الباحث القرآني
﴿ألَمْ تَرَ﴾ خِطابٌ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وتَعْجِيبٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أيْ: ألَمْ تَنْظُرْ أوْ ألَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ ﴿إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾ مِنَ الزَّعْمِ وهو كَما في القامُوسِ مُثَلَّثُ القَوْلِ: الحَقُّ والباطِلُ والكَذِبُ ضِدٌّ، وأكْثَرُ ما يُقالُ فِيما يُشَكُّ فِيهِ، ومِن هُنا قِيلَ: إنَّهُ قَوْلٌ بِلا دَلِيلٍ، وقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ بِمَعْنى القَوْلِ الحَقِّ، وفي الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ««زَعَمَ جِبْرِيلُ»» وفي حَدِيثِ ضِمامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: «زَعَمَ رَسُولُكَ» وقَدْ أكْثَرَ سِيبَوَيْهِ في الكِتابِ مِن قَوْلِهِ: زَعَمَ الخَلِيلُ كَذا في أشْياءَ يَرْتَضِيها، وفي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: أنَّ زَعَمَ في كُلِّ هَذا بِمَعْنى القَوْلِ، والمُرادُ بِهِ هُنا مُجَرَّدُ الِادِّعاءِ، أيْ يَدَّعُونَ ﴿أنَّهم آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ أيِ: القُرْآنِ:
﴿وما أُنْزِلَ﴾ إلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿مِن قَبْلِكَ﴾ وهو التَّوْراةُ، ووُصِفُوا بِهَذا الِادِّعاءِ لِتَأْكِيدِ التَّعْجِيبِ، وتَشْدِيدِ التَّوْبِيخِ والِاسْتِقْباحِ، وقُرِئَ: (أنْزَلَ) و(أنْزَلَ) بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ ﴿يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ﴾ بَيانٌ لِمَحَلِّ التَّعْجِيبِ عَلى قِياسِ نَظائِرِهِ.
أخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، مِن طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - ««أنَّ رَجُلًا مِنَ المُنافِقِينَ - يُقالُ لَهُ بِشْرٌ - خاصَمَ يَهُودِيًّا، فَدَعاهُ اليَهُودُ إلى النَّبِيِّﷺ ودَعاهُ المُنافِقُ إلى كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، ثُمَّ إنَّهُما احْتَكَما إلى النَّبِيِّﷺ فَقَضى لِلْيَهُودِيِّ، فَلَمْ يَرْضَ المُنافِقُ، وقالَ: تَعالَ نَتَحاكَمْ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، فَقالَ اليَهُودِيُّ لَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: قَضى لَنا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَلَمْ يَرْضَ بِقَضائِهِ، فَقالَ لِلْمُنافِقِ: أكَذَلِكَ؟ قالَ: نَعَمْ، فَقالَ عُمَرُ: مَكانَكُما حَتّى أخْرُجَ إلَيْكُما، فَدَخَلَ عُمَرُ فاشْتَمَلَ عَلى سَيْفِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَضَرَبَ عُنُقَ المُنافِقِ حَتّى بَرَدَ، ثُمَّ قالَ: هَكَذا أقْضِي لِمَن لَمْ يَرْضَ بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِﷺ –فَنَزَلَتْ».
وفِي بَعْضِ الرِّواياتِ: وقالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: إنَّ عُمَرَ فَرَقَّ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وسَمّاهُ النَّبِيُّ، ﷺ الفارُوقَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ».
والطّاغُوتُ عَلى هَذا كَعْبُ (p-68)بْنُ الأشْرَفِ، وإطْلاقُهُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً بِناءً عَلى أنَّهُ بِمَعْنى كَثِيرِ الطُّغْيانِ، أوْ أنَّهُ عَلَمٌ لُقِّبَ لَهُ كالفارُوقِ لَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ولَعَلَّهُ في مُقابَلَةِ الطّاغُوتِ، وفي مَعْناهُ كُلُّ مَن يَحْكُمُ بِالباطِلِ ويُؤْثِرُ لِأجْلِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الطّاغُوتُ بِمَعْنى الشَّيْطانِ، وإطْلاقُهُ عَلى الأخَسِّ بْنِ الأشْرَفِ إمّا اسْتِعارَةٌ أوْ حَقِيقَةٌ، والتَّجَوُّزُ في إسْنادِ التَّحاكُمِ إلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ الإيقاعِيَّةِ بَيْنَ الفِعْلِ ومَفْعُولِهِ بِالواسِطَةِ.
وقِيلَ: إنَّ التَّحاكُمَ إلَيْهِ تَحاكُمٌ إلى الشَّيْطانِ مِن حَيْثُ إنَّهُ الحامِلُ عَلَيْهِ، فَنَقْلُهُ عَنِ الشَّيْطانِ إلَيْهِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ المُرْسَلِ.
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا قالَ: كانَ أبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِيُّ كاهِنًا يَقْضِي بَيْنَ اليَهُودِ فِيما يَتَنافَرُونَ فِيهِ، فَتَنافَرَ إلَيْهِ ناسٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمُ الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: كانَ أُناسٌ مَن يَهُودِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ قَدْ أسْلَمُوا، ونافَقَ بَعْضُهُمْ، وكانَتْ بَيْنَهم خُصُومَةٌ في قَتِيلٍ، فَأبى المُنافِقُونَ مِنهم إلّا التَّحاكُمَ إلى أبِي بَرْزَةَ، فانْطَلَقُوا إلَيْهِ، فَسَألُوهُ فَقالَ: أعْظِمُوا اللُّقْمَةَ، فَقالُوا: لَكَ عَشَرَةُ أوْساقٍ، فَقالَ: لا، بَلْ مِائَةُ وسْقٍ، فَأبَوْا أنْ يُعْطُوهُ فَوْقَ العَشَرَةِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ ما تَسْمَعُونَ.
وعَلى هَذا فَفي الآيَةِ مِنَ الإشارَةِ إلى تَفْظِيعِ التَّحاكُمِ نَفْسِهِ ما لا يَخْفى، وهو أيْضًا أنْسَبُ بِوَصْفِ المُنافِقِينَ بِادِّعاءِ الإيمانِ بِالتَّوْراةِ، ويُمْكِنُ حَمْلُ خَبَرِ الطَّبَرانِيِّ عَلَيْهِ بِحَمْلِ المُسْلِمِينَ فِيهِ عَلى المُنافِقِينَ مِمَّنْ أسْلَمَ مِن قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ.
﴿وقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ (يُرِيدُونَ) وفِيهِ تَأْكِيدٌ لِلتَّعْجِيبِ كالوَصْفِ السّابِقِ، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ راجِعٌ إلى الطّاغُوتِ، وهو ظاهِرٌ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُرادَ مِنهُ الشَّيْطانُ، وإلّا فَهو عائِدٌ إلَيْهِ بِاعْتِبارِ الوَصْفِ لا الذّاتِ، أيْ: أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِمَن هو كَثِيرُ الطُّغْيانِ أوْ شَبِيهٌ بِالشَّيْطانِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلتَّحاكُمِ المَفْهُومِ مِن (يَتَحاكَمُوا) وفِيهِ بُعْدٌ.
وقَرَأ عَبّاسُ بْنُ المُفَضَّلِ (بِها)، وقُرِئَ (بِهِنَّ)، والضَّمِيرُ أيْضًا لِلطّاغُوتِ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ لِلْواحِدِ والجَمْعِ، وإذا أُرِيدَ الثّانِي أُنِّثَ بِاعْتِبارِ مَعْنى الجَماعَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ.
﴿ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُضِلَّهم ضَلالا بَعِيدًا﴾ عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ، داخِلَةٌ في حُكْمِ التَّعْجِيبِ، وفِيها عَلى بَعْضِ الِاحْتِمالاتِ وضْعُ المُظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ عَلى مَعْنى (يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الشَّيْطانِ) وهو بِصَدَدِ إرادَةِ إضْلالِهِمْ، ولا يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلَيْكَ وأنْتَ بِصَدَدِ إرادَةِ هِدايَتِهِمْ و(ضَلالًا) إمّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ المَذْكُورِ بِحَذْفِ الزَّوائِدِ عَلى حَدِّ ما قِيلَ في ﴿أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ وإمّا مُؤَكِّدٌ لِفِعْلِهِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالمَذْكُورِ، أيْ (فَيَضِلُّونَ ضَلالًا) ووَصْفُهُ بِالبُعْدِ الَّذِي هو نَعْتُ مَوْصُوفِهِ لِلْمُبالَغَةِ.
{"ayah":"أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ یَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُوا۟ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ یُرِیدُونَ أَن یَتَحَاكَمُوۤا۟ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوۤا۟ أَن یَكۡفُرُوا۟ بِهِۦۖ وَیُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُضِلَّهُمۡ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق