الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ حُسْنِ أحْوالِ المُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ بَعْدَ بَيانِ سُوءِ حالِ الكَفَرَةِ فِيهِما أيْ قالُوهُ اعْتِرافًا بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعالى وإقْرارًا بِوَحْدانِيَّتِهِ كَما يُشْعِرُ بِهِ الحَصْرُ الَّذِي يُفِيدُهُ تَعْرِيفُ الطَّرَفَيْنِ كَما في صَدِيقِي زَيْدٌ ﴿ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾ ثُمَّ ثَبَتُوا عَلى الإقْرارِ ولَمْ يَرْجِعُوا إلى الشِّرْكِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ تَلا الآيَةَ وهي قَدْ نَزَلَتْ عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ثُمَّ قالَ: ما تَقُولُونَ فِيها ؟ قالُوا: لَمْ يُذْنِبُوا قالَ: قَدْ حَمَلْتُمُ الأمْرَ عَلى أشَدِّهِ قالُوا: فَما تَقُولُ ؟ قالَ: لَمْ يَرْجِعُوا إلى عِبادَةِ الأوْثانِ. وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ اسْتَقامُوا لِلَّهِ تَعالى بِطاعَتِهِ لَمْ يَرُوغُوا رَوَغانَ الثَّعالِبِ، وعَنْ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أخْلَصُوا العَمَلَ، وعَنِ الأمِيرِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ أدَّوُا الفَرائِضَ، وقالَ الثَّوْرِيُّ: عَمِلُوا عَلى وِفاقِ ما قالُوا، وقالَ الفُضَيْلُ: زَهِدُوا في الفانِيَةِ ورَغِبُوا في الباقِيَةِ، وقالَ الرَّبِيعُ: أعْرَضُوا عَمّا سِوى اللَّهِ تَعالى، وفي الكَشّافِ أيْ ثُمَّ ثَبَتُوا عَلى الإقْرارِ ومُقْتَضَياتِهِ وأرادَ أنَّ مَن قالَ: رَبِّيَ اللَّهُ تَعالى فَقَدِ اعْتَرَفَ أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ مالِكُهُ ومُدَبِّرُ أمْرِهِ ومُرَبِّيهِ وأنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلاهُ فالثَّباتُ عَلى مُقْتَضاهُ أنْ لا تَزِلَّ قَدَمُهُ عَنْ طَرِيقِ العُبُودِيَّةِ قَلْبًا وقالَبًا ولا يَتَخَطّاهُ وفِيهِ يَنْدَرِجُ كُلُّ العِباداتِ والِاعْتِقاداتِ ولِهَذا قالَ ﷺ لِمَن طَلَبَ أمْرًا يَعْتَصِمُ بِهِ: ««قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ تَعالى ثُمَّ اسْتَقِمْ»» وذَكَرَ أنَّ ما ورَدَ عَنِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم جُزْئِيّاتٌ لِهَذا المَعْنى ذُكِرَ كُلٌّ مِنها عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ ولا يَخْفى أنَّ كَلامَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَبْعُدُ كَوْنُ ما ذَكَرَهُ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، ولَعَلَّ ( ثُمَّ ) عَلى هَذا لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ فَإنَّ الِاسْتِقامَةَ عَلَيْهِ أعْظَمُ وأصْعَبُ مِنَ الإقْرارِ وكَذا يُقالُ عَلى أغْلَبِ التَّفاسِيرِ السّابِقَةِ وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ لِلتَّراخِي الزَّمانِيِّ لِأنَّها تَحْصُلُ بَعْدَ مُدَّةٍ مِن وقْتِ الإقْرارِ، وجُعِلَتْ (p-121)عَلى تَفْسِيرِ الِاسْتِقامَةِ بِأداءِ الفَرائِضِ أوْ بِالعَمَلِ لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ أيْضًا بِناءً عَلى أنَّ الإقْرارَ مَبْدَأُ الِاسْتِقامَةِ عَلى ذَلِكَ ومَنشَؤُها، وهَذا عَلى عَكْسِ التَّراخِي الرُّتْبِيِّ الَّذِي سَمِعْتُهُ أوَّلًا لِأنَّ المَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ أعْلى مَرْتَبَةً مِنَ المَعْطُوفِ إذْ هو العُمْدَةُ والأساسُ، وعَلى ما تَقَدَّمَ المَعْطُوفُ أعْلى مَرْتَبَةً مِنَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَما لا يَخْفى ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ﴾ مِنَ اللَّهِ رَبِّهِمْ عَزَّ وجَلَّ ﴿المَلائِكَةُ﴾ قالَ مُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ: عِنْدَ المَوْتِ، وقالَ مُقاتِلٌ: عِنْدَ البَعْثِ، وعَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عِنْدَ المَوْتِ وفي القَبْرِ وعِنْدَ البَعْثِ، وقِيلَ: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ يَمُدُّونَهم فِيما يَعِنُّ ويَطْرَأُ لَهم مِنَ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ بِما يَشْرَحُ صُدُورَهم ويَدْفَعُ عَنْهُمُ الخَوْفَ والحُزْنَ بِطَرِيقِ الإلْهامِ كَما أنَّ الكَفَرَةَ يُغْوِيهِمْ ما قُيِّضَ لَهم مِن قُرَناءِ السُّوءِ بِتَزْيِينِ القَبائِحِ، قِيلَ: وهَذا هو الأظْهَرُ لِما فِيهِ مِنَ الإطْلاقِ والعُمُومِ الشّامِلِ لِتَنَزُّلِهِمْ في المُواطِنِ الثَّلاثِ السّابِقَةِ وغَيْرِها، وقَدْ قَدَّمْنا لَكَ أنْ جَمِيعًا مِنَ النّاسِ يَقُولُونَ: بِتَنَزُّلِ المَلائِكَةِ عَلى المُتَّقِينَ في كَثِيرٍ مِنَ الأحايِينِ وأنَّهم يَأْخُذُونَ مِنهم ما يَأْخُذُونَ فَتَذَكَّرْ. ﴿ألا تَخافُوا﴾ ما تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ فَإنَّ الخَوْفَ غَمٌّ يَلْحَقُ لِتَوَقُّعِ المَكْرُوهِ ﴿ولا تَحْزَنُوا﴾ عَلى ما خَلَّفْتُمْ فَإنَّهُ غَمٌّ يَلْحَقُ لِوُقُوعِهِ مِن فَواتِ نافِعٍ أوْ حُصُولِ ضارٍّ ورُوِيَ هَذا عَنْ مُجاهِدٍ، وقالَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: لا تَخافُوا رَدَّ حَسَناتِكم فَإنَّها مَقْبُولَةٌ ولا تَحْزَنُوا عَلى ذُنُوبِكم فَإنَّها مَغْفُورَةٌ، وقِيلَ: المُرادُ نَهْيُهم عَنِ الغُمُومِ عَلى الإطْلاقِ. والمَعْنى أنَّ اللَّهَ تَعالى كَتَبَ لَكُمُ الأمْنَ مِن كُلِّ غَمٍّ فَلَنْ تَذُوقُوهُ أبَدًا و( أنْ ) إمّا مَصْدَرِيَّةٌ و( لا ) ناهِيَةٌ أوْ نافِيَةٌ وسُقُوطُ النُّونِ لِلنَّصْبِ والخَبَرُ في مَوْضِعِ الإنْشاءِ مُبالَغَةٌ، وإمّا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ و﴿تَتَنَزَّلُ﴾ مُضَمَّنٌ مَعْنى العِلْمِ ولا ناهِيَةٌ وأنْ في الوَجْهَيْنِ مُقَدَّرَةٌ بِالباءِ أيْ بِأنْ لا تَخافُوا أوْ بِأنَّهُ لا تَخافُوا والهاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وإمّا مُفَسِّرَةٌ و﴿تَتَنَزَّلُ﴾ مُضَمَّنٌ مَعْنى القَوْلِ ولا ناهِيَةٌ أيْضًا. وفِي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ «لا تَخافُوا» بِدُونِ ( أنْ ) أيْ يَقُولُونَ لا تَخافُوا عَلى أنَّهُ حالٌ مِنَ المَلائِكَةِ أوِ اسْتِئْنافٌ. ﴿وأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ أيِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَها في الدُّنْيا عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، هَذا مِن بِشاراتِهِمْ في أحَدِ المَواطِنِ الثَّلاثَةِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب