَمَلُ اِتِّحادُ قائِلِ ذاكَ وقائِلِ هَذا إلّا أنَّ كُلَّ قَوْلٍ في وقْتٍ وحالٍ فَهو مُضْطَرِبٌ مُخْتَلِفُ اَلْحالاتِ تارَةً يَجْزِمُ بِالنَّفْيِ فَيَقُولُ: إنْ هي إلّا حَياتُنا اَلدُّنْيا وأُخْرى يَظُنُّ فَيَقُولُ إنَّ نَظُنُّ إلّا ظَنًّا، وقِيلَ: اَلْجَزْمُ هُناكَ بِنَفْيِ وُقُوعِها والظَّنُّ مِن غَيْرِ إيقانٍ هُنا بِمُجَرَّدِ إمْكانِها فَهم مُتَرَدِّدُونَ بِإمْكانِها اَلذّاتِيِّ جازِمُونَ بِعَدَمِ وُقُوعِها بِالفِعْلِ فَتَأمَّلْ. (تَمَّ اَلْجُزْءُ اَلْخامِسُ والعِشْرُونَ ويَلِيهِ إنْ شاءَ اَللَّهُ تَعالى اَلْجُزْءُ اَلسّادِسُ والعِشْرُونَ وأوَّلُهُ (وبَدا لَهم ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب