الباحث القرآني

﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنِفٌ مُقَرِّرٌ لِما قَبْلَهُ مِنَ الوَعِيدِ، ومُؤَكِّدٌ وُجُوبَ امْتِثالِ الأمْرِ بِالإيمانِ، حَيْثُ إنَّهُ لا مَغْفِرَةَ بِدُونِهِ كَما زَعَمَ اليَهُودُ، وأشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذا الأدْنى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا﴾ وفِيهِ أيْضًا إزالَةُ خَوْفِهِمْ مِن سُوءِ الكَبائِرِ السّابِقَةِ إذا آمَنُوا. والشِّرْكُ يَكُونُ بِمَعْنى اعْتِقادِ أنَّ لِلَّهِ تَعالى شَأْنُهُ شَرِيكًا، إمّا في الأُلُوهِيَّةِ أوْ في الرُّبُوبِيَّةِ، وبِمَعْنى الكُفْرِ مُطْلَقًا، وهو المُرادُ هُنا، كَما أشارَ إلَيْهِ ابْنُ عَبّاسٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُفْرُ اليَهُودِ دُخُولًا أوَّلِيًّا، فَإنَّ الشَّرْعَ قَدْ نَصَّ عَلى إشْراكِ أهْلِ الكِتابِ قاطِبَةً، وقَضى بِخُلُودِ أصْنافِ الكَفَرَةِ كَيْفَ كانُوا، ونُزُولُ الآيَةِ في حَقِّ اليَهُودِ عَلى ما رُوِيَ عَنْ مُقاتِلٍ لا يَقْتَضِي الِاخْتِصاصَ بِكُفْرِهِمْ، بَلْ يَكْفِي الِانْدِراجُ فِيما يَقْتَضِيهِ عُمُومُ اللَّفْظِ، والمَشْهُورُ أنَّها نَزَلَتْ مُطْلَقَةً. فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ أبِي مِجْلَزٍ قالَ: «لَما نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ الآيَةَ، قامَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَلى المِنبَرِ فَتَلاها عَلى النّاسِ، فَقامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقالَ: والشِّرْكُ بِاللَّهِ؟ فَسَكَتْ، ثُمَّ قامَ إلَيْهِ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، والشِّرْكُ بِاللَّهِ تَعالى؟ فَسَكَتْ، مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ إلَخْ». والمَعْنى أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَغْفِرُ الكُفْرَ لِمَنِ اتَّصَفَ بِهِ بِلا تَوْبَةٍ وإيمانٍ؛ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ بَتَّ الحُكْمَ عَلى خُلُودِ عَذابِهِ، وحُكْمُهُ لا يَتَغَيَّرُ، ولِأنَّ الحِكْمَةَ التَّشْرِيعِيَّةَ مُقْتَضِيَةٌ لِسَدِّ بابِ الكُفْرِ، ولِذا لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إلّا لِسَدِّهِ، وجَوازُ مَغْفِرَتِهِ بِلا إيمانٍ مِمّا يُؤَدِّي إلى فَتْحِهِ. وقِيلَ: لِأنَّ ذَنْبَهُ لا يَنْمَحِي عَنْهُ أثَرُهُ فَلا يَسْتَعِدُّ لِلْعَفْوِ بِخِلافِ غَيْرِهِ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعالى تابِعٌ لِاسْتِعْدادِ المَحَلِّ، وإلَيْهِ ذَهَبَ أكْثَرُ الصُّوفِيَّةِ، وجَمِيعُ الفَلاسِفَةِ، فَإنَّ (يُشْرَكَ) في مَوْضِعِ (p-52)النَّصْبِ عَلى المَفْعُولِيَّةِ، وقِيلَ: المَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، والمَعْنى: لا يَغْفِرُ مِن أجْلِ أنْ يُشْرَكَ بِهِ شَيْئًا مِنَ الذُّنُوبِ، فَيُفِيدُ عَدَمَ غُفْرانِ الشِّرْكِ مِن بابِ أوْلى، والَّذِي عَلَيْهِ المُحَقِّقُونَ هو الأوَّلُ. ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ﴾ عَطْفٌ عَلى خَبَرِ (إنَّ) لا مُسْتَأْنَفٌ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى الشِّرْكِ، وفِيهِ إيذانٌ بِبُعْدِ دَرَجَتِهِ في القُبْحِ، أيْ: يَغْفِرُ ما دُونَهُ مِنَ المَعاصِي وإنْ عَظُمَتْ وكانَتْ كَرَمْلِ عالِجٍ، ولَمْ يَتُبْ عَنْها تَفَضُّلًا مِن لَدُنْهُ وإحْسانًا. ﴿لِمَن يَشاءُ﴾ أنْ يَغْفِرَ لَهُ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِما ذُكِرَ فَقَطْ، فالجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ(يَغْفِرُ) المُثْبَتِ، والآيَةُ ظاهِرَةٌ في التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشِّرْكِ وما دُونَهُ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَغْفِرُ الأوَّلَ البَتَّةَ ويَغْفِرُ الثّانِيَ لِمَن يَشاءُ، والجَماعَةُ يَقُولُونَ بِذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ التَّوْبَةِ، فَحَمَلُوا الآيَةَ عَلَيْهِ بِقَرِينَةِ الآياتِ والأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى قَبُولِ التَّوْبَةِ فِيهِما جَمِيعًا ومَغْفِرَتِهِما عِنْدَها بِلا خِلافٍ مِن أحَدٍ. وذَهَبَ المُعْتَزِلَةُ إلى أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الشِّرْكِ وما دُونَهُ مِنَ الكَبائِرِ، في أنَّهُما يُغْفَرانِ بِالتَّوْبَةِ، ولا يُغْفَرانِ بِدُونِها، فَحَمَلُوا الآيَةَ - كَما قِيلَ - عَلى مَعْنى: إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ الإشْراكَ لِمَن يَشاءُ أنْ لا يَغْفِرَ لَهُ وهو غَيْرُ التّائِبِ، ويَغْفِرُ ما دُونَهُ لِمَن يَشاءُ أنْ يَغْفِرَ لَهُ وهو التّائِبُ، وجَعَلُوا (لِمَن يَشاءُ) مُتَعَلِّقًا بِالفِعْلَيْنِ، وقَيَّدُوا المَنفِيَّ بِما قُيِّدَ بِهِ المُثْبَتُ عَلى قاعِدَةِ التَّنازُعِ، لَكِنَّ (مَن يَشاءُ) في الأوَّلِ المُصِرُّونَ بِالِاتِّفاقِ، وفي الثّانِي التّائِبُونَ قَضاءً لِحَقِّ التَّقابُلِ، ولَيْسَ هَذا مِنِ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ الواحِدِ في مَعْنَيَيْنِ مُتَضادَّيْنِ؛ لِأنَّ المَذْكُورَ إنَّما تَعَلَّقَ بِالثّانِي، وقُدِّرَ في الأوَّلِ مِثْلُهُ، والمَعْنى واحِدٌ، لَكِنْ يُقَدَّرُ مَفْعُولُ المَشِيئَةِ في الأوَّلِ عَدَمُ الغُفْرانِ، وفي الثّانِي الغُفْرانُ، بِقَرِينَةِ سَبْقِ الذِّكْرِ، ولا يَخْفى أنَّ كَوْنَ هَذا مِنَ التَّنازُعِ مَعَ اخْتِلافِ مُتَعَلِّقٍ المَشِيئَةِ مِمّا لا يَكادُ يَتَفَوَّهُ بِهِ فاضِلٌ، ولا يَرْتَضِيهِ كامِلٌ، عَلى أنَّهُ لا جِهَةَ لِتَخْصِيصِ كُلٍّ مِنَ القَيْدَيْنِ بِما خُصِّصَ؛ لِأنَّ الشِّرْكَ أيْضًا يُغْفَرُ لِلتّائِبِ، وما دُونَهُ لا يُغْفَرُ لِلْمُصِرِّ عِنْدَهم مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَهُما، وسَوْقُ الآيَةِ يُنادِي بِالتَّفْرِقَةِ، وتَقْيِيدُ مَغْفِرَةِ ما دُونُ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ مِمّا لا دَلِيلَ عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ عُمُومُ آياتِ الوَعِيدِ بِالمُحافَظَةِ أوْلى مِن آياتٍ الوَعْدِ. وقَدْ ذَكَرَ الآمِدِيُّ في أبْكارِ الأفْكارِ أنَّها راجِحَةٌ عَلى آياتِ الوَعِيدِ بِالِاعْتِبارِ مِن ثَمانِيَةِ أوْجُهٍ، سَرَدَها هُناكَ، وزَعَمَ أنَّها لَوْ لَمْ تُقَيَّدْ وقِيلَ بِجَوازِ المَغْفِرَةِ لِمَن لَمْ يَتُبْ لَزِمَ إغْراءُ اللَّهِ تَعالى لِلْعَبْدِ بِالمَعْصِيَةِ لِسُهُولَتِها عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، والإغْراءُ بِذَلِكَ قَبِيحٌ يَسْتَحِيلُ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ، لَيْسَ بِشَيْءٍ. أمّا أوَّلًا: فَلِأنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى القَوْلِ بِالحُسْنِ والقُبْحِ العَقْلِيَّيْنِ، وقَدْ أُبْطِلَ في مَحَلِّهِ. وأمّا ثانِيًا: فَلِأنْ لَوْ سُلِّمَ يَلْزَمُ مِنهُ تَقْبِيحُ العَفْوِ شاهِدًا، وهو خِلافُ إجْماعِ العُقَلاءِ. وأمّا ثالِثًا: فَلِأنَّهُ مَنقُوضٌ بِالتَّوْبَةِ فَإنَّهم قالُوا بِوُجُوبِ قَبُولِها، ولا يَخْفى أنَّ ذَلِكَ مِمّا يَسْهُلُ عَلى العاصِي الإقْدامُ عَلى المَعْصِيَةِ أيْضًا ثِقَةً مِنهُ بِالتَّوْبَةِ حَسَبَ وُثُوقِهِ بِالمَغْفِرَةِ، بَلْ أبْلَغُ، مِن حَيْثُ إنَّ التَّوْبَةَ مَقْدُورَةٌ لَهُ بِخِلافِ المَغْفِرَةِ، فَكانَ يَجِبُ أنْ لا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ لِما فِيهِ مِنَ الإغْراءِ، وهو خِلافُ الإجْماعِ، فَلَئِنْ قالُوا: هو غَيْرُ واثِقٍ بِالإمْهالِ إلى التَّوْبَةِ قُلْنا: هو غَيْرُ واثِقٍ بِالمَغْفِرَةِ لِإبْهامِ المَوْصُولِ، والقَوْلُ بِأنَّهُ لَوْ لَمْ تُشْتَرَطِ التَّوْبَةُ لَزِمَ المُحاباةُ مِنَ اللَّهِ تَعالى في الغُفْرانِ لِلْبَعْضِ دُونَ البَعْضِ والمُحاباةُ غَيْرُ جائِزَةٍ عَلَيْهِ تَعالى ساقِطٌ مِنَ القَوْلِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى مُتَفَضِّلٌ بِالغُفْرانِ، ولِلْمُتَفَضِّلِ أنْ يَتَفَضَّلَ عَلى قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ وإنْسانٍ دُونَ إنْسانٍ، وهو عادِلٌ في تَعْذِيبِ مَن يُعَذِّبُهُ، ولَيْسَ يَمْنَعُ العَقْلُ والشَّرْعُ مِنَ الفَضْلِ والعَدْلِ كَما لا يَخْفى. ومِنَ المُعْتَزِلَةِ مَن قالَ: إنَّ المَغْفِرَةَ قَدْ جاءَتْ بِمَعْنى تَأْخِيرِ العُقُوبَةِ دُونَ إسْقاطِها، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ﴾ فَإنَّهُ لا يَصِحُّ هُنا حَمْلُها عَلى إسْقاطِ العُقُوبَةِ؛ لِأنَّ الآيَةَ في الكُفّارِ والعُقُوبَةَ غَيْرُ ساقِطَةٍ عَنْهم إجْماعًا، وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿ورَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهم بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ﴾ فَإنَّهُ صَرِيحٌ في أنَّ المَغْفِرَةَ بِمَعْنى تَأْخِيرِ العُقُوبَةِ (p-53)فَلْتُحْمَلْ فِيما نَحْنُ فِيهِ عَلى ذَلِكَ بِقَرِينَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى خاطَبَ الكُفّارَ وحَذَّرَهم تَعْجِيلَ العُقُوبَةِ عَنْ تَرْكِ الإيمانِ، ثُمَّ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ إلَخْ فَيَكُونُ المَعْنى: إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُؤَخِّرُ عُقُوبَةَ الشِّرْكِ بَلْ يُعَجِّلُها ويُؤَخِّرُ عُقُوبَةَ ما دُونَهُ لِمَن يَشاءُ، فَلا تَنْهَضُ الآيَةُ دَلِيلًا عَلى ما هو مَحَلُّ النِّزاعِ، عَلى أنَّهُ لَوْ سُلِّمَ أنَّ المَغْفِرَةَ فِيها بِمَعْنى إسْقاطِ العُقُوبَةِ لا يَحْصُلُ الغَرَضُ أيْضًا؛ لِأنَّهُ إمّا أنْ يُرادَ إسْقاطُ كُلِّ واحِدٍ واحِدٍ مِن أنْواعِ العُقُوبَةِ، أوْ يُرادَ إسْقاطُ جُمْلَةِ العُقُوباتِ، أوْ يُرادَ إسْقاطُ بَعْضِ أنْواعِها، لا سَبِيلَ إلى الأوَّلِ لِعَدَمِ دَلالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، بَقِيَ الِاحْتِمالانِ الآخَرانِ، وعَلى الأوَّلِ مِنهُما لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ لا يُعاقِبُ بِكُلِّ أنْواعِ العُقُوباتِ أنْ لا يُعاقِبَ بِبَعْضِها، وعَلى الثّانِي لا يَلْزَمُ مِن إسْقاطِ بَعْضِ الأنْواعِ إسْقاطُ البَعْضِ الآخَرِ. وأُجِيبَ بِأنَّ حَمْلَ المَغْفِرَةِ عَلى إسْقاطِ العُقُوبَةِ أوْلى مِن حَمْلِها عَلى التَّأْخِيرِ لِثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ المَعْنى المُتَبادَرُ مِن إطْلاقِ اللَّفْظِ. الثّانِي: أنَّهُ لَوْ حُمِلَ لَفْظُ المَغْفِرَةِ في الآيَةِ عَلى التَّأْخِيرِ لَزِمَ مِنهُ التَّخْصِيصُ في أنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ؛ لِأنَّ عُقُوبَةَ الشِّرْكِ مُؤَخَّرَةٌ في حَقِّ كَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، بَلْ رُبَّما كانُوا في أرْغَدِ عَيْشٍ وأطْيَبِهِ بِالنِّسْبَةِ إلى عَيْشِ بَعْضِ المُؤْمِنِينَ، وأنْ لا يُفَرَّقَ في مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ بَيْنَ الشِّرْكِ وما دُونَهُ بِخِلافِ حَمْلِها عَلى الإسْقاطِ. الثّالِثُ: أنَّ الأُمَّةَ مِنَ السَّلَفِ قَبْلَ ظُهُورِ المُخالِفِينَ لَمْ يَزالُوا مُجْمِعِينَ عَلى حَمْلِ لِفَظِ المَغْفِرَةِ في الآيَةِ عَلى سُقُوطِ العُقُوبَةِ، وما وقَعَ عَلَيْهِ الإجْماعُ هو الصَّوابُ، وضِدُّهُ لا يَكُونُ صَوابًا. وقَوْلُهُمْ: لا يَحْصُلُ الغَرَضُ أيْضًا لَوْ حُمِلَتْ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ إمّا أنْ يُرادَ إلَخْ، قُلْنا: بَلِ المُرادُ إسْقاطُ كُلِّ واحِدٍ واحِدٍ، وبَيانُهُ أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ سَلْبٌ لِلْغُفْرانِ، فَإذا كانَ المَفْهُومُ مِنَ الغُفْرانِ إسْقاطَ العُقُوبَةِ فَسَلْبُ الغُفْرانِ سَلْبُ السَّلْبِ، فَيَكُونُ إثْباتًا، ومَعْناهُ إقامَةُ العُقُوبَةِ، وعِنْدَ ذَلِكَ فَإمّا أنْ يَكُونَ المَفْهُومُ إقامَةَ كُلِّ أنْواعِ العُقُوباتِ أوْ بَعْضِها لا سَبِيلَ إلى الأوَّلِ لِاسْتِحالَةِ الجَمْعِ بَيْنَ العُقُوباتِ المُتَضادَّةِ، ولِأنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ في حَقِّ الكُفّارِ إجْماعًا، فَلَمْ يَبْقَ إلّا الثّانِي، ويَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنْ يَكُونَ الغُفْرانُ فِيما دُونَ الشِّرْكِ بِإسْقاطِ كُلِّ عُقُوبَةٍ، وإلّا لَما تَحَقَّقَ الفَرْقُ بَيْنَ الشِّرْكِ وما دُونَهُ. ومِنهم مَن وقَعَ في حَيْصَ بَيْصَ في هَذِهِ الآيَةِ، حَتّى زَعَمَ أنْ و(يَغْفِرُ) عَطْفٌ عَلى المَنفِيِّ، والنَّفْيُ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهِما، والآيَةُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الشِّرْكِ وما دُونَهُ لا لِلتَّفْرِقَةِ، ولا يَخْفى أنَّهُ مِن تَحْرِيفِ كَلامِ اللَّهِ تَعالى ووَضْعِهِ في غَيْرِ مَواضِعِهِ. ومِنَ الجَماعَةِ مِن قالَ في الرَّدِّ عَلى المُعْتَزِلَةِ: إنَّ التَّقْيِيدَ بِالمَشِيئَةِ يُنافِي وُجُوبَ التَّعْذِيبِ قَبْلَ التَّوْبَةِ ووُجُوبَ الصَّفْحِ بَعْدَها، وتَعَقَّبَهُ صاحِبُ الكَشْفِ بِأنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ ثَبَتٍ؛ لِأنَّ الوُجُوبَ بِالحِكْمَةِ يُؤَكِّدُ المَشِيئَةَ عِنْدَهُمْ، وأيْضًا قَدْ أشارَ الزَّمَخْشَرِيُّ في هَذا المَقامِ إلى أنَّ المَشِيئَةَ بِمَعْنى الِاسْتِحْقاقِ، وهي تَقْتَضِي الوُجُوبَ وتُؤَكِّدُهُ، فَلا يَرِدُ ما ذُكِرَ رَأْسًا. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ كَما يُرَدُّ بِها عَلى المُعْتَزِلَةِ يُرَدُّ بِها عَلى الخَوارِجِ الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّ كُلَّ ذَنْبٍ شِرْكٌ، وأنَّ صاحِبَهُ خالِدٌ في النّارِ، وذَكَرَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ أنَّ فِيها رَدًّا أيْضًا عَلى المُرْجِئَةِ القائِلِينَ: إنَّ أصْحابَ الكَبائِرِ مِنَ المُسْلِمِينَ لا يُعَذَّبُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وابْنُ عَدِيٍّ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: ««كُنّا نُمْسِكُ عَنِ الِاسْتِغْفارِ لِأهْلِ الكَبائِرِ حَتّى سَمِعْنا مِن نَبِيِّناﷺ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآيَةَ، وقالَ: إنِّي ادَّخَرْتُ دَعْوَتِي وشَفاعَتِي لِأهْلِ الكَبائِرِ مِن أُمَّتِي، فَأمْسَكْنا عَنْ كَثِيرٍ مِمّا كانَ في أنْفُسِنا ثُمَّ نَطَقْنا ورَجَوْنا»» وقَدِ اسْتَبْشَرَ الصَّحابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - بِهَذِهِ الآيَةِ جِدًّا، حَتّى قالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - فِيما أخْرَجَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ: «أحَبُّ آيَةٍ إلَيَّ في القُرْآنِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ . ﴿ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ اسْتِئْنافٌ مُشْعِرٌ بِتَعْلِيلِ عَدَمِ غُفْرانِ الشِّرْكِ، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ في مَوْضِعِ الإضْمارِ (p-54)لِإدْخالِ الرَّوْعَةِ وزِيادَةِ تَقْبِيحِ الإشْراكِ، وتَفْظِيعِ حالِ مَن يَتَّصِفُ بِهِ، أيْ: ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ تَعالى الجامِعِ لِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ مِنَ الجَمالِ والجَلالِ أيَّ شِرْكٍ كانَ ﴿فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا﴾ أيِ: ارْتَكَبَ ما يُسْتَحْقَرُ دُونَهُ الآثامُ، فَلا تَتَعَلَّقُ بِهِ المَغْفِرَةُ قَطْعًا، وأصْلُ الِافْتِراءِ مِنَ الفِرى، وهو القَطْعُ، ولِكَوْنِ قِطْعِ الشَّيْءِ مَفْسَدَةً لَهُ غالِبًا غَلَبَ عَلى الإفْسادِ، واسْتُعْمِلَ في القُرْآنِ بِمَعْنى الكَذِبِ والشِّرْكِ والظُّلْمِ، كَما قالَهُ الرّاغِبُ، فَهو ارْتِكابُ ما لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ قَوْلًا أوْ فِعْلًا، فَيَقَعُ عَلى اخْتِلاقِ الكَذِبِ، وارْتِكابِ الإثْمِ، وهو المُرادُ هُنا. وهَلْ هو مُشْتَرَكٌ بَيْنَ اخْتِلاقِ الكَذِبِ وافْتِعالِ ما لا يَصْلُحُ أمْ حَقِيقَةٌ في الأوَّلِ مَجازٌ مُرْسَلٌ أوِ اسْتِعارَةٌ في الثّانِي؟ قَوْلانِ: أظْهَرُهُما عِنْدَ البَعْضِ الثّانِي، ولا يَلْزَمُ الجَمْعُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ؛ لِأنَّ الشِّرْكَ أعَمُّ مِنَ القَوْلِيِّ والفِعْلِيِّ؛ لِأنَّ المُرادَ مَعْنًى عامٌّ وهو ارْتِكابُ ما لا يَصْلُحُ، وفي مَجْمَعِ البَيانِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ فَرَيْتُ وأفْرَيْتُ في أصْلِ المَعْنى بِأنَّهُ يُقالُ: فَرَيْتُ الأدِيمَ إذا قَطَعْتَهُ عَلى وجْهِ الإصْلاحِ، وأفْرَيْتُهُ إذا قَطَعْتَهُ عَلى وجْهِ الإفْسادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب