الباحث القرآني

وقَوْلُهُ جَلَّ وعَلا: ﴿فَقاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلا نَفْسَكَ﴾ يَشْهَدُ لَهُ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ قَرِينَةَ التَّخْصِيصِ بِهِما غَيْرُ ظاهِرَةٍ، والفاءُ في هَذِهِ الآيَةِ واقِعَةٌ في جَوابِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، يَنْساقُ إلَيْهِ النَّظْمُ الكَرِيمُ، أيْ: إذا كانَ الأمْرُ كَما حُكِيَ مِن عَدَمِ طاعَةِ المُنافِقِينَ وتَقْصِيرِ الآخَرِينَ في مُراعاةِ أحْكامِ الإسْلامِ فَقاتِلْ أنْتَ وحْدَكَ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِما فَعَلُوا. ونَقَلَ الطَّبَرْسِيُّ في اتِّصالِ الآيَةِ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّها مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يُقاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ والمَعْنى: فَإنْ أرَدْتَ الأجْرَ العَظِيمَ فَقاتِلْ، ونُقِلَ عَنِ الزَّجّاجِ. وثانِيهُما: أنَّها مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وما لَكم لا تُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والمَعْنى: إنْ لَمْ يُقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَقاتِلْ أنْتَ وحْدَكَ، وقِيلَ: هي مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقاتِلُوا أوْلِياءَ الشَّيْطانِ﴾ ومَعْنى ﴿لا تُكَلَّفُ إلا نَفْسَكَ﴾ لا تُكَلَّفُ إلّا فِعْلَها؛ إذْ لا تَكْلِيفَ بِالذَّواتِ، وهو اسْتِثْناءٌ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَهُ، فَإنَّ اخْتِصاصَ تَكْلِيفِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ مِن مُوجِباتِ مُباشَرَتِهِ ﷺ لِلْقِتالِ وحْدَهُ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنْ ما فَعَلُوهُ مِنَ التَّثْبِيطِ والتَّقاعُدِ لا يَضُرُّهُ ﷺ، ولا يُؤاخَذُ بِهِ. وذَهَبَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ إلى أنَّ الكَلامَ مَجازٌ أوْ كِنايَةٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلا يَرِدُ أنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَكْلِيفِ النّاسِ، فَكَيْفَ هَذا ولا حاجَةَ إلى ما قِيلَ، بَلْ في ثُبُوتِهِ فَقالَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -كانَ مَأْمُورًا بِأنْ يُقاتِلَ وحْدَهُ أوَّلًا، ولِهَذا قالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - في أهْلِ الرِّدَّةِ: أُقاتِلُهم وحْدِي، ولَوْ خالَفَتْنِي يَمِينِي لَقاتَلْتُها بِشِمالِي. وجَعَلَ أبُو البَقاءِ هَذِهِ الجُمْلَةَ في مَوْضِعِ الحالِ مِن فاعِلِ (قاتِلْ) أيْ: فَقاتِلْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ إلّا نَفْسَكَ، وقُرِئَ (لا تُكَلِّفْ) بِالجَزْمِ عَلى أنَّ (لا) ناهِيَةٌ، والفِعْلُ مَجْزُومٌ بِها، أيْ: لا تُكَلِّفْ أحَدًا الخُرُوجَ إلّا نَفْسَكَ، وقِيلَ: هو مَجْزُومٌ في جَوابِ الأمْرِ وهو بِعِيدٌ، (ولا نُكَلِّفُ) بِالنُّونِ عَلى بِناءِ الفاعِلِ، فَـ(نَفْسَكُ) مَفْعُولٌ ثانٍ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ، ولَيْسَ في مَوْقِعِ المَفْعُولِ الأوَّلِ، أيْ: لا نُكَلِّفُكَ إلّا فِعْلَ نَفْسِكَ، لا أنا لا نُكَلِّفُ أحَدًا إلّا نَفْسَكَ، وقِيلَ: لا مانِعَ مِن ذَلِكَ، عَلى مَعْنى: لا نُكَلِّفُ أحَدًا هَذا التَّكْلِيفَ إلّا نَفْسَكَ، والمُرادُ مِن هَذا التَّكْلِيفِ مُقاتَلَتُهُ وحْدَهُ. ﴿وحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ: حُثَّهم عَلى القِتالِ، ورَغِّبْهم فِيهِ، وعِظْهم (p-97)لِما أنَّهم آثِمُونَ بِالتَّخَلُّفِ لِفَرْضِهِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ هَذا بِسِنِينَ، وأصْلُ التَّحْرِيضِ إزالَةُ الحَرَضِ، وهو ما لا خَيْرَ فِيهِ ولا يُعْتَدُّ بِهِ، فالتَّفْعِيلُ لِلسَّلْبِ والإزالَةِ، كَقَذَيْتُهُ وجَلَدْتُهُ، ولَمْ يُذْكَرِ المُحَرَّضُ عَلَيْهِ لِغايَةِ ظُهُورِهِ. ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَكُفَّ بَأْسَ﴾ نِكايَةَ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ومِنهم قُرَيْشٌ، و(عَسى) مِنَ اللَّهِ تَعالى - كَما قالَ الحَسَنُ وغَيْرُهُ – تَحْقِيقٌ، وقَدْ فَعَلَ سُبْحانَهُ ما وعَدَ بِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - «واعَدَ ﷺ أبا سُفْيانَ بَعْدَ حَرْبِ أُحُدٍ مَوْسِمَ بَدْرٍ الصُّغْرى في ذِي القَعْدَةِ فَلَمّا بَلَغَ المِيعادُ، دَعا النّاسَ إلى الخُرُوجِ فَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، فَنَزَلَتْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَ جَماعَةٍ مِن أصْحابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - حَتّى أتى مَوْسِمَ بَدْرٍ، فَكَفاهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بَأْسَ العَدُوِّ، ولَمْ يُوافِقْهم أبُو سُفْيانَ، وألْقى اللَّهُ الرُّعْبَ في قَلْبِهِ، ولَمْ يَكُنْ قِتالٌ يَوْمَئِذٍ، وانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَن مَعَهُ سالِمِينَ». ﴿واللَّهُ أشَدُّ بَأْسًا﴾ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴿وأشَدُّ تَنْكِيلا﴾ أيْ: تَعْذِيبًا، وأصْلُهُ التَّعْذِيبُ بِالنِّكْلِ، وهو القَيْدُ، فَعُمِّمَ، والمَقْصُودُ مِنَ الجُمْلَةِ التَّهْدِيدُ والتَّشْجِيعُ، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ، وتَعْلِيلِ الحُكْمِ، وتَقْوِيَةِ اسْتِقْلالِ الجُمْلَةِ، وتَذْكِيرُ الخَبَرِ لِتَأْكِيدِ التَّشْدِيدِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ﴾ أيْ: حَظٌّ وافِرٌ ﴿مِنها﴾ أيْ: مِن ثَوابِها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، سِيقَتْ لِبَيانِ أنَّ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِما أُمِرَ بِهِ مِن تَحْرِيضِ المُؤْمِنِينَ حَظًّا مَوْفُورًا مِنَ الثَّوابِ، وبِهِ تَرْتَبِطُ الآيَةُ بِما قَبْلَها كَما قالَ القاضِي. وقالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى: إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا قالَ: ﴿لا تُكَلَّفُ إلا نَفْسَكَ﴾ مُشِيرًا بِهِ إلى أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - غَيْرُ مُؤاخَذٍ بِفِعْلِ غَيْرِهِ كانَ مَظِنَّةً لِتَوَهُّمِ أنَّهُ كَما لا يُؤاخَذُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ لا يَزِيدُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ أيْضًا، فَدُفِعَ ما عَسى أنْ يُتَوَهَّمَ بِذَلِكَ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ كَما لا يَخْفى، و(الشَّفاعَةُ) هي التَّوَسُّطُ بِالقَوْلِ في وصُولِ الشَّخْصِ ولَوْ كانَ أعْلى قَدْرًا مِنَ الشَّفِيعِ إلى مَنفَعَةٍ مِنَ المَنافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ أوِ الأُخْرَوِيَّةِ أوْ خَلاصُهُ عَنْ مَضَرَّةٍ ما كَذَلِكَ، مِنَ الشَّفْعِ، ضِدُّ الوِتْرِ، كَأنَّ المَشْفُوعَ لَهُ كانَ وِتْرًا فَجَعَلَهُ الشَّفِيعُ شَفْعًا، ومِنهُ الشَّفِيعُ في المُلْكِ؛ لِأنَّهُ يَضُمُّ مُلْكَ غَيْرِهِ إلى نَفْسِهِ أوْ يَضُمُّ نَفْسَهُ إلى مَن يَشْتَرِيهِ ويَطْلُبُهُ مِنهُ، و(الحَسَنَةُ) مِنها ما كانَتْ في أمْرٍ مَشْرُوعٍ رُوعِيَ بِها حَقُّ مُسْلِمٍ ابْتِغاءً لِوَجْهِ اللَّهِ تَعالى، ومِنها الدُّعاءُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإنَّهُ شَفاعَةُ مَعْنًى عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. رَوى مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ««مَن دَعا لِأخِيهِ المُسْلِمِ بِظَهْرِ الغَيْبِ اسْتُجِيبَ لَهُ، وقالَ المَلَكُ: ولَكَ مِثْلُ ذَلِكَ»» وفِيهِ بَيانٌ لِمِقْدارِ النَّصِيبِ المَوْعُودِ، ولا أرى حَسَنًا إطْلاقَ الشَّفاعَةِ عَلى الدُّعاءِ لِلنَّبِيِّ ﷺ بَلْ لا أكادُ أُسَوِّغُهُ، وإنْ كانَتْ فِيهِ مَنفَعَةٌ لَهُ ﷺ كَما أنَّ فِيهِ مَنفَعَةً لَنا عَلى الصَّحِيحِ. وتَفْسِيرُها بِالدُّعاءِ - كَما نُقِلَ عَنِ الجُبّائِيِّ – أوْ بِالصُّلْحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ - كَما رَوى الكَلْبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - لَعَلَّهُ مِن بابِ التَّمْثِيلِ لا التَّخْصِيصِ، وكَوْنُ التَّحْرِيضِ الَّذِي فَعَلَهُ ﷺ مِن بابِ الشَّفاعَةِ ظاهِرٌ، فَإنَّ المُؤْمِنِينَ تَخَلَّصُوا بِذَلِكَ مِن مَضَرَّةِ التَّثَبُّطِ وتَعْيِيرِ العَدُوِّ، واحْتِمالِ الذُّلِّ، وفازُوا بِالأجْرِ الجَزِيلِ المَخْبُوءِ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ، ورَبِحُوا أمْوالًا جَسِيمَةً بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا وافى بِجَيْشِهِ بَدْرًا ولَمْ يَرَ بِها أحَدًا مِنَ العَدُوِّ أقامَ ثَمانِيَ لَيالٍ، وكانَ مَعَهم تِجاراتٌ فَباعُوها وأصابُوا خَيْرًا كَثِيرًا. ومِنَ النّاسِ مَن فَسَّرَ الشَّفاعَةَ هُنا بَأنْ يَصِيرَ الإنْسانُ شَفْعَ صاحِبِهِ في طاعَةٍ أوْ مَعْصِيَةٍ، والحَسَنَةُ مِنها ما كانَ في طاعَةٍ، فالجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِلتَّرْغِيبِ في الجِهادِ والتَّرْهِيبِ عَنِ التَّخَلُّفِ والتَّقاعُدِ، وأمْرُ الِارْتِباطِ عَلَيْهِ ظاهِرٌ، ولا بَأْسَ بِهِ، غَيْرَ أنَّ الجُمْهُورَ عَلى خِلافِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب