الباحث القرآني
﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ﴾ أيْ مُصِيبَةٍ كانَتْ مِن مَصائِبِ اَلدُّنْيا كالمَرَضِ وسائِرِ اَلنَّكَباتِ ﴿فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ﴾ أيْ فَبِسَبَبِ مَعاصِيكُمُ اَلَّتِي اِكْتَسَبْتُمُوها، وما اِسْمٌ مَوْصُولٌ مُبْتَدَأٌ والمُبْتَدَأُ إذا كانَ مَوْصُولًا صِلَتُهُ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ تَدْخُلُ عَلى خَبَرِهِ اَلْفاءُ كَثِيرًا لِما فِيهِ مِن مَعْنى اَلشَّرْطِ لِإشْعارِهِ بِابْتِناءِ اَلْخَبَرِ عَلَيْهِ فَلِذا جِيءَ بِالفاءِ هُنا.
وقَرَأ نافِعٌ. وابْنُ عامِرٍ. وأبُو جَعْفَرٍ في رِوايَةٍ. وشَيْبَةُ (بِما) بِغَيْرِ فاءٍ لِأنَّها لَيْسَتْ بِلازِمَةٍ وإيقاعُ اَلْمُبْتَدَأِ مَوْصُولًا يَكْفِي في اَلْإشْعارِ اَلْمَذْكُورِ، وحُكِيَ عَنِ اِبْنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: اِخْتِلافُ اَلْقِراءَتَيْنِ دَلَّ عَلى أنَّ ما مَوْصُولَةٌ فَجِيءَ تارَةً بِالفاءِ في خَبَرِها وأُخْرى لَمْ يُؤْتَ بِها حَطًّا لِلْمُشَبَّهِ عَنِ اَلْمُشَبَّهِ بِهِ، وجُوِّزَ كَوْنُ ما شَرْطِيَّةً واسْتَظْهَرَهُ أبُو حَيّانَ في اَلْقِراءَةِ بِالفاءِ وجَعَلَها مَوْصُولَةً في اَلْقِراءَةِ اَلْأُخْرى بِناءً عَلى أنَّ حَذْفَ اَلْفاءِ مِن جَوابِ اَلشَّرْطِ مَخْصُوصٌ بِالشِّعْرِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ نَحْوُ:
؎مَن يَفْعَلِ اَلْحَسَناتِ اَللَّهُ يَشْكُرُها
والأخْفَشُ وبَعْضُ نُحاةِ بَغْدادَ أجازُوا ذَلِكَ مُطْلَقًا، ومِنهُ (p-41)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ .
وقالَ أبُو اَلْبَقاءِ: حَذْفُ اَلْفاءِ مِنَ اَلْجَوابِ حَسَنٌ إذا كانَ اَلشَّرْطُ بِلَفْظِ اَلْماضِي ويُعْلَمُ مِنهُ مَزِيدُ حُسْنِ حَذْفِها هُنا عَلى جَعْلِ ما مَوْصُولَةً ﴿ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ أيْ مِنَ اَلذُّنُوبِ فَلا يُعاقِبُ عَلَيْها بِمُصِيبَةٍ عاجِلًا قِيلَ وآجِلًا.
وجُوِّزَ كَوْنُ اَلْمُرادِ بِالكَثِيرِ اَلْكَثِيرَ مِنَ اَلنّاسِ والظّاهِرُ اَلْأوَّلُ وهو اَلَّذِي تَشْهَدُ لَهُ اَلْأخْبارُ. رَوى اَلتِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي مُوسى أنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «(لا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَما فَوْقَها أوْ دُونَها إلّا بِذَنْبٍ وما يَعْفُو اَللَّهُ تَعالى عَنْهُ أكْثَرُ وقَرَأ ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ﴾ )» .
وأخْرَجَ اِبْنُ اَلْمُنْذِرِ. وجَماعَةٌ عَنِ اَلْحَسَنِ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ ﴿وما أصابَكُمْ﴾ إلَخْ، قالَ عَلَيْهِ اَلصَّلاةُ والسَّلامُ «واَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما مِن خَدْشِ عُودٍ ولا اِخْتِلاجِ عِرْقٍ ولا نَكْبَةِ حَجَرٍ ولا عَثْرَةِ قَدَمٍ إلّا بِذَنْبٍ وما يَعْفُو اَللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَنْهُ أكْثَرُ،» وأخْرَجَ اِبْنُ سَعْدٍ عَنْ أبِي مُلَيْكَةَ أنَّ أسْماءَ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ اَلصِّدِّيقِ رَضِيَ اَللَّهُ تَعالى عَنْهُما كانَتْ تَصْدُعُ فَتَضَعُ يَدَها عَلى رَأْسِها وتَقُولُ بِذَنْبِي وما يَغْفِرُهُ اَللَّهُ تَعالى أكْثَرُ، ورُؤِيَ عَلى كَفِّ شُرَيْحٍ قُرْحَةً فَقِيلَ: بِمَ هَذا؟ فَقالَ: بِما كَسَبَتْ يَدِي، وسُئِلَ عُمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنْ مَرَضِهِ فَقالَ: إنَّ أحَبَّهُ إلَيَّ أحَبُّهُ إلى اَللَّهِ تَعالى وهَذا بِما كَسَبَتْ يَدِي، والآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِأصْحابِ اَلذُّنُوبِ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وغَيْرِهِمْ فَإنَّ مَن لا ذَنْبَ لَهُ كالأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ اَلسَّلامُ قَدْ تُصِيبُهم مَصائِبُ، فَفي اَلْحَدِيثِ «(أشَدُّ اَلنّاسِ بَلاءً اَلْأنْبِياءُ ثُمَّ اَلْأمْثَلُ فالأمْثَلُ)» ويَكُونُ ذَلِكَ لِرَفْعِ دَرَجاتِهِمْ أوْ لِحِكَمٍ أُخْرى خَفِيَتْ عَلَيْنا، وأمّا اَلْأطْفالُ والمَجانِينُ فَقِيلَ غَيْرُ داخِلِينَ في اَلْخِطابِ لِأنَّهُ لِلْمُكَلَّفِينَ وبِفَرْضِ دُخُولِهِمْ أخْرَجَهُمُ اَلتَّخْصِيصُ بِأصْحابِ اَلذُّنُوبِ فَما يُصِيبُهم مِنَ اَلْمَصائِبِ فَهو لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ، وقِيلَ: في مَصائِبِ اَلطِّفْلِ رَفْعُ دَرَجَتِهِ ودَرَجَةِ أبَوَيْهِ أوْ مَن يُشْفِقُ عَلَيْهِ بِحُسْنِ اَلصَّبْرِ ثُمَّ إنَّ اَلْمَصائِبَ قَدْ تَكُونُ عُقُوبَةً عَلى اَلذَّنْبِ وجَزاءً عَلَيْهِ بِحَيْثُ لا يُعاقَبُ عَلَيْهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما رَواهُ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ. والحَكِيمُ اَلتِّرْمِذِيُّ. وجَماعَةٌ «عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اَللَّهُ تَعالى وجْهَهُ قالَ: ألا أُخْبِرُكم بِأفْضَلِ آيَةٍ في كِتابِ اَللَّهِ تَعالى حَدَّثَنا بِها رَسُولُ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ﴿وما أصابَكم مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكم ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ وسَأُفَسِّرُها لَكَ يا عَلِيُّ ما أصابَكَ مِن مَرَضٍ أوْ عُقُوبَةٍ أوْ بَلاءٍ في اَلدُّنْيا فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكم واَللَّهُ تَعالى أكْرَمُ مِن أنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمُ اَلْعُقُوبَةَ في اَلْآخِرَةِ وما عَفا اَللَّهُ تَعالى عَنْهُ في اَلدُّنْيا فاَللَّهُ سُبْحانَهُ أكْرَمُ مِن أنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ،» وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّها لا تَكُونُ جَزاءً لِأنَّ اَلدُّنْيا دارُ تَكْلِيفٍ فَلَوْ حَصَلَ اَلْجَزاءُ فِيها لَكانَتْ دارَ جَزاءٍ وتَكْلِيفٍ مَعًا وهو مُحالٌ فَما هي إلّا اِمْتِحاناتٌ، وخَبَرُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اَللَّهُ وجْهَهُ يَرُدُّهُ وكَذا ما صَحَّ مِن أنَّ اَلْحُدُودَ أيْ غَيْرَ حَدِّ قاطِعِ اَلطَّرِيقِ مُكَفِّراتٌ وأيُّ مُحالِيَةٍ في كَوْنِ اَلدُّنْيا دارَ تَكْلِيفٍ ويَقَعُ فِيها لِبَعْضِ اَلْأشْخاصِ ما يَكُونُ جَزاءً لَهُ عَلى ذَنْبِهِ أيْ مُكَفِّرًا لَهُ.
وعَنِ اَلْحَسَنِ تَفْسِيرُ اَلْمُصِيبَةِ بِالحَدِّ قالَ: اَلْمَعْنى ما أصابَكم مِن حَدٍّ مِن حُدُودِ اَللَّهِ تَعالى فَإنَّما هو بِكَسْبِ أيْدِيكم وارْتِكابِكم ما يُوجِبُهُ ويَعْفُو اَللَّهُ تَعالى عَنْ كَثِيرٍ فَيَسْتُرُهُ عَلى اَلْعَبْدِ حَتّى لا يُحَدَّ عَلَيْهِ، وهو مِمّا تَأْباهُ اَلْأخْبارُ ومَعَ هَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ ولَعَلَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ اَلْحُسْنِ.
وفِي اَلِانْتِصافِ أنَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ تُبْلِسُ عِنْدَها اَلْقَدَرِيَّةُ ولا يُمْكِنُهم تَرْوِيجُ حِيلَةٍ في صَرْفِها عَنْ مُقْتَضى نَصِّها فَإنَّها حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ عَلى اَلتّائِبِ وهو غَيْرُ مُمْكِنٍ لَهم هَهُنا فَإنَّهُ قَدْ أثْبَتَ اَلتَّبْعِيضَ (p-42)فِي اَلْعَفْوِ ومُحالٌ عِنْدَهم أنْ يَكُونَ اَلْعَفْوُ هُنا مُقَيَّدًا بِالتَّوْبَةِ فَإنَّهُ يَلْزَمُ تَبْعِيضًا أيْضًا وهي عِنْدُهم لا تَتَبَعَّضُ كَما نَقَلَ اَلْإمامُ عَنْ أبِي هاشِمٍ وهو رَأْسُ اَلِاعْتِزالِ واَلَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنهم فَلا مَحَلَّ لَها إلّا اَلْحَقُّ اَلَّذِي لا مِرْيَةَ فِيهِ وهو رَدُّ اَلْعَفْوِ إلى مَشِيئَةِ اَللَّهِ تَعالى غَيْرِ مَوْقُوفٍ عَلى اَلتَّوْبَةِ. وأُجِيبَ عَنْهم بِأنَّ لَهم أنْ يَقُولُوا: اَلْمُرادُ ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ فَلا يُعاقِبُ عَلَيْهِ في اَلدُّنْيا بَلْ يُؤَخِّرُ عُقُوبَتَهُ في اَلْآخِرَةِ لِمَن لَمْ يَتُبْ. وأنْتَ تَعْلَمُ ما دَلَّ خَبَرُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اَللَّهُ تَعالى وجْهَهُ.
{"ayah":"وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم مِّن مُّصِیبَةࣲ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق