الباحث القرآني

﴿وأنْذِرْهم يَوْمَ الآزِفَةِ﴾ يَوْمَ القِيامَةِ كَما قالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ، ومَعْنى ( اَلْآزِفَةِ ) القَرِيبَةِ يُقالُ: أزِفَ الشُّخُوصُ إذا قَرُبَ وضاقَ وقْتُهُ، فَهي في الأصْلِ اسْمُ فاعِلٍ ثُمَّ نُقِلَتْ مِنهُ وجُعِلَتِ اسْمًا لِلْقِيامَةِ لِقُرْبِها بِالإضافَةِ لِما مَضى مِن مُدَّةِ الدُّنْيا أوْ لِما بَقِيَ فَإنَّ كُلَّ آتٍ قَرِيبٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ باقِيَةً عَلى الأصْلِ فَتَكُونَ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ أيِ السّاعَةُ الآزِفَةُ، وقَدَّرَ بَعْضُهُمُ المَوْصُوفَةَ الخُطَّةَ بِضَمِّ الخاءِ المُعْجَمَةِ وتَشْدِيدِ الطّاءِ المُهْمَلَةِ وهي القِصَّةُ والأمْرُ العَظِيمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أنْ يُخَطَّ ويُكْتُبَ لِغَرابَتِهِ، ويُرادُ بِذَلِكَ ما يَقَعُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ الأُمُورِ الصَّعْبَةِ وقُرْبُها لِأنَّ كُلَّ آتٍ قَرِيبٌ، والمُرادُ بِاليَوْمِ الوَقْتُ مُطْلَقًا أوْ هو يَوْمُ القِيامَةِ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: ﴿يَوْمَ الآزِفَةِ﴾ يَوْمُ المَنِيَّةِ وحُضُورِ الأجَلِ. ورَجَّحَ بِأنَّهُ أبْعَدُ عَنِ التَّكْرارِ وأنْسَبُ بِما بَعْدَهُ ووَصْفُ القُرْبِ مِنهُ أظْهَرُ ﴿إذِ القُلُوبُ لَدى الحَناجِرِ﴾ بَدَلٌ مِن ( يَوْمَ اَلْآزِفَةِ والحَناجِرِ ) جَمْعُ حَنْجَرَةٍ أوْ حُنْجُورٍ كَحُلْقُومٍ لَفْظًا ومَعْنى وهي كَما قالَ الرّاغِبُ: رَأسُ الغَلْصَمَةِ مِن خارِجٍ وهي لُحْمَةٌ بَيْنَ الرَّأْسِ والعُنُقِ، والكَلامُ كِنايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الخَوْفِ أوْ فَرْطِ التَّألُّمِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ عَلى حَقِيقَتِهِ وتَبْلُغُ قُلُوبُ الكُفّارِ حَناجِرَهم يَوْمَ القِيامَةِ ولا يَمُوتُونَ كَما لَوْ كانَ ذَلِكَ في الدُّنْيا. ﴿كاظِمِينَ﴾ حالٌ مِن أصْحابِ القُلُوبِ عَلى المَعْنى فَإنَّ ذِكْرَ القُلُوبِ يَدُلُّ عَلى ذِكْرِ أصْحابِها فَهو مِن بابِ ﴿ونَزَعْنا ما في صُدُورِهِمْ مِن غِلٍّ إخْوانًا﴾ [الحِجْرَ: 47] فَكَأنَّهُ قِيلَ: إذْ قُلُوبُهم لَدى الحَناجِرِ كاظِمِينَ عَلَيْها، وهو مِن كَظَمَ القِرْبَةَ إذا مَلَأها وسَدَّ فاها، فالمَعْنى مُمْسِكِينَ أنْفُسَهم عَلى قُلُوبِهِمْ لِئَلّا تَخْرُجَ مَعَ النَّفْسِ فَإنَّ كاظِمَ القِرْبَةِ كاظِمٌ عَلى الماءِ مُمْسَكُها عَلَيْهِ لِئَلّا يَخْرُجَ امْتِلاءً. وفِيهِ مُبالَغَةٌ عَظِيمَةٌ، وجُوِّزَ كَوْنُهُ حالًا مِن ضَمِيرِ ( اَلْقُلُوبُ ) المُسْتَتِرِ في الخَبَرِ أعْنِي ﴿لَدى الحَناجِرِ﴾ وعَلى رَأْيِ مَن يُجَوِّزُ مَجِيءَ الحالِ مِنَ المُبْتَدَأِ كَوْنُهُ حالًا مِن ( اَلْقُلُوبُ ) نَفْسِها. وجَمَعَ جَمْعَ العُقَلاءِ لِتَنْزِيلِها مَنزِلَتَهم لِوَصْفِها بِصِفَتِهِمْ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَظَلَّتْ أعْناقُهم لَها خاضِعِينَ﴾ [الشُّعَراءَ: 4] والمَعْنى حالَ كَوْنِ القُلُوبِ كاظِمَةً عَلى الغَمِّ والكَرْبِ، ومِنهُ يُعْلَمُ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿لَدى الحَناجِرِ﴾ ظَرْفَ ﴿كاظِمِينَ﴾ (p-59)لِفَسادِ المَعْنى والحاجَةِ إلى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ مَعَ الغِنى عَنْهُ، وكَذَلِكَ عَلى قِراءَةِ كاظِمُونَ لِلْأوَّلِ فَقَطْ فَيَتَعَيَّنُ كَوْنُ ﴿لَدى الحَناجِرِ﴾ خَبَرًا وكاظِمُونَ خَبَرًا آخَرَ وبِذَلِكَ يَتَرَجَّحُ كَوْنُ الحالِ مِنَ القُلُوبِ، وقَدَّرَ الكَواشِيُّ هم كاظِمُونَ لِيُوافِقَ وجْهَ الحالِيَّةِ مِنَ الأصْحابِ، وجُوِّزَ كَوْنُهُ حالًا مِن مَفْعُولِ ( أنْذِرْهم ) أيْ أنْذِرْهم مُقَدِّرًا كَظْمَهم أوْ مُشارِفِينَ الكَظْمَ. ﴿ما لِلظّالِمِينَ مِن حَمِيمٍ﴾ أيْ قَرِيبٍ مُشْفِقٍ مَنِ احْتَمَّ فُلانٌ لِفُلانٍ احْتَدَّ فَكَأنَّهُ الَّذِي يَحْتَدُّ حِمايَةً لِذَوِيهِ ويُقالُ لِخاصَّةِ الرَّجُلِ حامَّتُهُ ومِن هُنا فُسِّرَ الحَمِيمُ بِالصَّدِيقِ ﴿ولا شَفِيعٍ يُطاعُ﴾ أيْ ولا شَفِيعٌ يَشْفَعُ فالجُمْلَةُ في مَحَلِّ جَرٍّ أوْ رَفْعٍ صِفَةٌ ( شَفِيعٍ ) والمُرادُ نَفْيُ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ لا الصِّفَةُ فَقَطْ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ ثَمَّ شَفِيعًا لَكِنْ لا يُطاعُ فالكَلامُ مِن بابِ: لا تَرى الضَّبَّ بِها يَنْجَحِرُ ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى نَفْعِ الشَّفِيعِ بَلْ ضَمَّ إلَيْهِ ما ضَمَّ لِيُقامَ انْتِفاءُ المَوْصُوفِ مَقامَ الشّاهِدِ عَلى انْتِفاءِ الصِّفَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الضَّمُّ إزالَةً لِتَوَهُّمِ وُجُودِ المَوْصُوفِ حَيْثُ جَعَلَ انْتِفاؤُهُ أمْرًا مُسَلَّمًا مَشْهُورًا لا نِزاعَ فِيهِ لِأنَّ الدَّلِيلَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ أوْضَحَ مِنَ المَدْلُولِ، وهَذا كَما تَقُولُ لِمَن عاتَبَكَ عَلى القُعُودِ عَنِ الغَزْوِ ما لِي فَرَسٌ أرْكَبُهُ وما مَعِي سِلاحٌ أُحارِبُ بِهِ فَلْيُفَهْمْ، والضَّمائِرُ المَذْكُورَةُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْذِرْهُمْ﴾ إلى هُنا إنْ كانَتْ لِلْكُفّارِ كَما هو الظّاهِرُ فَوَضْعُ الظّالِمِينَ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ وتَعْلِيلِ الحُكْمِ، وإنْ كانَتْ عامَّةً لَهم ولِغَيْرِهِمْ فَلَيْسَ هَذا مِن بابِ وضْعِ الظّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ وإنَّما هو بَيانُ حُكْمٍ لِلظّالِمِينَ بِخُصُوصِهِمْ، والمُرادُ بِهِمُ الكامِلُونَ في الظُّلْمِ وهُمُ الكافِرُونَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لُقْمانَ: 13]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب