الباحث القرآني

﴿وقالُوا﴾ بَيانٌ لِإحْكامِ إضْلالِهِمْ والخَتْمِ عَلى سَمْعِهِمْ وقُلُوبِهِمْ وجَعْلِ (p-153)غِشاوَةٍ عَلى أبْصارِهِمْ فالضَّمِيرُ لِمَن بِاعْتِبارِ مَعْناهُ أوْ لِلْكَفَرَةِ ﴿ما هِيَ﴾ أيْ ما اَلْحَياةُ ﴿إلا حَياتُنا الدُّنْيا﴾ اَلَّتِي نَحْنُ فِيها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اَلضَّمِيرُ لِلْحالِ والحَياةُ اَلدُّنْيا مِن جُمْلَةِ اَلْأحْوالِ فَيَكُونُ اَلْمُسْتَثْنى مِن جِنْسِ اَلْمُسْتَثْنى مِنهُ أيْضًا لِاسْتِثْناءِ حالِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا مِن أعَمِّ اَلْأحْوالِ ولا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ حالٍ مُضافًا بَعْدَ أداةِ اَلِاسْتِثْناءِ أيْ ما اَلْحالُ إلّا حالُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ﴿نَمُوتُ ونَحْيا﴾ حُكْمٌ عَلى اَلنَّوْعِ بِجُمْلَتِهِ مِن غَيْرِ اِعْتِبارِ تَقْدِيمٍ وتَأْخِيرٍ إلّا أنَّ تَأْخِيرَ نَحْيى في اَلنَّظْمِ اَلْجَلِيلِ لِلْفاصِلَةِ أيْ تَمُوتُ طائِفَةٌ وتَحْيا طائِفَةٌ ولا حَشْرَ أصْلًا، وقِيلَ: في اَلْكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ أيْ نَحْيا ونَمُوتُ ولَيْسَ بِذاكَ، وقِيلَ: أرادُوا بِالمَوْتِ عَدَمَ اَلْحَياةِ اَلسّابِقِ عَلى نَفْخِ اَلرُّوحِ فِيهِمْ أيْ نَكُونُ نُطَفًا وما قَبْلَها وما بَعْدَها ونَحْيا بَعْدَ ذَلِكَ، وقِيلَ: أرادُوا بِالحَياةِ بَقاءَ اَلنَّسْلِ والذُّرِّيَّةِ مَجازًا كَأنَّهم قالُوا: نَمُوتُ بِأنْفُسِنا ونَحْيا بِبَقاءِ أوْلادِنا وذَرّارِيِّنا، وقِيلَ: أرادُوا يَمُوتُ بَعْضُنا ويَحْيا بَعْضٌ عَلى أنَّ اَلتَّجَوُّزَ في اَلْإسْنادِ، وجُوِّزَ أنْ يُرِيدُوا بِالحَياةِ عَلى سَبِيلِ اَلْمَجازِ إعادَةَ اَلرُّوحِ لِبَدَنٍ آخَرَ بِطَرِيقِ اَلتَّناسُخِ وهو اِعْتِقادُ كَثِيرٍ مِن عَبَدَةِ اَلْأصْنامِ ولا يَخْفى بُعْدَ ذَلِكَ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اَللَّهُ تَعالى عَنْهُما (ونُحْيا) بِضَمِّ اَلنُّونِ ﴿وما يُهْلِكُنا إلا الدَّهْرُ﴾ أيْ طُولُ اَلزَّمانِ فالدَّهْرُ أخَصُّ مِنَ اَلزَّمانِ وهو اَلَّذِي اِرْتَضاهُ اَلسَّعْدُ، ولَهم في ذَلِكَ كَلامٌ طَوِيلٌ، وقالَ اَلرّاغِبُ: اَلدَّهْرُ في اَلْأصْلِ اِسْمٌ لِمُدَّةِ اَلْعالَمِ مِن مَبْدَأِ وُجُودِهِ إلى اِنْقِضائِهِ ثُمَّ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ كُلِّ مُدَّةٍ كَثِيرَةٍ، وهو خِلافُ اَلزَّمانِ فَإنَّهُ يَقَعُ عَلى اَلْمُدَّةِ اَلْقَلِيلَةِ والكَثِيرَةِ، ودَهْرُ فُلانٍ مُدَّةُ حَياتِهِ، ويُقالُ: دَهَرَ فُلانًا نائِبَةٌ دَهْرًا أيْ نَزَلَتْ بِهِ حَكاهُ اَلْخَلِيلُ فالدَّهْرُ هَهُنا مَصْدَرٌ. وذَكَرَ بَعْضُ اَلْأجِلَّةِ أنَّ اَلدَّهْرَ بِالمَعْنى اَلسّابِقِ مَنقُولٌ مِنَ اَلْمَصْدَرِ وأنَّهُ يُقالُ: دَهَرَهُ دَهْرًا أيْ غَلَبَهُ وإسْنادُهُمُ اَلْإهْلاكَ إلى اَلدَّهْرِ إنْكارٌ مِنهم لِمَلَكِ اَلْمَوْتِ وقَبْضِهِ اَلْأرْواحَ بِأمْرِ اَللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وكانُوا يُسْنِدُونَ اَلْحَوادِثَ مُطْلَقًا إلَيْهِ لِجَهْلِهِمْ أنَّها مُقَدَّرَةٌ مِن عِنْدِ اَللَّهِ تَعالى، وأشْعارُهم لِذَلِكَ مَمْلُوءَةٌ مِن شَكْوى اَلدَّهْرِ وهَؤُلاءِ مُعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ اَللَّهِ تَعالى فَهم غَيْرُ اَلدَّهْرِيَّةِ فَإنَّهم مَعَ إسْنادِهِمُ اَلْحَوادِثَ إلى اَلدَّهْرِ لا يَقُولُونَ بِوُجُودِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ والكُلُّ يَقُولُ بِاسْتِقْلالِ اَلدَّهْرِ بِالتَّأْثِيرِ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ اَلزَّمانُ عِنْدَهم مِقْدارُ حَرَكَةِ اَلْفَلَكِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ مُعْظَمُ اَلْفَلاسِفَةِ. وقَدْ جاءَ اَلنَّهْيُ عَنْ سَبِّ اَلدَّهْرِ. أخْرَجَ مُسْلِمٌ «(لا يَسُبُّ أحَدُكُمُ اَلدَّهْرَ فَإنَّ اَللَّهَ هو اَلدَّهْرُ)» وأبُو داوُدَ. والحاكِمُ وقالَ: صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ قالَ اَللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: «(يُؤْذِينِي اِبْنُ آدَمَ يَقُولُ يا خَيْبَةَ اَلدَّهْرِ فَلا يَقُلْ أحَدُكم يا خَيْبَةَ اَلدَّهْرِ أنا اَلدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ ونَهارَهُ)» والحاكِمُ وقالَ: صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ أيْضًا يَقُولُ اَللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: «(اِسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي وشَتَمَنِي عَبْدِي وهو لا يَدْرِي يَقُولُ وا دَهْراهُ وأنا اَلدَّهْرُ)» والبَيْهَقِيُّ «(لا تَسُبُّوا اَلدَّهْرَ قالَ اَللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: أنا اَلْأيّامُ واللَّيالِي أُجَدِّدُها وأبْلِيها وآتِي بِمُلُوكٍ بَعْدَ مُلُوكٍ)» ومَعْنى ذَلِكَ أنَّ اَللَّهَ تَعالى هو اَلْآتِي بِالحَوادِثِ فَإذا سَبَبْتُمُ اَلدَّهْرَ عَلى أنَّهُ فاعِلٌ وقَعَ اَلسَّبُّ عَلى اَللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وعَدَّ بَعْضُهم سَبَّهُ كَبِيرَةً لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى سَبِّهِ تَعالى وهو كُفْرٌ، وما أدّى إلَيْهِ فَأدْنى مَراتِبِهِ أنْ يَكُونَ كُفْرًا. (p-154)وكَلامُ اَلشّافِعِيَّةِ صَرِيحٌ بِأنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لا حَرامٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كَبِيرَةً، واَلَّذِي يَتَّجِهُ في ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وهو أنَّ مَن سَبَّهُ فَإنْ أرادَ بِهِ اَلزَّمَنَ فَلا كَلامَ في اَلْكَراهَةِ، أوِ اَللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَلا كَلامَ في اَلْكُفْرِ، ومِثْلُهُ إذا أرادَ اَلْمُؤَثِّرَ اَلْحَقِيقِيَّ فَإنَّهُ لَيْسَ إلّا اَللَّهُ سُبْحانَهُ؛ وإنْ أُطْلِقَ فَهَذا مَحَلُّ اَلتَّرَدُّدِ لِاحْتِمالِ اَلْكُفْرِ وغَيْرِهِ وظاهِرُ كَلامِهِمْ هُنا أيْضًا اَلْكَراهَةُ لِأنَّ اَلْمُتَبادِرَ مِنهُ اَلزَّمَنُ وإطْلاقُهُ عَلى اَللَّهِ تَعالى كَما قالَ بَعْضُ اَلْأجِلَّةِ إنَّما هو بِطْرِيقِ اَلتَّجَوُّزِ. ومِنَ اَلنّاسِ مَن قالَ: إنَّ سَبَّهُ كَبِيرَةٌ إنِ اِعْتُقِدَ أنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِيما نَزَلَ بِهِ كَما كانَ يَعْتَقِدُ جَهَلَةُ اَلْعَرَبِ، وفِيهِ نَظَرٌ لِأنَّ اِعْتِقادَ ذَلِكَ كُفْرٌ ولَيْسَ اَلْكَلامُ فِيهِ، وأنْكَرَ بَعْضُهم كَوْنَ ما في حَدِيثِ أبِي داوُدَ. والحاكِمِ «(فَإنِّي أنا اَلدَّهْرُ)» بِضَمِّ اَلرّاءِ وقالَ: لَوْ كانَ كَذَلِكَ كانَ اَلدَّهْرُ مِن أسْمائِهِ تَعالى وكانَ يَرْوِيهِ (فَإنِّي أنا اَلدَّهْرَ) بِفَتْحِ اَلرّاءِ ظَرْفًا لِأُقَلِّبُ أيْ فَإنِّي أنا أُقَلِّبُ اَللَّيْلَ والنَّهارَ اَلدَّهْرَ أيْ عَلى طُولِ اَلزَّمانِ ومَمَرِّهِ، وفِيهِ أنَّ رِوايَةَ مُسْلِمٍ فَإنَّ اَللَّهَ هو اَلدَّهْرُ تُبْطِلُ ما زَعَمَهُ، ومِن ثَمَّ كانَ اَلْجُمْهُورُ عَلى ضَمِّ اَلرّاءِ. ولا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ مِن أسْمائِهِ تَعالى لِما سَبَقَ أنَّ ذَلِكَ عَلى اَلتَّجَوُّزِ، وحَكى اَلرّاغِبُ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ اَلدَّهْرَ اَلثّانِيَ في حَدِيثِ مُسْلِمٍ غَيْرُ اَلْأوَّلِ وأنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى اَلْفاعِلِ، والمَعْنى أنَّ اَللَّهَ تَعالى هو اَلدَّهْرُ أيِ اَلْمُصَرِّفُ اَلْمُدَبِّرُ اَلْمُفِيضُ لِما يَحْدُثُ، وفِيهِ بَعْدٌ. وقَرَأ عَبْدُ اَللَّهِ (إلّا دَهْرٌ) وتَأْوِيلُهُ إلّا دَهْرٌ يَمُرُّ ﴿وما لَهم بِذَلِكَ﴾ أيْ بِما ذُكِرَ مِن قِصَرِ اَلْحَياةِ عَلى ما في اَلدُّنْيا ونِسْبَةِ اَلْإهْلاكِ إلى اَلدَّهْرِ ﴿مِن عِلْمٍ﴾ مُسْتَنِدٍ إلى عَقْلٍ أوْ نَقْلٍ ﴿إنْ هم إلا يَظُنُّونَ﴾ ما هم إلّا قَوْمٌ قُصارى أمْرِهِمُ اَلظَّنُّ والتَّقْلِيدُ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لَهم ما يَصِحُّ أنْ يُتَمَسَّكَ بِهِ في اَلْجُمْلَةِ، هَذا مُعْتَقَدُهُمُ اَلْفاسِدُ في أنْفُسِهِمْ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب