الباحث القرآني

﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ﴾ اسْتِئْنافٌ مُقَرِّرٌ لِما سَبَقَ مِنَ التَّنْزِيهِ، ورُوِيَ «أنَّ وفْدَ نَجْرانَ قالُوا لِنَبِيِّنا - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «يا مُحَمَّدُ لِمَ تَعِيبُ صاحِبَنا؟ قالَ: ومَن صاحِبُكُمْ؟ قالُوا عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ: وأيُّ شَيْءٍ أقُولُ فِيهِ؟ قالُوا: تَقُولُ: إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ»» فَنَزَلَتْ، والِاسْتِنْكافُ اسْتِفْعالٌ مِنَ النَّكْفِ، وأصْلُهُ - كَما قالَ الرّاغِبُ - مِن نَكَفْتُ الشَّيْءَ نَحَّيْتُهُ، وأصْلُهُ تَنْحِيَةُ الدَّمْعِ عَنِ الخَدِّ بِالإصْبَعِ، وقالُوا: بَحْرٌ لا يُنْكَفُ أيْ: لا يُنْزَحُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ؎فَبانُوا ولَوْلا ما تَذَكَّرَ مِنهُمُ مِنَ الحِلْفِ لَمْ يُنْكَفْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعُ وقِيلَ: النَّكْفُ قَوْلُ السُّوءِ، ويُقالُ: ما عَلَيْهِ في هَذا الأمْرِ نَكْفٌ ووَكْفٌ، واسْتَفْعَلَ فِيهِ لِلسَّلْبِ، قالَهُ المُبَرِّدُ، وفي الأساسِ: اسْتَنْكَفَ ونَكَفَ امْتَنَعَ وانْقَبَضَ أنَفًا وحِمْيَةً. وقالَ الزَّجّاجُ: الِاسْتِنْكافُ تَكَبُّرٌ في تَرْكِهِ أنَفَةٌ، ولَيْسَ في الِاسْتِكْبارِ ذَلِكَ، والمَعْنى: لَنْ يَأْنَفَ ولَنْ يَمْتَنِعَ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - لَنْ يَسْتَكْبِرَ المَسِيحُ ﴿أنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ﴾ أيْ: عَنْ، أوْ مِن أنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ تَعالى، مُسْتَمِرًّا عَلى عِبادَتِهِ تَعالى وطاعَتِهِ، حَسْبَما هو وظِيفَةُ العُبُودِيَّةِ، كَيْفَ وأنَّ ذَلِكَ أقْصى مَراتِبِ الشَّرَفِ، وقَدْ أشارَ القاضِي عِياضٌ إلى شَرَفِ العُبُودِيَّةِ بِقَوْلِهِ: ؎ومِمّا زادَنِي عَجَبًا وتِيهًا ∗∗∗ وكِدْتُ بِأخْمُصِي أطَأُ الثُّرَيّا ؎دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يا عِبادِي ∗∗∗ وجَعْلُكَ خَيْرَ خَلْقِكَ لِي نَبِيًّا والِاقْتِصارُ عَلى ذِكْرِ عَدَمِ اسْتِنْكافِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَنْ ذَلِكَ مَعَ أنَّ شَأْنَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - المُباهاةُ بِهِ كَما تَدُلُّ عَلَيْهِ أحْوالُهُ وتُفْصِحُ عَنْهُ أقْوالُهُ لِوُقُوعِهِ في مَوْضِعِ الجَوابِ عَمّا قالَهُ الكَفَرَةُ، كَما عَلِمْتَ آنِفًا، وهو السِّرُّ في جَعْلِ المُسْتَنْكَفِ مِنهُ كَوْنَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَبْدًا لَهُ تَعالى دُونَ أنْ يُقالَ: عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، ونَحْوُ ذَلِكَ، مَعَ إفادَتِهِ - كَما قِيلَ - فائِدَةً جَلِيلَةً هي كَمالُ نَزاهَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَنِ الِاسْتِنْكافِ بِالكُلِّيَّةِ لِاسْتِمْرارِ هَذا الوَصْفِ واسْتِتْباعِهِ وصْفَ العِبادَةِ، فَعَدَمُ الِاسْتِنْكافِ عَنْهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ اسْتِنْكافِ ذَلِكَ، بِخِلافِ وصْفِ العِبادَةِ؛ فَإنَّها حالَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ غَيْرُ مُسْتَلْزِمَةٍ لِلدَّوامِ، يَكْفِي في اتِّصافِ مَوْصُوفِها بِها تَحَقُّقُها مَرَّةً، فَعَدَمُ الِاسْتِنْكافِ عَنْها لا يَسْتَلْزِمُ عَنْها عَدَمَ الِاسْتِنْكافِ عَنْ دَوامِها. (p-38)ومِمّا يَدُلُّ عَلى عُبُودِيَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ – مِن كُتُبِ النَّصارى أنَّ قَوْلَسَ قالَ في رِسالَتِهِ الثّانِيَةِ: انْظُرُوا إلى هَذا الرَّسُولِ رَئِيسِ أحْبارِنا، يَسُوعَ المُؤْتَمَنِ مِن عِنْدِ مَن خَلَقَهُ، مِثْلَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - في جَمِيعِ أحْوالِهِ غَيْرَ أنَّهُ أفْضَلُ مِن مُوسى، عَلَيْهِ السَّلامُ. وقالَ مُرْقُسُ في إنْجِيلِهِ: قالَ يَسُوعُ: إنَّ نَفْسِي حَزِينَةٌ حَتّى المَوْتِ، ثُمَّ خَرَّ عَلى وجْهِهِ يُصَلِّي لِلَّهِ تَعالى، وقالَ: أيُّها الأبُ كُلُّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِكَ أخَّرَ عَنِّي هَذا الكَأْسَ، لَكِنْ كَما تُرِيدُ لا كَما أُرِيدُ، ثُمَّ خَرَّ عَلى وجْهِهِ يُصَلِّي لِلَّهِ تَعالى. ووَجْهُ الدَّلالَةِ في ذَلِكَ ظاهِرٌ، إذْ هو سائِلٌ، واللَّهُ تَعالى مَسْؤُولٌ، وهو مُصَلٍّ واللَّهُ تَعالى مُصَلًّى لَهُ، وأيُّ عُبُودِيَّةٍ تَزِيدُ عَلى ذَلِكَ، ونُصُوصُ الأناجِيلِ ناطِقَةٌ بِعُبُودِيَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في غَيْرِما مَوْضِعٍ، ولِلَّهِ تَعالى دَرُّ أبِي الفَضْلِ حَيْثُ يَقُولُ فِيهِ: ؎هُوَ عَبْدٌ مُقَرَّبٌ ونَبِيٌّ ∗∗∗ ورَسُولٌ قَدْ خَصَّهُ مَوْلاهُ ؎طَهَّرَ اللَّهُ ذاتَهُ وحَباهُ ∗∗∗ ثُمَّ أتاهُ وحَيْهُ وهَداهُ ؎وبِـ( كُنْ ) خَلَقَهُ بَدا كَلِمَةُ اللَّـ ∗∗∗ ــهِ إلى مَرْيَمَ البَتُولِ بَراهُ ؎هَكَذا شَأْنُ رَبِّهِ خالِقِ الخَلْــ ∗∗∗ ـقِ بِـ( كُنْ ) خَلَقَهم فَنِعْمَ الإلَهُ ؎والأناجِيلُ شاهِداتٌ وعَنْهُ ∗∗∗ إنَّما اللَّهُ رَبُّهُ لا سِواهُ ؎كانَ لِلَّهِ خاشِعًا مُسْتَكِينًا ∗∗∗ راغِبًا راهِبًا يَرْجى رِضاهُ ؎لَيْسَ يَحْيا ولَيْسَ يَخْلُقُ إلّا ∗∗∗ أنْ دَعاهُ وقَدْ أجابَ دَعاهُ ؎إنَّما فاعِلُ الجَمِيعِ هو اللَّـ ∗∗∗ ـهُ ولَكِنْ عَلى يَدَيْهِ قَضاهُ ويَكْفِي في إثْباتِ عُبُودِيَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ – ما أشارَ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ ﴿كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾ وفي التَّعْبِيرِ بِالمَسِيحِ ما يُشْعِرُ بِالعُبُودِيَّةِ أيْضًا. ﴿ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ﴾ عَطْفٌ عَلى المَسِيحِ كَما هو الظّاهِرُ، أيْ: لا يَسْتَنْكِفُ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ أنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِلَّهِ تَعالى، وقِيلَ: إنَّهُ عَطْفٌ عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في ( يَكُونَ ) أوْ ( عَبْدًا )؛ لِأنَّهُ صِفَةٌ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وتَقْدِيرُ مُتَعَلِّقِ الفِعْلِ لازِمٌ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الأكْثَرُونَ. وقِيلَ: أُرِيدَ بِالمَلائِكَةِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُمْ، فَلا حاجَةَ إلى التَّقْدِيرِ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ مِن عَطْفِ الجُمَلِ، والتَزَمَ تَقْدِيرَ الفِعْلِ، وهو كَما تَرى. واحْتَجَّ بِالآيَةِ القاضِي أبُو بَكْرٍ، والحُلَيْمِيُّ، والمُعْتَزِلَةُ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ أفْضَلُ مِنَ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لِأنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّياقُ وقَواعِدُ المَعانِي وكَلامُ العَرَبِ التَّرَقِّيَ مِنَ الفاضِلِ إلى الأفْضَلِ، فَيَكُونُ المَعْنى: لا يَسْتَنْكِفُ المَسِيحُ ولا مَن هو فَوْقَهُ، كَما يُقالُ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ مِن هَذا الأمْرِ الوَزِيرُ ولا السُّلْطانُ دُونَ العَكْسِ، وأُجِيبَ بِأنَّ سَوْقَ الآيَةِ - وإنْ كانَ رَدًّا عَلى النَّصارى - لَكِنَّهُ أُدْمِجَ فِيهِ الرَّدُّ عَلى عَبَدَةِ المَلائِكَةِ المُشارِكِينَ لَهم في رَفْعِ بَعْضِ المَخْلُوقِينَ عَنْ مَرْتَبَةِ العُبُودِيَّةِ إلى دَرَجَةِ المَعْبُودِيَّةِ، وادِّعاءِ انْتِسابِهِمْ إلى اللَّهِ تَعالى بِما هو مِن شَوائِبِ الأُلُوهِيَّةِ، وخُصَّ ( المُقَرَّبُونَ )؛ لِأنَّهم كانُوا يَعْبُدُونَهم دُونَ غَيْرِهِمْ، ورُدَّ هَذا الجَوابُ بِأنَّ هَذا لا يَنْفِي فَوْقِيَّةَ الثّانِي كَما هو مُقْتَضى عِلْمِ المَعانِي. قِيلَ: ولا وُرُودَ لَهُ؛ لِأنَّهُ يُعْلَمُ مِنَ التَّقْرِيرِ دَفْعُهُ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ بِالذّاتِ أمْرُ المَسِيحِ فَلِذا قُدِّمَ، ولَوْ سُلِّمَ أنَّهُ لا يَنْفِي الفَوْقِيَّةَ فَهو لا يُثْبِتُها، كَما إذا قُلْتَ: ما فَعَلَ هَذا زَيْدٌ ولا عَمْرٌو، وهو يَكْفِي لِدَفْعِ حُجَّةِ الخَصْمِ، وأمّا كَوْنُ السِّباقِ والسِّياقِ يُخالِفُهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ المُجِيبَ قالَ: إنَّهُ إدْماجٌ واسْتِطْرادٌ، وأُجِيبَ أيْضًا عَلى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ اخْتِصاصِ الرَّدِّ بِالنَّصارى بِأنَّ المَلائِكَةَ ( المُقَرَّبُونَ ) صِيغَةُ جَمْعٍ تَتَناوَلُ مَجْمُوعَ المَلائِكَةِ، فَهَذا العَطْفُ يَقْتَضِي كَوْنَ مَجْمُوعِ المَلائِكَةِ أفْضَلَ مِنَ المَسِيحِ، ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ (p-39)كُلُّ واحِدٍ مِنهم أفْضَلَ مِنَ المَسِيحِ، قالَ في الِانْتِصافِ: وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ مَوْرِدَهُ إذا بُنِيَ عَلى أنَّ المَسِيحَ أفْضَلُ مِن كُلِّ واحِدٍ مِن آحادِ المَلائِكَةِ فَقَدْ يُقالُ: يَلْزَمُهُ القَوْلُ بِأنَّهُ أفْضَلُ مِنَ الكُلِّ، كَما أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لَمّا كانَ أفْضَلَ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - كانَ أفْضَلَ مِن كُلِّهِمْ، ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّفْضِيلِ عَلى التَّفْضِيلِ والتَّفْضِيلِ عَلى الجُمْلَةِ أحَدٌ مِمَّنْ صَنَّفَ في هَذا المَعْنى. وقَدْ كانَ طارَ عَنْ بَعْضِ الأئِمَّةِ المُعاصِرِينَ تَفْضِيلُهُ بَيْنَ التَّفْضِيلَيْنِ، ودَعْوى أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنهُ عَلى التَّفْضِيلِ تَفْضِيلٌ عَلى الجُمْلَةِ، ولَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ هَذا القَوْلُ، ولَوْ قالَهُ فَهو مَرْدُودٌ بِوَجْهٍ لَطِيفٍ، وهو أنَّ التَّفْضِيلَ المُرادَ جُلُّ أماراتِهِ رَفْعُ دَرَجَةِ الأفْضَلِ في الجَنَّةِ، والأحادِيثُ مُتَظافِرَةٌ بِذَلِكَ، وحِينَئِذٍ لا يَخْلُو إمّا أنْ تَرْتَفِعَ دَرَجَةُ واحِدٍ مِنَ المَفْضُولِينَ عَلى مَنِ اتُّفِقَ أنَّهُ أفْضَلُ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهُمْ، أوْ لا تَرْتَفِعُ دَرَجَةُ أحَدٍ مِنهم عَلَيْهِ، لا سَبِيلَ إلى الأوَّلِ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ رَفْعُ المَفْضُولِ عَلى الفاضِلِ فَيَتَعَيَّنُ الثّانِي، وهو ارْتِفاعُ دَرَجَةِ الأفْضَلِ عَلى دَرَجاتِ المَجْمُوعِ ضَرُورَةً، فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ أفْضَلِيَّتِهِ عَلى المَجْمُوعِ مِن ثُبُوتِ أفْضَلِيَّتِهِ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهم قَطْعًا، انْتَهى. قُلْتُ: فَما شاعَ مِنَ الخِلافِ بَيْنَ الحَنَفِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ في أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - هَلْ هو أفْضَلُ مِنَ المَجْمُوعِ كَما أنَّهُ أفْضَلُ مِنَ الجَمِيعِ أمْ أنَّهُ أفْضَلُ مِنَ الجَمِيعِ فَقَطْ دُونَ المَجْمُوعِ؟ لَيْسَ في مَحَلِّهِ عَلى هَذا، فَتَدَبَّرْ. وقِيلَ في الجَوابِ: إنَّ غايَةَ ما تَدُلُّ عَلَيْهِ الآيَةُ تَفْضِيلُ المُقَرَّبِينَ مِنَ المَلائِكَةِ، وهُمُ الكُرُوبِيُّونَ الَّذِينَ حَوْلَ العَرْشِ، أوْ مَن هم أعْلى رُتْبَةً مِنهم مِنَ المَلائِكَةِ عَلى المَسِيحِ مِنَ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وذَلِكَ لا يَسْتَلْزِمُ فَضْلَ أحَدِ الجِنْسَيْنِ عَلى الآخَرِ مُطْلَقًا وفِيهِ النِّزاعُ، ورُدَّ بِأنَّ المُدَّعى أنَّ في مِثْلِ هَذا الكَلامِ مُقْتَضى قَواعِدِ المُعانى التَّرَقِّي مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى دُونَ العَكْسِ، أوِ التَّسْوِيَةُ، وقَدْ عُلِمَ أنَّ الحُكْمَ في الجَمْعِ المُحَلّى بِـ( ألْ ) عَلى الآحادِ، وأنَّ المُدَّعى لَيْسَ إلّا دَلالَةَ الكَلامِ عَلى أنَّ المَلَكَ المُقَرَّبَ أفْضَلُ مِن عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهَذا كافٍ في إبْطالِ القَوْلِ بِأنَّ خَواصَّ البَشَرِ أفْضَلُ مِن خَواصِّ المَلَكِ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ عَطْفَ المَلائِكَةِ عَلى المَسِيحِ بِالواوِ لا يَقْتَضِي تَرْتِيبًا، وما يُورَدُ مِنَ الأمْثِلَةِ لِكَوْنِ الثّانِي أعْلى مَرْتَبَةً مِنَ الأوَّلِ مَعارَضٌ بِأمْثِلَةٍ لا تَقْتَضِي ذَلِكَ، كَقَوْلِ القائِلِ: ما أعانَنِي عَلى هَذا الأمْرِ زَيْدٌ ولا عَمْرٌو، وكَقَوْلِكَ: لا تُؤْذِ مُسْلِمًا ولا ذِمِّيًّا، بَلْ لَوْ عَكَسْتَ في هَذا المِثالِ وجَعَلْتَ الأعْلى ثانِيًا لَخَرَجْتَ عَنْ حَدِّ الكَلامِ وقانُونِ البَلاغَةِ، كَما قالَ في الِانْتِصافِ، ثُمَّ قالَ فِيهِ: ولَكِنَّ الحَقَّ أوْلى مِنَ المُرادِ، ولَيْسَ بَيْنَ المِثالَيْنِ تَعارُضٌ. ونَحْنُ نُمَهِّدُ تَمْهِيدًا بِرَفْعِ اللَّبْسِ، وبِكَشْفِ الغِطاءِ، فَنَقُولُ: النُّكْتَةُ في التَّرْتِيبِ في المِثالَيْنِ المَوْهُومِ تَعارُضُهُما واحِدَةٌ، وهي تُوجِبُ في مَواضِعَ تَقْدِيمَ الأعْلى وفي مَواضِعَ تَأْخِيرَهُ، وتِلْكَ النُّكْتَةُ أنَّ مُقْتَضى البَلاغَةِ التَّنائِي عَنِ التَّكْرارِ، والسَّلامَةُ عَنِ النُّزُولِ، فَإذا اعْتَمَدْتَ ذَلِكَ فَهْمًا أدّى إلى أنْ يَكُونَ آخِرُ كَلامِكَ نُزُولًا بِالنِّسْبَةِ إلى أوَّلِهِ، أوْ يَكُونَ الآخِرُ مُنْدَرِجًا في الأوَّلِ قَدْ أفادَهُ، وأنْتَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الآخِرِ، فاعْدِلْ عَنْ ذَلِكَ إلى ما يَكُونُ تَرَقِّيًا مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى، واسْتِئْنافًا لِفائِدَةٍ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْها الأوَّلُ، مِثالُهُ الآيَةُ المَذْكُورَةُ، فَإنَّكَ لَوْ ذَهَبْتَ فِيها إلى أنْ يَكُونَ المَسِيحُ أفْضَلَ مِنَ المَلائِكَةِ وأعْلى رُتْبَةً لَكانَ ذِكْرُ المَلائِكَةِ بَعْدَهُ كالمُسْتَغْنى عَنْهُ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ الأفْضَلُ وهو المَسِيحُ - عَلى هَذا التَّقْدِيرِ - عَبْدًا غَيْرَ مُسْتَنْكِفٍ مِنَ العُبُودِيَّةِ لَزِمَ مِن ذَلِكَ أنْ ما دُونَهُ في الفَضِيلَةِ أوْلى أنْ لا يَسْتَنْكِفَ عَنْ كَوْنِهِ عَبْدًا لِلَّهِ تَعالى، وهُمُ المَلائِكَةُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ، فَلَمْ يَتَجَدَّدْ إذَنْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ﴾ إلّا ما سَلَفَ أوَّلَ الكَلامِ، وإذا قَدَّرْتَ المَسِيحَ مَفْضُولًا بِالنِّسْبَةِ إلى المَلائِكَةِ فَكَأنَّكَ تَرَقَّيْتَ مِن تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى بِأنَّ المَفْضُولَ لا يَسْتَنْكِفُ عَنْ كَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ تَعالى إلى أنَّ الأفْضَلَ لا يَسْتَنْكِفُ عَنْ ذَلِكَ، ولَيْسَ (p-40)يَلْزَمُ مِن عَدَمِ اسْتِنْكافِ المَفْضُولِ عَدَمُ اسْتِنْكافِ الأفْضَلِ، فالحاجَةُ داعِيَةٌ إلى ذِكْرِ المَلائِكَةِ؛ إذْ لَمْ يَسْتَلْزِمِ الأوَّلُ الآخِرَ، فَصارَ الكَلامُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ مُتَجَدِّدَ الفائِدَةِ مُتَزائِدَها، ومَتّى كانَ كَذَلِكَ تَعَيَّنَ أنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الكِتابُ العَزِيزُ؛ لِأنَّهُ الغايَةُ في البَلاغَةِ. وبِهَذِهِ النُّكْتَةِ يَجِبُ أنْ تَقُولَ: لا تُؤْذِ مُسْلِمًا ولا ذِمِّيًّا، فَتُؤَخِّرَ الأدْنى عَلى عَكْسِ التَّرْتِيبِ في الآيَةِ؛ لِأنَّكَ إذا نَهَيْتَهُ عَنْ أذى المُسْلِمِ، فَقَدْ يُقالُ: ذاكَ مِن خَواصِّهِ احْتِرامًا لِدِينِ الإسْلامِ، فَلا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ أذى الكافِرِ المَسْلُوبَةِ عَنْهُ هَذِهِ الخُصُوصِيَّةُ، فَإذا قُلْتَ: ولا ذِمِّيًّا فَقَدْ جَدَّدْتَ فائِدَةً لَمْ تَكُنْ في الأوَّلِ، وتَرَقَّيْتَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَعْضِ أنْواعِ الأذى إلى النَّهْيِ عَنْ أكْثَرَ مِنهُ، ولَوْ رَتَّبْتَ هَذا المِثالَ كَتَرْتِيبِ الآيَةِ فَقُلْتَ: لا تُؤْذِ ذِمِّيًّا فَهِمَ المَنهِيُّ أنَّ أذى المُسْلِمِ أدْخَلَ في النَّهْيِ، إذْ يُساوِي الذَّمِّيَّ في سَبَبِ الِالتِزامِ - وهو الإنْسانِيَّةُ مَثَلًا - ويَمْتازُ عَنْهُ بِسَبَبٍ هو أجَلُّ وأعْظَمُ وهو الإسْلامُ، فَيُقْنِعُهُ هَذا النَّهْيُ عَنْ تَجْدِيدِ نَهْيٍ آخَرَ عَنْ أذى المُسْلِمِ، فَإنْ قُلْتَ: ولا مُسْلِمًا لَمْ تُجَدِّدْ لَهُ فائِدَةً، ولَمْ تُعْلِمْهُ غَيْرَ ما أعْلَمْتَهُ أوَّلًا، فَقَدْ عَلِمْتَ أنَّها نُكْتَةٌ واحِدَةٌ تُوجِبُ أحْيانًا تَقْدِيمَ الأعْلى وأحْيانًا تَأْخِيرَهُ، ولا يُمَيِّزُ لَكَ ذَلِكَ إلّا السِّياقُ، وما أشُكُّ أنَّ سِياقَ الآيَةِ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الأدْنى وتَأْخِيرَ الأعْلى. ومِنَ البَلاغَةِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى هَذِهِ النُّكْتَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ﴾ اسْتِغْناءً عَنْ نَهْيِهِ عَنْ ضَرْبِهِما فَما فَوْقَهُ بِتَقْدِيمِ الأدْنى، ولَمْ يَلِقْ بِبَلاغَةِ الكِتابِ العَزِيزِ أنْ يُرِيدَ نَهْيًا عَنْ أعْلى مِنَ التَّأْفِيفِ والِانْتِهارِ؛ لِأنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وما يَحْتاجُ المُتَدَبِّرُ لِآياتِ القُرْآنِ مَعَ التَّأْيِيدِ شاهِدًا سِواها، ولَمّا اقْتَضى الإنْصافُ تَسْلِيمَ اقْتِضاءِ الآيَةِ لِتَفْضِيلِ المَلائِكَةِ، وكانَ القَوْلُ بِتَفْضِيلِ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - اعْتِقادًا لِأكْثَرِ أهْلِ السُّنَّةِ والشِّيعَةِ التُزِمَ حَمْلُ التَّفْضِيلِ في الآيَةِ عَلى غَيْرِ مَحَلِّ الخِلافِ، وذَلِكَ تَفْضِيلُ المَلائِكَةِ في القُوَّةِ، وشِدَّةِ البَطْشِ، وسَعَةِ التَّمَكُّنِ والِاقْتِدارِ. وهَذا النَّوْعُ مِنَ الفَضِيلَةِ هو المُناسِبُ لِسِياقِ الآيَةِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ الرَّدُّ عَلى النَّصارى في اعْتِقادِهِمْ أُلُوهِيَّةَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مُسْتَنِدِينَ إلى كَوْنِهِ أحْيا المَوْتى، وأبْرَأ الأكْمَهَ والأبْرَصَ، وصَدَرَتْ عَلى يَدَيْهِ آثارٌ عَظِيمَةٌ خارِقَةٌ، فَناسَبَ ذَلِكَ أنْ يُقالَ: هَذا الَّذِي صَدَرَتْ عَلى يَدَيْهِ هَذِهِ الخَوارِقُ لا يَسْتَنْكِفُ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، بَلْ مَن هو أكْثَرُ خَوارِقًا وأظْهَرُ آثارًا كالمَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ الَّذِينَ مِن جُمْلَتِهِمْ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وقَدْ بَلَغَ مِن قُوَّتِهِ وإقْدارِ اللَّهِ تَعالى لَهُ أنِ اقْتَلَعَ المَدائِنَ واحْتَمَلَها عَلى رِيشَةٍ مِن جَناحِهِ فَقَلَبَها عالِيَها سافِلَها، فَيَكُونُ تَفْضِيلُ المَلائِكَةِ إذَنْ بِهَذا الِاعْتِبارِ، ولا خِلافَ في أنَّهم أقْوى وأبْطِشُ، وأنَّ خَوارِقَهم أكْثَرُ، وإنَّما الخِلافُ في التَّفْضِيلِ بِاعْتِبارِ مَزِيدِ الثَّوابِ والكَراماتِ ورَفْعِ الدَّرَجاتِ في دارَ الجَزاءِ، ولَيْسَ في الآيَةِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وقَدْ يُقالُ: لَمّا كانَ أكْثَرُ ما لُبِّسَ عَلى النَّصارى في أُلُوهِيَّةِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَوْنَهُ مَوْجُودًا مِن غَيْرِ أبٍ أنْبَأ اللَّهَ تَعالى أنَّ هَذا المَوْجُودَ مِن غَيْرِ أبٍ لا يَسْتَنْكِفُ مِن عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، ولا المَلائِكَةُ المَوْجُودُونَ مِن غَيْرِ أبٍ ولا أُمٍّ فَيَكُونُ تَأْخِيرُ ذِكْرِهِمْ لِأنَّ خَلْقَهم أغْرَبُ مِن خَلْقِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ويَشْهَدُ لِذَلِكَ أنَّ اللَّهَ تَعالى نَظَرَ عِيسى بِآدَمَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - فَنَظَرَ الغَرِيبَ بِالأغْرَبِ، وشَبَّهَ العَجِيبَ مِن آثارِ قُدْرَتِهِ بِالأعْجَبِ، إذْ عِيسى مَخْلُوقٌ مِن آدَمَ - عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ - وآدَمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن غَيْرِ أبٍ ولا أُمٍّ، ولِذَلِكَ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ومَدارُ هَذا البَحْثِ عَلى النُّكْتَةِ الَّتِي أُشِيرَ إلَيْها، فَمَتى اسْتَقامَ اشْتِمالُ المَذْكُورِ ثانِيًا عَلى فائِدَةٍ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْها الأوَّلُ بَأيِّ طَرِيقٍ كانَ مِن تَفْضِيلٍ أوْ غَيْرِهِ مِنَ الفَوائِدِ فَقَدْ طابَقَ صِيغَةَ الآيَةِ، انْتَهى. (p-41)وبِالجُمْلَةِ المَسْألَةُ سَمْعِيَّةٌ، وتَفْصِيلُ الأدِلَّةِ والمَذاهِبِ فِيها حَشْوُ الكُتُبِ الكَلامِيَّةِ، والقِطْعُ مَنُوطٌ بِالنَّصِّ الَّذِي لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا ووُجُودُهُ عَسِرٌ. وقَدْ ذَكَرَ الآمِدِيُّ في أبْكارِ الأفْكارِ بَعْدَ بَسْطِ كَلامٍ ونَقْضٍ وإبْرامٍ أنَّ هَذِهِ المَسْألَةَ ظَنِّيَّةٌ لا حَظَّ لِلْقَطْعِ فِيها نَفْيًا وإثْباتًا، ومَدارُها عَلى الأدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ دُونَ الأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ. وقالَ أفْضَلُ المُعاصِرِينَ صالِحٌ أفَنْدِي المَوْصِلِيُّ - تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ - في تَعْلِيقاتِهِ عَلى البَيْضاوِيِّ: الأوْلى عِنْدِي التَّوَقُّفُ في هَذِهِ المَسْألَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِ نَبِيِّنا - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - إذْ لا قَطْعَ يَدُلُّ عَلى الحُكْمِ فِيها، ولَيْسَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ ما كُلِّفْنا بِهِ، والبابُ ذُو خَطَرٍ لا يَنْبَغِي المُجازَفَةُ فِيهِ، فالوَقْفُ أسْلَمُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. ﴿ومَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ أيْ: طاعَتِهِ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الكَفَرَةِ لِعَدَمِ طاعَتِهِمْ لَهُ تَعالى، وإنَّما جُعِلَ المُسْتَنْكَفُ عَنْهُ ها هُنا عِبادَتُهُ تَعالى لا ما سَبَقَ كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ لِتَعْلِيقِ الوَعِيدِ بِالوَصْفِ الظّاهِرِ الثُّبُوتِ لِلْكَفَرَةِ، فَإنَّ عَدَمَ طاعَتِهِمْ لَهُ تَعالى مِمّا لا سَبِيلَ لَهم إلى إنْكارِ اتِّصافِهِمْ بِهِ، وعَبَّرَ سُبْحانَهُ عَنْ عَدَمِ طاعَتِهِمْ لَهُ بِالِاسْتِنْكافِ مَعَ أنَّ ذَلِكَ كانَ مِنهم بِطَرِيقِ إنْكارٍ كَوْنَ الأمْرِ مِن جِهَتِهِ تَعالى لا بِطَرِيقِ الِاسْتِنْكافِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ طاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وهَذا هو الِاسْتِنْكافُ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ تَعالى، إذْ لا أمْرَ لَهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - سِوى أمْرِهِ عَزَّ وجَلَّ ( ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾ ). وقِيلَ: التَّعْبِيرُ بِالِاسْتِنْكافِ مِن بابِ المُشاكَلَةِ ﴿ويَسْتَكْبِرْ﴾ أيْ: عَنْ ذَلِكَ، وأصْلُ الِاسْتِكْبارِ طَلَبُ الكِبْرِ مِن غَيْرِ اسْتِحْقاقٍ، لا بِمَعْنى طَلَبِ تَحْصِيلِهِ مَعَ اعْتِقادِ عَدَمِ حُصُولِهِ، بَلْ بِمَعْنى عَدِّ نَفْسِهِ كَبِيرًا واعْتِقادِهِ كَذَلِكَ، وإنَّما عُبِّرَ عَنْهُ بِما يَدُلُّ عَلى الطَّلَبِ لِلْإيذانِ بِأنَّ مَآلَهُ مَحْضُ الطَّلَبِ بِدُونِ حُصُولِ المَطْلُوبِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ - عَلى ما قِيلَ - قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَها عِوَجًا﴾ والِاسْتِكْبارُ - عَلى ما أشارَ إلَيْهِ الزَّجّاجُ وتَقَدَّمَ - دُونَ الِاسْتِنْكافِ، وجاءَ في الحَدِيثِ عَنْهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ –: ««لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةٌ؟ قالَ: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النّاسِ»». ولِلنّاسِ في تَأْوِيلِ الحَدِيثِ أقْوالٌ ذَكَرَها الإمامُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ مِنها: أنَّ المُرادَ بِالكِبْرِ المانِعِ مِن دُخُولِ الجَنَّةِ هو التَّكَبُّرُ عَلى الإيمانِ، واخْتارَهُ مَوْلانا أفْضَلُ المُعاصِرِينَ، ثُمَّ قالَ: وعَلَيْهِ فالمَنفِيُّ أصْلُ الدُّخُولِ كَما هو الظّاهِرُ المُتَبادَرُ، وتَنْكِيرُ الكِبْرِ لِلنَّوْعِيَّةِ، والمُعَرَّفُ في آخِرِ الحَدِيثِ هو جِنْسُ الكِبْرِ لا هَذا النَّوْعُ بِخُصُوصِهِ، وإنْ كانَ الغالِبُ في إعادَةِ النَّكِرَةِ مَعْرِفَةً إرادَةَ عَيْنِ الأوَّلِ، وإنَّما خَصَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - حُكْمَ ذَلِكَ النَّوْعِ بِالبَيانِ لِيَكُونَ أبْلَغَ في الزَّجْرِ عَنِ الكِبْرِ، فَإنَّ جِنْسًا يَبْلُغُ بَعْضُ أنْواعِهِ بِصاحِبِهِ مِن وخامَةِ العاقِبَةِ وسُوءِ المَغَبَّةِ هَذا المَبْلَغَ - أعْنِي الشَّقاءَ المُؤَبَّدَ - جَدِيرٌ بِأنْ يُحْتَرَزَ عَنْهُ غايَةَ الِاحْتِرازِ، ثُمَّ عَرَّفَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - الكِبْرَ بِما عَرَّفَهُ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ انْحِصارُ ُالكِبْرِ المَذْمُومِ في النَّوْعِ المَذْكُورِ. وبِهَذا التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ اسْتِبْعادُ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - لِهَذا التَّأْوِيلِ بِأنَّ الحَدِيثَ ورَدَ في سِياقِ الزَّجْرِ عَنِ الكِبْرِ المَعْرُوفِ، وهو إنْكارُ الحَقِّ واحْتِقارُ النّاسِ، فَحَمْلُ الكِبْرِ عَلى ذَلِكَ خاصَّةً خُرُوجٌ عَنْ مَذاقِ الكَلامِ، ووَجْهُ انْدِفاعِهِ غَيْرُ خَفِيٍّ عَلى ذَوِي الأفْهامِ، انْتَهى، والظّاهِرُ أنَّ ما في الحَدِيثِ تَعْرِيفٌ بِاللّازِمِ لِلْمَعْنى اللُّغَوِيِّ. ﴿فَسَيَحْشُرُهم إلَيْهِ جَمِيعًا﴾ أيِ المُسْتَنْكِفِينَ ومُقابِلِيهِمُ المَدْلُولَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ عَدَمِ اسْتِنْكافِ المَسِيحِ والمَلائِكَةِ (p-42)المُقَرَّبِينَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - وقَدْ تُرِكَ ذِكْرُ أحَدِ الفَرِيقَيْنِ في المُفَصَّلِ تَعْوِيلًا عَلى إنْباءِ التَّفْصِيلِ عَنْهُ، وثِقَةً بِظُهُورِ اقْتِضاءِ حَشْرِ أحَدِهِما لِحَشْرِ الآخَرِ ضَرُورَةَ عُمُومِ الحَشْرِ لِلْخَلائِقِ أجْمَعِينَ، كَما تُرِكَ ذِكْرُ أحَدِ الفَرِيقَيْنِ في التَّفْصِيلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ واعْتَصَمُوا بِهِ﴾ مَعَ عُمُومِ الخِطابِ لَهُما ثِقَةً بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلا يُقالُ: التَّفْصِيلُ غَيْرُ مُطابِقٍ لِلْمُفَصَّلِ؛ لِأنَّهُ اشْتَمَلَ عَلى الفَرِيقَيْنِ والمُفَصَّلُ عَلى فَرِيقٍ واحِدٍ. وقِيلَ في تَوْجِيهِ المُطابَقَةِ: إنَّ المَقْصُودَ مِنَ الحَشْرِ المُجازاةُ، ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب