الباحث القرآني
﴿فَلا ورَبِّكَ﴾ أيْ فَوَرَبِّكَ و(لا) مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَعْنى القَسَمِ لا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ في جَوابِهِ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ لِأنَّها تُزادُ في الإثْباتِ أيْضًا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾ وهَذا ما اخْتارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ ومُتابِعُوهُ في (لا) الَّتِي تُذْكَرُ قَبْلَ القَسَمِ.
وقِيلَ: إنَّها رَدٌّ لِمُقَدَّرٍ، أيْ لا يَكُونُ الأمْرُ كَما زَعَمْتُمْ، واخْتارَهُ الطَّبَرْسِيُّ، وقِيلَ: مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ في الجَوابِ، ولِتَأْكِيدِ القَسَمِ إنْ لَمْ يَكُنْ نَفِيٌ، وقالَ ابْنُ المُنِيرِ: الظّاهِرُ عِنْدِي أنَّها ها هُنا لِتَوْطِئَةِ النَّفْيِ المُقْسَمِ عَلَيْهِ، والزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَذْكُرْ مانِعًا مِن ذَلِكَ سِوى مَجِيئِها لِغَيْرِ هَذا المَعْنى في الإثْباتِ، وهو لا يَأْبى مَجِيئَها في النَّفْيِ عَلى الوَجْهِ الآخَرِ مِنَ التَّوْطِئَةِ، عَلى أنَّها لَمْ تَرِدْ في القُرْآنِ إلّا مَعَ صَرِيحِ فِعْلِ القَسَمِ، ومَعَ القَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى مِثْلُ: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ﴾، ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيامَةِ﴾، ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ قَصْدًا إلى تَأْكِيدِ القَسَمِ (p-71)وتَعْظِيمِ المُقْسَمِ بِهِ، إذْ لا يُقْسَمُ بِالشَّيْءِ إلّا إعْظامًا لَهُ، فَكَأنَّهُ بِدِخُولِها يَقُولُ: إنَّ إعْظامِي لِهَذِهِ الأشْياءِ بِالقَسَمِ بِها - كَلا إعْظامٍ - يَعْنِي أنَّها تَسْتَوْجِبُ مِنَ التَّعْظِيمِ فَوْقَ ذَلِكَ، وهو لا يُحْسَنُ في القَسَمِ بِاللَّهِ تَعالى، إذْ لا تَوَهُّمَ لِيُزاحَ، ولَمْ تُسْمَعْ زِيادَتُها مَعَ القَسَمِ بِاللَّهِ إلّا إذا كانَ الجَوابُ مَنفِيًّا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّها مَعَهُ زائِدَةٌ مُوطِئَةٌ لِلنَّفْيِ الواقِعِ في الجَوابِ، ولا تَكادُ تَجِدُها في غَيْرِ الكِتابِ العَزِيزِ داخِلَةً عَلى قَسَمٍ مُثْبَتٍ، وإنَّما كَثُرَ دُخُولُها عَلى القَسَمِ وجَوابُهُ نَفْيٌ كَقَوْلِهِ:
؎فَلا وأبِيكِ ابْنَةَ العامِرِيْ لا يَدَّعِي القَوْمُ أنِّي أفِرْ
وقَوْلِهِ:
؎ألا نادَتْ أُمامَةُ بِارْتِحالٍ ∗∗∗ لِتُحْزِنَنِي فَلا بِكِ ما أُبالِي
وقَوْلِهِ:
؎رَأى بَرْقًا فَأوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ ∗∗∗ فَلا بِكَ ما أسالَ ولا أغاما
إلى ما لا يُحْصى كَثْرَةً، ومِن هَذا يُعْلَمُ الفَرْقُ بَيْنَ المَقامَيْنِ، والجَوابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَهُما فَتَأمَّلْ ذَلِكَ، فَهو حَقِيقٌ بِالتَّأمُّلِ.
﴿حَتّى يُحَكِّمُوكَ﴾ أيْ يَجْعَلُوكَ حَكَمًا أوْ حاكِمًا، وقالَ شَيْخُ الإسْلامِ: يَتَحاكَمُوا إلَيْكَ ويَتَرافَعُوا، وإنَّما جِيءَ بِصِيغَةِ التَّحْكِيمِ مَعَ أنَّهُﷺحاكِمٌ بِأمْرِ اللَّهِ؛ إيذانًا بِأنَّ اللّائِقَ بِهِمْ أنْ يَجْعَلُوهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حَكَمًا فِيما بَيْنَهُمْ، ويَرْضُوا بِحُكْمِهِ وإنْ قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ كَوْنِهِ حاكِمًا عَلى الإطْلاقِ ﴿فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ أيْ: فِيما اخْتَلَفَ بَيْنَهم مِنَ الأُمُورِ واخْتَلَطَ، ومِنهُ الشَّجَرُ لِتَداخُلِ أغْصانِهِ، وقِيلَ لِلْمُنازَعَةِ تَشاجُرٌ؛ لِأنَّ المُتَنازِعِينَ تَخْتَلِفُ أقْوالُهم وتَتَعارَضُ دَعاوِيهِمْ، ويَخْتَلِطُ بَعْضُهم بِبَعْضٍ ﴿ثُمَّ لا يَجِدُوا﴾ عَطْفٌ عَلى مُقَدَّرٍ يَنْساقُ إلَيْهِ الكَلامُ، أيْ: فَتَحْكُمُ بَيْنَهم ثُمَّ لا يَجِدُوا ﴿فِي أنْفُسِهِمْ﴾ وقُلُوبِهِمْ ﴿حَرَجًا﴾ أيْ: شَكًّا كَما قالَهُ مُجاهِدٌ، أوْ ضِيقًا كَما قالَهُ الجُبّائِيُّ، أوْ إثْمًا كَما رُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ، واخْتارَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ تَفْسِيرَهُ بِضِيقِ الصَّدْرِ لِشائِبَةِ الكَراهَةِ والإباءِ لِما أنَّ بَعْضَ الكَفَرَةِ كانُوا يَسْتَيْقِنُونَ الآياتِ بِلا شَكٍّ ولَكِنْ يَجْحَدُونَ ظُلْمًا وعُتُوًّا فَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وما رُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ يُمْكِنُ إرْجاعُهُ إلى أيِّ الأمْرَيْنِ شِئْتَ، ونَفْيُ وِجْدانِ الحَرَجِ أبْلَغُ مِن نَفْيِ الحَرَجِ كَما لا يَخْفى، وهو مَفْعُولٌ بِهِ لِـ(يَجِدُوا) والظَّرْفُ قِيلَ: حالٌ مِنهُ أوْ مُتَعَلِّقٌ بِما عِنْدَهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِمّا قَضَيْتَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِـ(حَرَجًا) وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ تَعَلُّقَهُ بِهِ، و(ما) يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً ونَكِرَةً مَوْصُوفَةً ومَصْدَرِيَّةً، أيْ: مِنَ الَّذِي قَضَيْتَهُ، أيْ قَضَيْتَ بِهِ، أوْ مِن شَيْءٍ قَضَيْتَ، أوْ مِن قَضائِكَ.
﴿ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ أيْ يَنْقادُوا لِأمْرِكَ ويُذْعِنُوا لَهُ بِظاهِرِهِمْ وباطِنِهِمْ كَما يُشْعِرُ بِهِ التَّأْكِيدُ، ولَعَلَّ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ باقٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ولَيْسَ مَخْصُوصًا بِالَّذِينَ كانُوا في عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَإنَّ قَضاءَ شَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَضاؤُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصّادِقِ- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - قالَ: «لَوْ أنَّ قَوْمًا عَبَدُوا اللَّهَ تَعالى وأقامُوا الصَّلاةَ، وآتَوُا الزَّكاةَ، وصامُوا رَمَضانَ، وحَجُّوا البَيْتَ، ثُمَّ قالُوا لِشَيْءٍ صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ألا صَنَعَ خِلافَ ما صَنَعَ أوْ وجَدُوا في أنْفُسِهِمْ حَرَجًا لَكانُوا مُشْرِكِينَ» ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ.
وسَبَبُ نُزُولِها كَما قالَ الشَّعْبِيُّ ومُجاهِدٌ: ما مَرَّ مِن قِصَّةِ بِشْرٍ (p-72)واليَهُودِيِّ اللَّذَيْنِ قَضى بَيْنَهُما عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - بِما قَضى.
وأخْرَجَ الشَّيْخانِ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، والبَيْهَقِيُّ، مِن طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ أنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، «عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوّامِ، أنَّهُ خاصَمَ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في شِراجٍ مِنَ الحَرَّةِ كانَ يَسْقِيانِ بِهِ كِلاهُما النَّخْلَ، فَقالَ الأنْصارِيُّ: سَرِّحِ الماءَ يَمُرُّ، فَأبى عَلَيْهِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: اسْقِ يا زُبَيْرُ ثُمَّ أرْسِلِ الماءَ إلى جارِكَ، فَغَضِبَ الأنْصارِيَّ وقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أنْ كانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قالَ: اسْقِ يا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ الماءَ حَتّى يَرْجِعَ إلى الجَدْرِ، ثُمَّ أرْسِلِ الماءَ إلى جارِكَ»» واسْتَوْعى رَسُولُ اللَّهِﷺ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قَبْلَ ذَلِكَ أشارَ عَلى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أرادَ فِيهِ السَّعَةَ لَهُ ولِلْأنْصارِيِّ، فَلَمّا أحْفَظَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - الأنْصارِيُّ اسْتَوْعى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ في صَرِيحِ الحُكْمِ، فَقالَ الزُّبَيْرُ: ما أحْسَبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ إلّا في ذَلِكَ ﴿فَلا ورَبِّكَ﴾ إلَخْ.
{"ayah":"فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجࣰا مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق