الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ نَزَلَتْ - كَما قالَ السُّدِّيُّ - في زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ، ومالِكِ بْنِ الصَّيْفِ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ وغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما -قالَ: ««كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - رُؤَساءَ مِن أحْبارِ يَهُودَ، مِنهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيّا، وكَعْبُ بْنُ أسَدٍ، فَقالَ لَهُمْ: يا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللَّهَ وأسْلِمُوا، فَواللَّهِ إنَّكم لَتَعْلَمُونَ أنَّ الَّذِي جِئْتُكم بِهِ لَحَقٌّ، فَقالُوا: ما نَعْرِفُ ذَلِكَ يا مُحَمَّدُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ الآيَةَ»» ولا يَخْفى أنَّ العِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وهو شامِلٌ لِمَن حُكِيَتْ أحْوالُهم وأقْوالُهم ولِغَيْرِهِمْ، وجُعِلَ الخِطابُ لِلْأوَّلِينَ خاصَّةً بِطْرِيقِ الِالتِفاتِ، وأنَّ وصْفَهم بِإيتاءِ الكِتابِ تارَةً وبِإيتاءِ نَصِيبٍ مِنهُ أُخْرى لِتَوْفِيَةِ كُلٍّ مِنَ المَقامَيْنِ حَظَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا، ولَمّا كانَ تَفْصِيلُ هاتِيكَ الأحْوالِ والأقْوالِ مِن مَظانِّ إقْلاعِ مَن تَوَجَّهَ الخِطابُ إلَيْهِمْ عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ الضَّلالَةِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالأمْرِ بِالمُبادَرَةِ إلى سُلُوكِ مَحَجَّةِ الهُدى، مَشْفُوعًا بِالتَّحْذِيرِ والتَّخْوِيفِ والوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلى المُخالَفَةِ، فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿آمِنُوا﴾ إيمانًا شَرْعِيًّا ﴿بِما نَزَّلْنا﴾ أيْ: بِالَّذِي أنْزَلْناهُ مِن عِنْدِنا عَلى رَسُولِنا مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ القُرْآنِ ﴿مُصَدِّقًا لِما مَعَكُمْ﴾ مِنَ التَّوْراةِ الغَيْرِ المُبَدَّلَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ تَصْدِيقِ القُرْآنِ لِذَلِكَ، وعَبَّرَ عَنِ التَّوْراةِ بِما ذُكِرَ لِلْإيذانِ بِكَمالِ وُقُوفِهِمْ عَلى حَقِيقَةِ الحالِ المُؤَدِّي إلى العِلْمِ بِكَوْنِ القُرْآنِ مُصَدِّقًا لَها ﴿مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِالأمْرِ، مُفِيدٌ لِلْمُسارَعَةِ إلى الِامْتِثالِ لِما فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ الوارِدِ عَلى أبْلَغِ وجْهٍ وآكَدِهِ، حَيْثُ لَمْ يُعَلِّقْ وُقُوعَ المُتَوَعَّدِ بِهِ بِالمُخالَفَةِ، ولَمْ يُصَرِّحْ بِوُقُوعِهِ عِنْدَها؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ ذَلِكَ أمْرٌ مُحَقَّقٌ غَنِيٌّ عَنِ الإخْبارِ بِهِ، وأنَّهُ عَلى شَرَفِ الوُقُوعِ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ المُخاطَبِينَ، وفي تَنْكِيرِ (وُجُوهٍ) تَهْوِيلٌ لِلْخَطْبِ مَعَ لُطْفٍ وحُسْنِ اسْتِدْعاءٍ. وأصْلُ الطَّمْسِ اسْتِئْصالُ أثَرِ الشَّيْءِ، والمُرادُ (آمِنُوا) مِن قَبْلِ أنْ نَمْحُوَ ما خَطَّهُ البارِي بِقَلَمِ قُدْرَتِهِ في صَحائِفِ الوُجُوهِ، مِن نُونِ الحاجِبِ، وصادِ العَيْنِ، وألِفِ الأنْفِ، ومِيمِ الفَمِ، فَنَجْعَلُها كَخُفِّ البَعِيرِ، أوْ كَحافِرِ الدّابَّةِ، ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما. وقالَ الفَرّاءُ، والبَلْخِيُّ، وحُسَيْنٌ المَغْرِبِيُّ: إنَّ المَعْنى: آمِنُوا مِن قَبْلِ أنْ نَجْعَلَ الوُجُوهَ مَنابِتَ الشَّعَرِ كَوُجُوهِ القِرَدَةِ ﴿فَنَرُدَّها عَلى أدْبارِها﴾ أيْ: فَنَجْعَلَها عَلى هَيْئَةِ أدْبارِها وأقْفائِها، مَطْمُوسَةً مِثْلَها، فَإنَّ ما خَلَفَ الوَجْهِ لا تَصْوِيرَ فِيهِ وهو مَنبَتُ الشَّعَرِ أيْضًا، والعَطْفُ بِالفاءِ إمّا عَلى إرادَةِ نُرِيدُ الطَّمْسَ، أوْ عَلى جَعْلِ العَطْفِ مِن عَطْفِ المُفَصَّلِ عَلى المُجْمَلِ. وعَنْ عَطِيَّةَ العَوْفِيِّ أنَّ المُرادَ: نُنَكِّسَها بَعْدَ الطَّمْسِ، بِجَعْلِ العُيُونِ الَّتِي فِيها وما مَعَها في القَفا، فالعَطْفُ بِالفاءِ ظاهِرٌ، وقِيلَ: المُرادُ بِالوُجُوهِ الوُجَهاءُ، عَلى أنَّ الطَّمْسَ بِمَعْنى مُطْلَقِ التَّغْيِيرِ، أيْ: مِن قَبْلِ أنْ نُغَيِّرَ أحْوالَ وُجَهائِهِمْ، فَنَسْلُبَ وجاهَتَهم وإقْبالَهم ونَكْسُوَهم صَغارًا وإدْبارًا، أوْ نَرُدَّهم مِن حَيْثُ جاءُوا مِنهُ، وهي أذْرِعاتُ الشّامِ، فالمُرادُ بِذَلِكَ إجْلاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وإلى هَذا المُرادِ ذَهَبَ ابْنُ زَيْدٍ، وضُعِّفَ بِأنَّهُ لا يُساعِدُهُ مَقامُ تَشْدِيدِ الوَعِيدِ وتَعْمِيمِ التَّهْدِيدِ لِلْجَمِيعِ. وقَدِ اخْتُلِفَ في أنَّ الوَعِيدَ هَلْ كانَ بِوُقُوعِهِ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ؟ فَقالَ جَماعَةٌ: كانَ بِوُقُوعِهِ في الدُّنْيا، وأُيِّدَ بِما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عِيسى بْنِ المُغِيرَةِ قالَ: تَذاكَرْنا عِنْدَ إبْراهِيمَ إسْلامَ كَعْبٍ فَقالَ: أسْلَمَ كَعْبٌ في زَمانِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أقْبَلَ وهو يُرِيدُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَمَرَّ عَلى المَدِينَةِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ عُمَرُ فَقالَ: يا كَعْبُ أسْلِمْ، قالَ: ألَسْتُمْ تَقْرَءُونَ في كِتابِكُمْ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا﴾ ؟! وأنا قَدْ حَمَلْتُ التَّوْراةَ، (p-50)فَتَرَكَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتّى انْتَهى إلى حِمْصَ، فَسَمِعَ رَجُلًا مِن أهْلِها يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ: رَبِّ آمَنتُ، رَبِّ أسْلَمْتُ؛ مَخافَةَ أنْ يُصِيبَهُ وعِيدُها، ثُمَّ رَجَعَ، فَأتى أهْلَهُ بِاليَمَنِ، ثُمَّ جاءَ بِهِمْ مُسْلِمِينَ. ورُوِيَ «أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ لَمّا قَدِمَ مِنَ الشّامِ، وقَدْ سَمِعَ هَذِهِ الآيَةَ أتى رَسُولُ اللَّهِﷺ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَ أهْلَهُ فَأسْلَمَ، وقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما كُنْتُ أرى أنْ أصِلَ إلَيْكَ حَتّى يَتَحَوَّلَ وجْهِي إلى قَفايَ». ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقالَ المُبَرِّدُ: إنَّهُ مُنْتَظَرٌ بَعْدُ، ولا بُدَّ مِن طَمْسٍ في اليَهُودِ ومَسْخٍ قَبْلَ قِيامِ السّاعَةِ، وأُيِّدَ بِتَنْكِيرِ (وُجُوهٍ) والتَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ الغَيْبَةِ فِيما يَأْتِي، واعْتَرَضَهُ شَيْخُ الإسْلامِ بِأنَّ انْصِرافَ العَذابِ المَوْعُودِ عَنْ أوائِلِهِمْ، وهُمُ الَّذِينَ باشَرُوا أسْبابَ نُزُولِهِ ومُوجِباتِ حُلُولِهِ حَيْثُ شاهَدُوا شَواهِدَ النُّبُوَّةِ في رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – فَكَذَّبُوها، وفي التَّوْراةِ فَحَرَّفُوها، وأصَرُّوا عَلى الكُفْرِ والضَّلالَةِ، وتَعَلَّقَ بِهِمْ خِطابُ المُشافَهَةِ بِالوَعِيدِ، ثُمَّ نُزُولُهُ عَلى مَن وُجِّهَ بَعْدَما فاتَ مِنَ السِّنِينَ مِن أعْقابِهِمُ الضّالِّينَ بِإضْلالِهِمُ العامِلِينَ بِما مَهَّدُوا مِن قَوانِينَ الغِوايَةِ بِعِيدٌ مِن حِكْمَةِ العَزِيزِ الحَكِيمِ. والجَوابُ بِأنَّ عادَةَ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - قَدْ جَرَتْ مَعَ اليَهُودِ بِأنْ يَنْتَقِمَ مِن أخْلافِهِمْ بِما صَنَعَتْ أسْلافُهُمْ، وإنْ لَمْ يُعْلَمْ وجْهُ الحِكْمَةِ فِيهِ عَلى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ لا يُزِيلُ البُعْدَ في هَذِهِ الصُّورَةِ. وقالَ البَرْسِيُّ: إنَّ هَذا الوَعِيدَ كانَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِمْ لَوْ لَمْ يُؤْمِن أحَدٌ مِنهُمْ، وقَدْ آمَنَ جَماعَةٌ مِن أحْبارِهِمْ فَلَمْ يَقَعْ، ورُفِعَ عَنِ الباقِينَ، واعْتُرِضَ أيْضًا بِأنَّ إسْلامَ البَعْضِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِتَأكُّدِ نُزُولِ العَذابِ عَلى الباقِينَ لِتَشْدِيدِهِمُ النَّكِيرَ والعِنادَ بَعْدَ ازْدِيادِ الحَقِّ وُضُوحًا وقِيامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِشَهادَةِ أماثِلِهِمُ العُدُولِ فَلا أقَلَّ مِن أنْ لا يَكُونُ سَبَبًا لِرَفْعِهِ عَنْهم. وقِيلَ في الجَوابِ: إنَّهُ إذا جازَ أنْ يُنْزِلَ سُبْحانَهُ البَلاءُ عَلى قَوْمٍ بِسَبَبِ عِصْيانِ بَعْضٍ مِنهم كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ فَلَأنْ يَجُوزَ أنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ عَنِ الكُلِّ بِسَبَبِ طاعَةِ البَعْضِ مِن بابٍ أوْلى؛ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الَّذِي سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ. وقَدْ ورَدَ في الأخْبارِ ما يَدُلُّ عَلى وُقُوعِ ذَلِكَ، ودَعْوى الفِرَقِ مِمّا لا تَكادُ تَسْلَمُ، وقِيلَ: كانَ الوَعِيدُ بِوُقُوعِ أحَدِ الأمْرَيْنِ كَما يَنْطِقُ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ نَلْعَنَهم كَما لَعَنّا أصْحابَ السَّبْتِ﴾ فَإنْ لَمْ يَقَعِ الأمْرُ الأوَّلُ فَلا نِزاعَ في وُقُوعِ الأمْرِ الثّانِي، فَإنَّ اليَهُودَ مَلْعُونُونَ بِكُلِّ لِسانٍ، وفي كُلِّ زَمانٍ، فاللَّعْنُ بِمَعْناهُ الظّاهِرِ، والمُرادُ مِنَ التَّشْبِيهِ بِلَعْنِ أصْحابِ السَّبْتِ الإغْراقُ في وصْفِهِ. واعْتُرِضَ بِأنَّ اللَّعْنَ الواقِعَ عَلَيْهِمْ ما تَداوَلَتْهُ الألْسِنَةُ، وهو بِمَعْزِلٍ مِن صَلاحِيَتِهِ أنْ يَكُونَ حُكْمًا لِهَذا الوَعِيدِ، أوْ مَزْجَرَةً عَنْ مُخالَفَةٍ لِلْعَنِيدِ، فاللَّعْنُ هُنا الخِزْيُ بِالمَسْخِ، وجَعْلُهم قِرَدَةً وخَنازِيرَ، كَما أخْرَجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الضَّحّاكِ، وابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الحَسَنِ، ويُؤَيِّدُهُ ظاهِرُ التَّشْبِيهِ، ولَيْسَ في عَطْفِهِ عَلى الطَّمْسِ والرَّدِّ عَلى الأدْبارِ شائِبَةُ دَلالَةٍ عَلى إرادَةِ ذَلِكَ ضَرُورَةَ أنَّهُ تَعْبِيرٌ مُغايِرٌ لِما عُطِفَ عَلَيْهِ، والِاسْتِدْلالُ عَلى مُغايَرَةِ اللَّعْنِ بِالمَسْخِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مِن لَعَنَهُ اللَّهِ وغَضِبَ عَلَيْهِ وجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ﴾ لا يُفِيدُ أكْثَرَ مِن مُغايَرَتِهِ لِلْمَسْخِ في تِلْكَ الآيَةِ. وذَهَبَ البَلْخِيُّ والجُبّائِيُّ إلى أنَّ الوَعِيدَ إنَّما كانَ بِوُقُوعِ ما ذُكِرَ في الآخِرَةِ عِنْدَ الحَشْرِ، وسَيَقَعُ فِيها أحَدُ الأمْرَيْنِ أوْ كِلاهُما عَلى سَبِيلِ التَّوْزِيعِ. وأُجِيبَ عَمّا رُوِيَ عَنِ الحَبْرَيْنِ: الظّاهِرُ في أنَّ ذَلِكَ في الدُّنْيا، بِأنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى الِاحْتِياطِ وغَلَبَةِ الخَوْفِ اللّائِقِ بِشَأْنِها، وقَدْ ورَدَ «أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - كانَ يُكْثِرُ الدُّخُولَ والخُرُوجَ في الحُجُراتِ، ولا يَكادُ يَقِرُّ لَهُ قَرارٌ إذا اشْتَدَّ الهَواءُ ويَقُولُ: «أخْشى أنْ تَقُومَ السّاعَةُ»» مَعَ عِلْمِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِأنَّ قَبْلَ قِيامِها القائِمَ، وعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، والدَّجّالَ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ، والدّابَّةَ، وطُلُوعَ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا قَصَّهُ ﷺ – عَلَيْنا، وجَوَّزَ بَعْضُهم عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الوَعِيدِ بِالوُقُوعِ في الآخِرَةِ أنْ يُرادَ بِالطَّمْسِ والرَّدِّ عَلى الأدْبارِ الخَتْمُ (p-51)عَلى العَيْنِ والفَمِ، والطَّبْعُ عَلَيْهِما، فَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ﴾ و﴿اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْواهِهِمْ﴾ وجَوَّزَ نَحْوَ هَذا بَعْضُ مَنِ ادَّعى أنَّ ذَلِكَ في الدُّنْيا فَقالَ: إنَّ المَعْنى آمِنُوا مِن قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا بِأنْ نُعْمِيَ الأبْصارَ عَنِ الِاعْتِبارِ، ونُصِمَّ الأسْماعَ عَنِ الإصْغاءِ إلى الحَقِّ بِالطَّبْعِ، ونَرُدَّها عَنِ الهِدايَةِ إلى الضَّلالَةِ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الضَّحّاكِ، وأخْرَجَهُ أبُو الجارُودِ، عَنْ أبِي جَعْفَرٍ- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - والحَقُّ أنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ بِنَصٍّ في كَوْنِ ذَلِكَ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ، بَلِ المُتَبادَرُ مِنها بِحَسَبِ المَقامِ كَوْنُهُ في الدُّنْيا؛ لِأنَّهُ أدْخَلُ في الزَّجْرِ، وعَلَيْهِ مَبْنى ما رُوِيَ عَنِ الحَبْرَيْنِ. لَكِنْ لَمّا كانَ في وُقُوعِ ذَلِكَ خَفاءٌ واحْتِمالٌ أنَّهُ وقَعَ ولَمْ يَبْلُغْنا - عَلى ما في التَّيْسِيرِ - مِمّا لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ورُجِّحَ احْتِمالُ كَوْنِهِ في الآخِرَةِ، وأيًّا ما كانَ فَلَعَلَّ السِّرَّ في تَخْصِيصِهِمْ بِهَذِهِ العُقُوبَةِ مِن بَيْنِ العُقُوباتِ - كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ - مُراعاةُ المُشاكَلَةِ بَيْنَها وبَيْنَ ما أوْجَبَها مِن جِنايَتِهِمُ، الَّتِي هي التَّحْرِيفُ والتَّغْيِيرُ، والفاعِلُ والرّاضِي سَواءٌ، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ في (نَلْعَنَهُمْ) لِأصْحابِ الوُجُوهِ، أوْ (لِلَّذِينَ) عَلى طَرِيقِ الِالتِفاتِ؛ لِأنَّهُ بَعْدَ تَمامِ النِّداءِ يَقْتَضِي الظّاهِرُ الخِطابَ، وأمّا قَبْلَهُ فالظّاهِرُ الغَيْبَةُ، ويَجُوزُ الخِطابُ لَكِنَّهُ غَيْرُ فَصِيحٍ كَقَوْلِهِ: ؎يا مَن يَعِزُّ عَلَيْنا أنْ نُفارِقَهم وِجْدانُنا كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَكم عَدَمُ أوْ لِلْوُجُوهِ إنْ أُرِيدَ بِهِ الوُجَهاءُ. ﴿وكانَ أمْرُ اللَّهِ﴾ بِإيقاعِ شَيْءٍ ما مِنَ الأشْياءِ، فالمُرادُ بِالأمْرِ مَعْناهُ المَعْرُوفُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ واحِدُ الأُمُورِ، ولَعَلَّهُ الأظْهَرُ، أيْ: كانَ وعِيدُهُ أوْ ما حَكَمَ بِهِ وقَضاهُ مَفْعُولًا نافِذًا واقِعًا في الحالِ، أوْ كائِنًا في المُسْتَقْبَلِ لا مَحالَةَ، ويَدْخُلُ في ذَلِكَ ما أُوعِدْتُمْ بِهِ دُخُولًا أوَّلِيًّا، والجُمْلَةُ اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ مُقَرِّرٌ لِما سَبَقَ، ووَضْعُ الِاسْمِ الجَلِيلِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ لِما مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب