﴿یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُوا۟ فِی دِینِكُمۡ وَلَا تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥۤ أَلۡقَىٰهَاۤ إِلَىٰ مَرۡیَمَ وَرُوحࣱ مِّنۡهُۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُوا۟ ثَلَـٰثَةٌۚ ٱنتَهُوا۟ خَیۡرࣰا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱۖ سُبۡحَـٰنَهُۥۤ أَن یَكُونَ لَهُۥ وَلَدࣱۘ لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِیلࣰا﴾ [النساء ١٧١]
﴿يا أهْلَ الكِتابِ﴾ تَجْرِيدٌ لِلْخِطابِ وتَخْصِيصٌ لَهُ بِالنَّصارى زَجْرًا لَهم عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ البَعِيدِ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ، وأبُو مُسْلِمٍ، وجَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وعَنِ الحَسَنِ: أنَّهُ خِطابٌ لَهم ولِلْيَهُودِ؛ لِأنَّ الغُلُوَّ أيْ: مُجاوَزَةَ الحَدِّ والإفْراطَ المَنهِيَّ عَنْهُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ﴾ وقَعَ مِنهم جَمِيعًا، أمّا النَّصارى فَقالَ بَعْضُهُمْ: عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ابْنُ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - وبَعْضُهم أنَّهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ، وآخَرُونَ: ثالِثٌ ثَلاثَةٍ، وأمّا اليَهُودُ فَقالُوا: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وُلِدَ لِغَيْرِ رُشْدِهِ، ورُجِّحَ ما عَلَيْهِ الجَماعَةُ بِأنَّ قَوْلَ اليَهُودِ قَدْ نُعِيَ فِيما سَبَقَ وبِأنَّهُ أوْفَقُ بِما بَعْدُ.
﴿ولا تَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلا الحَقَّ﴾ أيْ: لا تَذْكُرُوا ولا تَعْتَقِدُوا إلّا القَوْلَ الحَقَّ دُونَ القَوْلِ المُتَضَمِّنِ لِدَعْوى الِاتِّحادِ والحُلُولِ واتِّخاذِ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ، والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ، وهو مُتَّصِلٌ عِنْدَ الأكْثَرِينَ.
وادَّعى بَعْضٌ أنَّ المُرادَ مِنَ الحَقِّ هُنا تَنْزِيهُهُ تَعالى عَنِ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ، والأشْبَهُ بِالِاسْتِثْناءِ الِانْقِطاعُ؛ لِأنَّ التَّنْزِيهَ لا يَكُونُ مَقُولًا عَلَيْهِ، بَلْ لَهُ وفِيهِ؛ لِأنَّ مَعْنى ( قالَ عَلَيْهِ ) افْتَرى، وهو مُخالِفٌ لِما عَلَيْهِ الأكْثَرُ في الِاسْتِثْناءِ المُفْرِغِ، فافْهَمْ.
﴿إنَّما المَسِيحُ﴾ بِالتَّخْفِيفِ وقَدْ مَرَّ مَعْناهُ، وقُرِئَ ( المِسِّيحُ ) بِكَسْرِ المِيمِ وتَشْدِيدِ السِّينِ كالسِّكِّيتِ، وهو مُبْتَدَأٌ، وقَوْلُهُ تَعالى: (
﴿عِيسى﴾ ) بَدَلٌ مِنهُ أوْ عَطْفُ بَيانٍ لَهُ، كَما قالَ أبُو البَقاءِ وغَيْرُهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: (
﴿ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ) صِفَةٌ لَهُ مُفِيدَةٌ بُطْلانَ ما زَعَمُوهُ فِيهِ مِن بُنُوَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَهُ - عَزَّ وجَلَّ - وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: (
﴿رَسُولُ اللَّهِ﴾ ) خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ عَنِ القَوْلِ الباطِلِ المُسْتَلْزِمِ لِلْأمْرِ بِضِدِّهِ، أيْ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَقْصُورٌ عَلى رُتْبَةِ الرِّسالَةِ لا يَتَخَطّاها إلى ما تَقُولُونَ، (
﴿وكَلِمَتُهُ﴾ ) عَطْفٌ عَلى ( رَسُولُ اللَّهِ ) ومَعْنى كَوْنِهِ كَلِمَةً أنَّهُ حَصَلَ بِكَلِمَةِ ( كُنْ ) مِن غَيْرِ مادَّةٍ مُعْتادَةٍ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الحَسَنُ وقَتادَةُ.
وقالَ الغَزالِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ: لِكُلِّ مَوْلُودٍ سَبَبٌ قَرِيبٌ وبَعِيدٌ، فالأوَّلُ المَنِيُّ، والثّانِي قَوْلُ ( كُنْ ) ولَمّا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى عَدَمِ القَرِيبِ في حَقِّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أضافَهُ إلى البَعِيدِ، وهو قَوْلُ ( كُنْ ) إشارَةً إلى انْتِفاءِ القَرِيبِ، وأوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿ألْقاها إلى مَرْيَمَ﴾ أيْ: أوْصَلَها إلَيْها، وحَصَّلَها فِيها، فَجَعَلَهُ كالمَنِيِّ الَّذِي يُلْقى في الرَّحِمِ، فَهو اسْتِعارَةٌ، وقِيلَ: مَعْناهُ أنَّهُ يُهْتَدى بِهِ كَما يُهْتَدى بِكَلامِ اللَّهِ تَعالى، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ، وقِيلَ: مَعْناهُ بِشارَةُ اللَّهِ تَعالى الَّتِي بَشَّرَ بِها مَرْيَمَ - عَلَيْها السَّلامُ - عَلى لِسانِ المَلائِكَةِ، كَما قالَ سُبْحانَهُ:
﴿إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ﴾ وجُمْلَةُ (
﴿ألْقاها﴾ ) حالٌ عَلى ما قِيلَ مِنَ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ في ( كَلِمَتُهُ ) بِتَقْدِيرِ قَدْ، والعامِلُ فِيها مَعْنى الإضافَةِ، والتَّقْدِيرُ: وكَلِمَتُهُ مُلْقِيًا إيّاها، وقِيلَ: حالٌ مِن ضَمِيرِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - المُسْتَكِنِّ فِيما دَلَّ عَلَيْهِ (
﴿وكَلِمَتُهُ﴾ ) مِن مَعْنى المُشْتَقِّ الَّذِي هو العامِلُ فِيها، وقِيلَ: حالٌ مِن فاعِلِ ( كانَ ) مَقُدَّرَةً مَعَ إذِ المُتَعَلِّقَةِ بِالكَلِمَةِ بِاعْتِبارِ أنَّ المُرادَ بِها المُكَوَّنُ، والتَّقْدِيرُ: إذْ كانَ (
﴿ألْقاها إلى مَرْيَمَ﴾ ).
﴿ورُوحٌ مِنهُ﴾ عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، وسُمِّيَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - رُوحًا؛ لِأنَّهُ حَدَثَ عَنْ نَفْخَةِ جِبْرائِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في دِرْعِ مَرْيَمَ - عَلَيْها السَّلامُ - بِأمْرِهِ سُبْحانَهُ، وجاءَ تَسْمِيَةُ النَّفْخِ رُوحًا في كَلامِهِمْ ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ في نارٍ:
وأحْيِها بِرُوحِكَ.
و( مِن) مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِـ( رُوحٌ ) وهي لِابْتِداءِ الغايَةِ مَجازًا لا تَبْعِيضِيَّةٌ كَما زَعَمَتِ النَّصارى.
يُحْكى أنَّ طَبِيبًا نَصْرانِيًّا حاذِقًا لِلرَّشِيدِ ناظَرَ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ الواقِدِيَّ المَرْوَزِيَّ ذاتَ يَوْمٍ فَقالَ لَهُ: إنَّ في كِتابِكم ما يَدُلُّ عَلى أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - جُزْءٌ مِنهُ تَعالى، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ، فَقَرَأ الواقِدِيُّ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿وسَخَّرَ لَكم ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ جَمِيعًا مِنهُ﴾ فَقالَ: إذَنْ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ جَمِيعُ الأشْياءِ جُزْءًا مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عُلُوًّا كَبِيرًا، فانْقَطَعَ النَّصْرانِيُّ، فَأسْلَمَ، وفَرِحَ الرَّشِيدُ فَرَحًا شَدِيدًا، ووَصَلَ الواقِدِيَّ بِصِلَةٍ فاخِرَةٍ.
وقِيلَ: سُمِّيَ رُوحًا؛ لَأنَّ النّاسَ يَحْيَوْنَ بِهِ كَما يَحْيَوْنَ بِالأرْواحِ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الجُبّائِيُّ، وقِيلَ: الرُّوحُ هُنا بِمَعْنى الرَّحْمَةِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ﴾ عَلى وجْهٍ، وقِيلَ: أُرِيدَ بِالرُّوحِ الوَحْيُ الَّذِي أُوحِيَ إلى مَرْيَمَ - عَلَيْها السَّلامُ – بِالبِشارَةِ، وقِيلَ: جَرَتِ العادَةُ بِأنَّهم إذا أرادُوا وصْفَ شَيْءٍ بِغايَةِ الطَّهارَةِ والنَّظافَةِ قالُوا: إنَّهُ رُوحٌ، فَلَمّا كانَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مُتَكَوِّنًا مِنَ النَّفْخِ لا مِنَ النُّطْفَةِ وُصِفَ بِالرُّوحِ، وقِيلَ: أُرِيدَ بِالرُّوحِ السِّرُّ، كَما يُقالُ: رُوحُ هَذِهِ المَسْألَةِ كَذا، أيْ: أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - سِرٌّ مِن أسْرارِ اللَّهِ تَعالى، وآيَةٌ مِن آياتِهِ سُبْحانَهُ، وقِيلَ: المُرادُ ذُو رُوحٍ عَلى حَذْفِ المُضافِ أوِ اسْتِعْمالِ الرُّوحِ في مَعْنى ذِي الرُّوحِ، والإضافَةُ إلى اللَّهِ تَعالى لِلتَّشْرِيفِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ ما في التَّوْراةِ: إنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - رَجُلُ اللَّهِ، وعَصاهُ قَضِيبُ اللَّهِ، وأُورْشَلِيمُ بَيْتُ اللَّهِ.
وقِيلَ: المُرادُ مِنَ الرُّوحِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والعَطْفُ عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في (
﴿ألْقاها﴾ ) والمَعْنى: ألْقاها اللَّهُ تَعالى وجِبْرِيلَ إلى مَرْيَمَ، ولا يَخْفى بُعْدُهُ.
وعَلى العِلّاتِ لا حُجَّةَ لِلنَّصارى عَلى شَيْءٍ مِمّا زَعَمُوا في تَشْرِيفِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِنِسْبَةِ الرُّوحِ إلَيْهِ؛ إذْ لِغَيْرِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مُشارَكَةٌ لَهُ في ذَلِكَ، فَفي إنْجِيلِ لُوقا: قالَ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ: إنَّ أباكُمُ السَّماوِيَّ يُعْطِي رُوحَ القُدُسِ الَّذِينَ يَسْألُونَهُ، وفي إنْجِيلِ مَتّى: إنَّ يُوحَنّا المَعْمَدانِيَّ امْتَلَأ مِن رُوحِ القُدُسِ وهو في بَطْنِ أُمِّهِ، وفي التَّوْراةِ: قالَ اللَّهُ تَعالى لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - اخْتَرْ سَبْعِينَ مِن قَوْمِكَ حَتّى أُفِيضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرُّوحِ الَّتِي عَلَيْكَ، فَيَحْمِلُوا عَنْكَ ثِقَلَ هَذا النَّعْتِ، فَفَعَلَ، فَأفاضَ عَلَيْهِمْ مِن رُوحِهِ فَتَبَنُّوا لِساعَتِهِمْ، وفِيها في حَقِّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: يَقُولُ المَلِكُ: هَلْ رَأيْتُمْ مِثْلَ هَذا الفَتى الَّذِي رُوحَ اللَّهِ تَعالى عَزَّ وجَلَّ حالٌ فِيهِ، وفِيها أيْضًا: إنَّ رُوحَ اللَّهِ تَعالى حَلَّتْ عَلى دانْيالَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ.
ولَعَلَّ الرُّوحَ في جَمِيعِ ذَلِكَ أمْرٌ قُدْسِيٌّ وسِرٌّ إلَهِيٌّ، يُفِيضُهُ اللَّهُ تَعالى عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ حَسْبَما يَشاءُ، وفي أيِّ وقْتٍ يَشاءُ، وإطْلاقُ ذَلِكَ عَلى عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن بابِ المُبالَغَةِ، عَلى حَدِّ ما قِيلَ فِي: ( زَيْدٌ عَدْلٌ ) ولَيْسَ المُرادُ بِهِ الرُّوحَ الَّذِي بِهِ الحَياةُ أصْلًا، وقَدْ يَظْهَرُ ذَلِكَ بِصُورَةٍ كَما يَظْهَرُ القُرْآنُ بِصُورَةِ الرَّجُلِ الشّاحِبِ، والمَوْتُ بِصُورَةِ الكَبْشِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ في الجُمْلَةِ ما في إنْجِيلِ مَتّى في تَمامِ الكَلامِ عَلى تَعْمِيدِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: إنَّ يَسُوعَ لَمّا تَعَمَّدَ، وخَرَجَ مِنَ الماءِ انْفَتَحَتْ لَهُ أبْوابُ السَّماءِ، ونَظَرَ، رُوحُ اللَّهِ تَعالى جاءَتْ لَهُ في صِفَةِ حَمامَةٍ، وإذا بِصَوْتٍ مِنَ السَّماءِ: هَذا ابْنُ الحَبِيبِ الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، فَإنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَهْدِمُ ما يَزْعُمُهُ النَّصارى مِن أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - تَجَسَّدَ بِرُوحِ القُدُسِ في بَطْنِ أُمِّهِ، وما فِيهِ مِن وصْفِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِالنُّبُوَّةِ سَيَأْتِي - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - الجَوابُ عَنْهُ.
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ﴾ وخُصُّوهُ بِالأُلُوهِيَّةِ
﴿ورُسُلِهِ﴾ أجْمَعِينَ، ولا تُخْرِجُوا أحَدًا مِنهم إلى ما يَسْتَحِيلُ وصْفُهُ بِهِ مِنَ الأُلُوهِيَّةِ
﴿ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ﴾ أيِ: الآلِهَةُ ثَلاثَةٌ: اللَّهُ سُبْحانَهُ، والمَسِيحُ، ومَرْيَمُ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ إذْ مَعْناهُ إلَهَيْنِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى، فَيَكُونُونَ مَعَهُ ثَلاثَةً، وحُكِيَ هَذا التَّقْدِيرُ عَنِ الزَّجّاجِ.
أوِ اللَّهُ سُبْحانَهُ ثَلاثَةٌ - إنْ صَحَّ عَنْهم - أنَّهم يَقُولُونَ: اللَّهُ تَعالى جَوْهَرٌ واحِدٌ َثَلاثَةُ أقانِيمَ، أُقْنُومُ الأبِ، وأُقْنُومُ الِابْنِ، وأُقْنُومُ رُوحِ القُدُسِ، وأنَّهم يُرِيدُونَ بِالأوَّلِ الذّاتَ أوِ الوُجُودَ، وبِالثّانِي العِلْمَ أيِ الكَلِمَةَ، وبِالثّالِثِ الحَياةَ، كَذا قِيلَ.
وتَحْقِيقُ الكَلامِ في هَذا المَقامِ عَلى ما ذَكَرَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ النَّصارى اتَّفَقُوا عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى جَوْهَرٌ بِمَعْنى: قائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ ولا مُخْتَصٍّ بِجِهَةٍ، ولا مُقَدَّرٍ بِقَدْرٍ، ولا يَقْبَلُ الحَوادِثَ بِذاتِهِ، ولا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ الحُدُوثُ والعَدَمُ، وأنَّهُ واحِدٌ بِالجَوْهَرِيَّةِ ثَلاثَةٌ بِالأُقْنُومِيَّةِ، والأقانِيمُ صِفاتٌ لِلْجَوْهَرِ القَدِيمِ، وهي الوُجُودُ والعِلْمُ والحَياةُ، وعَبَّرُوا عَنِ الوُجُودِ بِالأبِ، والحَياةِ بِرُوحِ القُدُسِ، والعِلْمِ بِالكَلِمَةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ المَلْكانِيَّةُ أصْحابُ مَلْكا الَّذِي ظَهَرَ بِالرُّومِ واسْتَوْلى عَلَيْها إلى أنَّ الأقانِيمَ غَيْرُ الجَوْهَرِ القَدِيمِ، وأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنها إلَهٌ، وصَرَّحُوا بِإثْباتِ التَّثْلِيثِ، وقالُوا: إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ، وأنَّ الكَلِمَةَ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ المَسِيحِ، وتَدَرَّعَتْ بِناسُوتِهِ، وامْتَزَجَتْ بِهِ امْتِزاجَ الماءِ بِالخَمْرِ، وانْقَلَبَتِ الكَثْرَةُ وحْدَةً، وأنَّ المَسِيحَ ناسُوتٌ كُلِّيُّ لا جُزْئِيٌّ، وهو قَدِيمٌ أزَلِيٌّ، وأنَّ مَرْيَمَ ولَدَتْ إلَهًا أزَلِيًّا، مَعَ اخْتِلافِهِمْ في مَرْيَمَ أنَّها إنْسانٌ كُلِّيٌّ أوْ جُزْئِيٌّ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّ اتِّحادَ اللّاهُوتِ بِالمَسِيحِ دُونَ مَرْيَمَ، وأنَّ القَتْلَ والصَّلْبَ وقَعَ عَلى النّاسُوتِ واللّاهُوتِ مَعًا، وأطْلَقُوا لَفْظَ الأبِ عَلى اللَّهِ تَعالى، والِابْنِ عَلى عِيسى، عَلَيْهِ السَّلامُ.
وذَهَبَ نُسْطُورُ الحَكِيمُ - في زَمانِ المَأْمُونِ - إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى واحِدٌ، والأقانِيمَ الثَّلاثَةَ لَيْسَتْ غَيْرَ ذاتِهِ ولا نَفْسَ ذاتِهِ، وأنَّ الكَلِمَةَ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ المَسِيحِ لا بِمَعْنى الِامْتِزاجِ بَلْ بِمَعْنى الإشْراقِ، أيْ: أشْرَقَتْ عَلَيْهِ كَإشْراقِ الشَّمْسِ مِن كُوَّةٍ عَلى بِلَّوْرٍ.
ومِنَ النُّسْطُورِيَّةِ مَن قالَ: إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الأقانِيمِ الثَّلاثَةِ حَيٌّ ناطِقٌ مَوْجُودٌ، وصَرَّحُوا بِالتَّثْلِيثِ كالمَلْكانِيَّةِ، ومِنهم مِن مَنَعَ ذَلِكَ، ومِنهم مَن أثْبَتَ صِفاتٍ أُخَرَ كالقُدْرَةِ والإرادَةِ ونَحْوَها، لَكِنْ لَمْ يَجْعَلُوها أقانِيمَ، وزَعَمُوا أنَّ الِابْنَ لَمْ يَزَلْ مُتَوَلِّدًا مِنَ الأبِ، وإنَّما تَجَسُّدُهُ وتَوَحُّدُهُ بِجَسَدِ المَسِيحِ حِينَ وُلِدَ، والحُدُوثُ راجِعٌ إلى النّاسُوتِ، فالمَسِيحُ إلَهٌ تامٌّ وإنْسانٌ تامٌّ، وهُما قَدِيمٌ وحادِثٌ، والِاتِّحادُ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِقِدَمِ القَدِيمِ ولا لِحُدُوثِ الحادِثِ، وقالُوا: إنَّ الصَّلْبَ ورَدَ عَلى النّاسُوتِ دُونَ اللّاهُوتِ.
وذَهَبَ بَعْضُ اليَعْقُوبِيَّةِ إلى أنَّ الكَلِمَةَ انْقَلَبَتْ لَحْمًا ودَمًا، فَصارَ الإلَهُ هو المَسِيحَ، وقالُوا: إنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، ورَوَوْا عَنْ يُوحَنّا الإنْجِيلِيِّ أنَّهُ قالَ في صَدْرِ إنْجِيلِهِ: إنَّ الكَلِمَةَ صارَتْ جَسَدًا، وحَلَّتْ فِينا، وقالَ: في البَدْءِ كانَتِ الكَلِمَةُ، والكَلِمَةُ عِنْدَ اللَّهِ، واللَّهُ تَعالى هو الكَلِمَةُ.
ومِنهم مَن قالَ: ظَهَرَ اللّاهُوتُ بِالنّاسُوتِ، بِحَيْثُ صارَ هو هُوَ، وذَلِكَ كَظُهُورِ المَلَكِ في الصُّورَةِ المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا﴾ .
ومِنهم مَن قالَ: جَوْهَرُ الإلَهِ القَدِيمِ وجَوْهَرُ الإنْسانِ المُحْدَثِ تَرَكَّبا تَرَكُّبَ النَّفْسِ النّاطِقَةِ مَعَ البَدَنِ وصارا جَوْهَرًا واحِدًا، وهو المَسِيحُ، وهو الإلَهُ، ويَقُولُونَ: صارَ الإلَهُ إنْسانًا، وإنْ لَمْ يَصِرِ الإنْسانُ إلَهًا، كَما يُقالُ في الفَحْمَةِ المُلْقاةِ في النّارِ: صارَتْ نارًا، ولا يُقالُ: النّارُ فَحْمَةٌ.
ويَقُولُونَ: إنَّ اتِّحادَ اللّاهُوتِ بِالإنْسانِ الجُزْئِيِّ دُونَ الكُلِّيِّ، وأنَّ مَرْيَمَ ولَدَتْ إلَهًا، وأنَّ القَتْلَ والصَّلْبَ واقِعٌ عَلى اللّاهُوتِ والنّاسُوتِ جَمِيعًا؛ إذْ لَوْ كانَ عَلى أحَدِهِما بَطَلَ الِاتِّحادُ.
ومِنهم مَن قالَ: المَسِيحُ مَعَ اتِّحادِ جَوْهَرِهِ قَدِيمٌ مِن وجْهٍ، مُحْدَثٌ مَن وجْهٍ.
ومِنَ اليَعْقُوبِيَّةِ مَن قالَ: إنَّ الكَلِمَةَ لَمْ تَأْخُذْ مِن مَرْيَمَ شَيْئًا، وإنَّما مَرَّتْ بِها كَمُرُورِ الماءِ بِالمِيزابِ.
ومِنهم مَن زَعَمَ أنَّ الكَلِمَةَ كانَتْ تُداخِلُ جَسَدَ المَسِيحِ فَتَصْدُرُ عَنْهُ الآياتُ الَّتِي كانَتْ تَظْهَرُ عَنْهُ وتُفارِقُهُ تارَةً فَتُحِلُّهُ الآفاتُ والآلامُ.
ومِنَ النَّصارى مَن زَعَمَ أنَّ مَعْنى اتِّحادِ اللّاهُوتِ بِالنّاسُوتِ ظُهُورُ اللّاهُوتِ عَلى النّاسُوتِ، وإنْ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنَ اللّاهُوتِ إلى النّاسُوتِ شَيْءٌ ولا حَلَّ فِيهِ، وذَلِكَ كَظُهُورِ نَقْشِ الطّابَعِ عَلى الشَّمْعِ والصُّورَةِ المَرْئِيَّةِ في المِرْآةِ.
ومِنهم مَن قالَ: إنَّ الوُجُودَ والكَلِمَةَ قَدِيمانِ والحَياةَ مَخْلُوقَةٌ.
ومِنهم مَن قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى واحِدٌ، وسَمّاهُ أبًا، وأنَّ المَسِيحَ كَلِمَةُ اللَّهِ تَعالى وابْنُهُ عَلى طَرِيقِ الِاصْطِفاءِ، وهو مَخْلُوقٌ قَبْلَ العالَمِ، وهو خالِقٌ لِلْأشْياءِ كُلِّها.
وحَكى المُؤَرِّخُونَ وأصْحابُ النَّقْلِ أنَّ أرَيُوسَ أحَدَ كِبارِ النَّصارى كانَ يَعْتَقِدُ هو وطائِفَتُهُ تَوْحِيدَ البارِي، ولا يُشْرِكُ مَعَهُ غَيْرَهُ، ولا يَرى في المَسِيحِ ما يَراهُ النَّصارى، بَلْ يَعْتَقِدُ رِسالَتَهُ، وأنَّهُ مَخْلُوقٌ بِجِسْمِهِ ورُوحِهِ، فَفَشَتْ مَقالَتُهُ في النَّصْرانِيَّةِ، فَتَكاتَبُوا واجْتَمَعُوا بِمَدِينَةِ نِيقِيَةَ عِنْدَ المَلِكِ قُسْطَنْطِينَ، وتَناظَرُوا فَشَرَحَ أرَيُوسُ مَقالَتَهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الإكْصَيْدُرُوسُ بِطْرِيقُ الإسْكَنْدَرِيَّةِ وشَنَّعَ عَلى مَقالَتِهِ عِنْدَ المَلِكِ، ثُمَّ تَناظَرُوا فَطالَ تَنازُعُهُمْ، فَتَعَجَّبَ المَلِكُ مِنِ انْتِشارِ مَقالَتِهِمْ، وكَثْرَةِ اخْتِلافِهِمْ، وقامَ لَهُمُ البُتْرُكُ، وأمَرَهم أنْ يَبْحَثُوا عَنِ القَوْلِ المَرْضِيِّ، فاتَّفَقَ رَأْيُهم عَلى شَيْءٍ، فَحَرَّرُوهُ وسَمَّوْهُ بِالأمانَةِ، وأكْثَرُهُمُ اليَوْمَ عَلَيْها، وهِيَ: نُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعالى الواحِدِ الأبِ صانِعِ كَلِّ شَيْءٍ، مالِكِ كُلِّ شَيْءٍ، صانِعِ ما يُرى وما لا يُرى، وبِالرَّبِّ الواحِدِ المَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ تَعالى الواحِدِ، بِكْرِ الخَلائِقِ كُلِّها، الَّذِي وُلِدَ مِن أبِيهِ قَبْلَ العَوالِمِ كُلِّها، ولَيْسَ بِمَصْنُوعٍ، إلَهٍ حَقٍّ مِن إلَهٍ حَقٍّ، مِن جَوْهَرِ أبِيهِ، الَّذِي بِيَدِهِ أُتْقِنَتِ العَوالِمُ، وخُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ، الَّذِي مِن أجْلِنا مَعاشِرَ النّاسِ ومِن أجْلِ خَلاصِنا نَزَلَ مِنَ السَّماءِ، وتَجَسَّدَ مِن رُوحِ القُدُسِ ومَرْيَمَ، وصارَ إنْسانًا، وحُبِلَ بِهِ، ووُلِدَ مِن مَرْيَمَ البَتُولِ، واتَّجَعَ، وصُلِبَ أيّامَ فِيلاطِسَ، ودُفِنَ، وقامَ في اليَوْمِ الثّالِثِ كَما هو مَكْتُوبٌ، وصَعِدَ إلى السَّماءِ، وجَلَسَ عَلى يَمِينِ أبِيهِ، وهو مُسْتَعِدٌّ لِلْمَجِئِ تارَةً أُخْرى لِلْقَضاءِ بَيْنَ الأمْواتِ والأحْياءِ، ونُؤْمِنُ بِرُوحِ القُدُسِ الواحِدِ رُوحِ الحَقِّ، الَّذِي يَخْرُجُ مِن أبِيهِ، وبِعَمُودِيَّةٍ واحِدَةٍ لِغُفْرانِ الخَطايا، والجَماعَةُ واحِدَةٌ قُدْسِيَّةٌ كاطُولِكِيَّةٌ، وبِالحَياةِ الدّائِمَةِ إلى أبَدِ الآبِدِينَ، انْتَهى.
وهَذِهِ جُمْلَةُ الأقاوِيلِ، وما لِهَؤُلاءِ الكَفَرَةِ مِنَ الأباطِيلِ، وهي مَعَ مُخالَفَتِها لِلْعُقُولِ ومُزاحَمَتِها لِلْأُصُولِ مِمّا لا مُسْتَنَدَ لَها، ولا مُعَوَّلَ لَهم فِيها غَيْرُ التَّقْلِيدِ لِأسْلافِهِمْ، والأخْذِ بِظَواهِرِ ألْفاظٍ لا يُحِيطُونَ بِها، عَلى أنَّ ما سَمَّوْهُ أمانَةً لا أصْلَ لَهُ في شَرْعِ الإنْجِيلَ، ولا مَأْخُوذَةً مِن قَوْلِ المَسِيحِ، ولا مِن أقْوالِ تَلامِيذِهِ، وهو مَعَ ذَلِكَ مُضْطَرِبٌ مُتَناقِضٌ مُتَهافِتٌ، يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ويُعارِضُهُ، ويُناقِضُهُ، وإذْ قَدْ عَلِمَتْ ذَلِكَ فاسْتَمِعْ لِما يُتْلى عَلَيْكَ في رَدِّهِمْ تَتْمِيمًا لِلْفائِدَةِ وتَأْكِيدًا لِإبْطالِ تِلْكَ العَقائِدِ الفاسِدَةِ.
أمّا قَوْلُهُمْ: بِأنَّ اللَّهَ تَعالى جَوْهَرٌ بِالمَعْنى المَذْكُورِ فَلا نِزاعَ لَنا مَعَهم فِيهِ مِن جِهَةِ المَعْنى، بَلْ مِن جِهَةِ الإطْلاقِ اللَّفْظِيِّ سَمْعًا، والأمْرُ فِيهِ هَيِّنٌ، وأمّا حَصْرُهُمُ الأقانِيمَ في ثَلاثَةٍ؛ صِفَةِ الوُجُودِ وصِفَةِ الحَياةِ وصِفَةِ العِلْمِ فَباطِلٌ؛ لِأنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ أنَّ صِفَةَ الوُجُودِ زائِدَةٌ لَوْ طُولِبُوا بِدَلِيلِ الحَصْرِ لَمْ يَجِدُوا إلَيْهِ سَبِيلًا سِوى قَوْلِهِمْ: بَحَثْنا فَلَمْ نَجِدْ غَيْرَ ما ذَكَرْناهُ، وهو غَيْرُ يَقِينِيٍّ كَما لا يَخْفى، ثُمَّ هو باطِلٌ بِما تَحَقَّقَ في مَوْضِعِهِ مِن وُجُوبِ صِفَةِ القُدْرَةِ والإرادَةِ والسَّمْعِ والبَصَرِ والكَلامِ، فَإنْ قالُوا: الأقانِيمُ هي خَواصُّ الجَوْهَرِ وصِفاتُ نَفْسِهِ، ومِن حُكْمِها أنْ تَلْزَمَ الجَوْهَرَ ولا تَتَعَدّاهُ إلى غَيْرِهِ، وذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ في الوُجُودِ والحَياةِ إذْ لا تَعَلُّقَ لِوُجُودِ الذّاتِ القَدِيمَةِ وحَياتِها بِغَيْرِها، وكَذَلِكَ العِلْمُ إذِ العِلْمُ مُخْتَصٌّ بِالجَوْهَرِ مِن حَيْثُ هو مَعْلُومٌ بِهِ، وهَذا بِخِلافِ القُدْرَةِ والإرادَةِ، فَإنَّهُما لا اخْتِصاصَ لَهُما بِالذّاتِ القَدِيمَةِ، بَلْ يَتَعَلَّقانِ بِالغَيْرِ مِمّا هو مَقْدُورٌ ومُرادٌ، والذّاتُ القَدِيمَةُ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ ولا مُرادَةٍ، وأيْضًا فَإنَّ الحَياةَ لا تُجْزِئُ عَنِ القُدْرَةِ والإرادَةِ مِن حَيْثُ إنَّ الحَيَّ لا يَخْلُو عَنْهُما بِخِلافِ العِلْمِ، فَإنَّهُ قَدْ يَخْلُو عَنْهُ، ولِأنَّهُ يَمْتَنِعُ إجْزاءُ الحَياةِ عَنِ العِلْمِ لِاخْتِصاصِ الحَياةِ بِامْتِناعِ جَرَيانِ المُبالَغَةِ والتَّفْضِيلِ بِخِلافِ العِلْمِ قُلْنا:
أمّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الوُجُودَ والحَياةَ مُخْتَصَّةٌ بِذاتِ القَدِيمِ ولا تَعَلُّقَ لَهُما بِغَيْرِهِ فَمُسَلَّمٌ، ولَكِنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أنْ لا يَكُونَ العِلْمُ أُقْنُومًا لِتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِ ذاتِ القَدِيمِ، إذْ هو مَعْلُومٌ بِهِ، فَلَئِنْ قالُوا: العِلْمُ إنَّما كانَ أُقْنُومًا مِن حَيْثُ كانَ مُتَعَلِّقًا بِذاتِ القَدِيمِ لا مِن حَيْثُ كانَ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِهِ فَيَلْزَمُهم أنْ يَكُونَ البَصَرُ أُقْنُومًا لِتَعَلُّقِهِ بِذاتِ القَدِيمِ مِن حَيْثُ إنَّهُ يَرى نَفْسَهُ، ولَمْ يَقُولُوا بِهِ، ويَلْزَمْهم مِن ذَلِكَ أنْ يَكُونَ بَقاءُ ذاتِ اللَّهِ تَعالى أُقْنُومًا لِاخْتِصاصِ البَقاءِ بِنَفْسِهِ وعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهِ، كَما في الوُجُودِ والحَياةِ، فَلَئِنْ قالُوا: البَقاءُ هو نَفْسُ الوُجُودِ فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ المَوْجُودُ في زَمانِ حُدُوثِهِ باقِيًا، وهو مُحالٌ.
وقَوْلُهُمْ: بِأنَّ الإرادَةَ تُجْزِئُ عَنِ القُدْرَةِ والإرادَةِ، إمّا أنْ يُرِيدُوا أنَّ القُدْرَةَ والإرادَةَ نَفْسُ الحَياةِ، أوْ أنَّهُما خارِجَتانِ عَنْها لازِمَتانِ لَها لا تُفارِقانِها، فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَقَدْ نَقَضُوا مَذْهَبَهم حَيْثُ قالُوا: إنَّ الحَياةَ أُقْنُومٌ لِاخْتِصاصِها بِجَوْهَرِ القَدِيمِ، والقُدْرَةُ والإرادَةُ غَيْرُ مُخْتَصَّتَيْنِ بِذاتِ القَدِيمِ تَعالى، وذَلِكَ مُشْعِرٌ بِالمُغايَرَةِ ولا اتِّحادَ مَعَها، وإنْ قالُوا: إنَّها لازِمَةٌ لَها مَعَ المُغايَرَةِ فَهو مَمْنُوعٌ، فَإنَّهُ كَما يَجُوزُ خُلُوُّ الحَيِّ عَنِ العِلْمِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَجُوزُ خُلُوُّهُ عَنِ القُدْرَةِ والإرادَةِ كَما في حالَةِ النَّوْمِ والإغْماءِ مَثَلًا.
وقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَمْتَنِعُ إجْزاءُ الحَياةِ عَنِ العِلْمِ لِاخْتِصاصِ العِلْمِ بِالمُبالَغَةِ والتَّفْضِيلِ فَيَلْزَمُ مِنهُ أنْ لا تَكُونَ مُجْزِئَةً عَنِ القُدْرَةِ أيْضًا لِاخْتِصاصِها بِهَذا النَّوْعِ مِنَ المُبالَغَةِ والتَّفْضِيلِ.
وأمّا قَوْلُهُمْ: بِأنَّ الكَلِمَةَ حَلَّتْ في المَسِيحِ وتَدَرَّعَتْ بِهِ، فَهو باطِلٌ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ امْتِناعُ حُلُولِ صِفَةِ القَدِيمِ في غَيْرِهِ.
الثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ القَوْلُ بِحُلُولِ الكَلِمَةِ أوْلى مِنَ القَوْلِ بِحُلُولِ الرُّوحِ، وهي الحَياةُ، ولَئِنْ قالُوا: إنَّما اسْتَدْلَلْنا عَلى حُلُولِ العِلْمِ فِيهِ لِاخْتِصاصِهِ بِعُلُومٍ لا يُشارِكُهُ فِيها غَيْرُهُ، قُلْنا:
أوَّلًا لا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوى النَّصارى أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - سُئِلَ عَنِ القِيامَةِ فَلَمْ يُجِبْ، وقالَ: لا يَعْرِفُها إلّا اللَّهُ تَعالى وحْدَهُ.
وثانِيًا سَلَّمْنا، لَكِنَّهُ قَدِ اخْتَصَّ عِنْدَكم بِإحْياءِ المَوْتى، وإبْراءِ الأكْمَهِ والأبْرَصِ، وبِأُمُورٍ لا يَقْدِرُ عَلَيْها غَيْرُهُ مِنَ المَخْلُوقِينَ بِزَعْمِكُمْ، والقُدْرَةُ عِنْدَكم في حُكْمِ الحَياةِ إمّا بِمَعْنى أنَّها عَيْنُها أوْ مُلازِمَةٌ لَها، فَوَجَبَ أنْ يُقالَ بِحُلُولِ الحَياةِ فِيهِ، ولَمْ تَقُولُوا بِهِ.
وأمّا قَوْلُ المَلْكانِيَّةِ بِالتَّثْلِيثِ في الآلِهَةِ، وأنَّ كُلَّ أُقْنُومٍ إلَهٌ فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَقُولُوا: إنَّ كُلَّ واحِدٍ مُتَّصِفٌ بِصِفاتِ الإلَهِ تَعالى مِنَ الوُجُودِ والحَياةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفاتِ، أوْ ألّا يَقُولُوا بِهِ، فَإنْ قالُوا بِهِ فَهو خِلافُ أصْلِهِمْ، وهو مَعَ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِقِيامِ الأدِلَّةِ عَلى امْتِناعِ إلَهَيْنِ.
وأيْضًا فَإنَّهم إمّا أنْ يَقُولُوا: بِأنَّ جَوْهَرَ القَدِيمِ أيْضًا إلَهٌ أوْ ألّا يَقُولُوا، فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَقَدْ أبْطَلُوا مَذْهَبَهُمْ؛ فَإنَّهم مُجْمِعُونَ عَلى الثّالُوثِ، وبِقَوْلِهِمْ هَذا يَلْزَمُ التَّرْبِيعُ، وإنْ كانَ الثّانِي لَمْ يَجِدُوا إلى الفَرْقِ سَبِيلًا، مَعَ أنَّ جَوْهَرَ القَدِيمِ أصْلٌ والأقانِيمَ صِفاتٌ تابِعَةٌ، فَكانَ أوْلى أنْ يَكُونَ إلَهًا، وإنْ قالُوا بِالثّانِي فَحاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى مُنازَعَةٍ لَفْظِيَّةٍ، والمَرْجِعُ فِيها إلى وُرُودِ الشَّرْعِ بِجَوازِ إطْلاقِ ذَلِكَ.
وأمّا قَوْلُهُمْ: بِأنَّ الكَلِمَةَ امْتَزَجَتْ بِجَسَدِ المَسِيحِ فَيُبْطِلُهُ امْتِناعُ حُلُولِ صِفاتِ القَدِيمِ بِغَيْرِ ذاتِ اللَّهِ تَعالى، ودَعْواهُمُ الِاتِّحادَ مُمْتَنِعَةٌ مِن جِهَةِ الدَّلالَةِ والإلْزامِ، أمّا الأوَّلُ فَإنَّهُما عِنْدَ الِاتِّحادِ إمّا أنْ يُقالَ: بِبَقائِهِما أوْ بِعَدَمِهِما، أوْ بِبَقاءِ أحَدِهِما وعَدَمِ الآخَرِ، أمّا عَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ فَهُما اثْنانِ كَما كانا، وإنْ كانَ الثّانِي فالواحِدُ المَوْجُودُ غَيْرُهُما، وإنْ كانَ الثّالِثُ فَلا اتِّحادَ لِلْاثِنَيْنِيَّةِ وعَدَمِ أحَدِهِما، وأمّا عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي فَمِن أرْبَعَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ أنَّهُ إذا جازَ اتِّحادُ أُقْنُومِ الجَوْهَرِ القَدِيمِ بِالحادِثِ فَما المانِعُ مِنِ اتِّحادِ صِفَةِ الحادِثِ بِالجَوْهَرِ القَدِيمِ، فَلَئِنْ قالُوا: المانِعُ أنَّ اتِّحادَ صِفَةِ الحادِثِ بِالجَوْهَرِ القَدِيمِ يُوجِبُ نَقْصَهُ وهو مُمْتَنِعٌ، واتِّحادَ صِفَةِ القَدِيمِ بِالحادِثِ يُوجِبُ شَرَفَهُ، وشَرَفُ الحادِثِ بِالقَدِيمِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، قُلْنا: فَكَما أنَّ ذاتَ القَدِيمِ تَنْقُصُ بِاتِّحادِ صِفَةِ الحادِثِ بِها فالأُقْنُومُ القَدِيمُ يَنْقُصُ بِاتِّحادِهِ بِالنّاسُوتِ الحادِثِ، فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا.
الثّانِي أنَّهُ قَدْ وقَعَ الِاتِّفاقُ عَلى امْتِناعِ اتِّحادِ أُقْنُومِ الجَوْهَرِ القَدِيمِ بِغَيْرِ ناسُوتِ المَسِيحِ، فَما الفَرْقُ بَيْنَ ناسُوتٍ وناسُوتٍ؟! فَلَئِنْ قالُوا: إنَّما اتَّحَدَ بِالنّاسُوتِ الكُلِّيِّ دُونَ الجُزْئِيِّ رَدَدْناهُ بِما سَتَعْلَمُهُ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
الثّالِثُ أنَّ مَذْهَبَهم أنَّ الأقانِيمَ زائِدَةٌ عَلى ذاتِ الجَوْهَرِ القَدِيمِ، مَعَ اخْتِصاصِها بِهِ، ولَمْ يُوجِبْ قِيامَها بِهِ الِاتِّحادُ، فَأنْ لا يُوجِبَ اتِّحادَ الأُقْنُومِ بِالنّاسُوتِ أوْلى.
الرّابِعُ أنَّ الإجْماعَ مُنْعَقِدٌ عَلى أنَّ أُقْنُومَ الجَوْهَرِ القَدِيمِ مُخالِفٌ لِلنّاسُوتِ، كَما أنَّ صِفَةَ نَفْسِ الجَوْهَرِ تُخالِفُ نَفْسَ العَرَضِ، وصِفَةَ نَفْسِ العَرَضِ تُخالِفُ الجَوْهَرِ، فَإنْ قالُوا بِجَوازِ اتِّحادِ صِفَةِ الجَوْهَرِ بِالعَرَضِ أوْ صِفَةِ العَرَضِ بِالجَوْهَرِ، حَتّى أنَّهُ يَصِيرُ الجَوْهَرُ في حُكْمِ العَرَضِ، والعَرَضُ في حُكْمِ الجَوْهَرِ فَقَدِ التَزَمُوا مَجالًا مُخالِفًا لِأُصُولِهِمْ.
وإنْ قالُوا بِامْتِناعِ اتِّحادِ صِفَةِ نَفْسِ الجَوْهَرِ بِالعَرَضِ ونَفْسِ العَرَضِ بِالجَوْهَرِ مَعَ أنَّ العَرَضَ والجَوْهَرَ أقْبَلُ لِلتَّبَدُّلِ والتَّغَيُّرِ فَلِأنْ يَمْتَنِعَ في القَدِيمِ والحادِثِ أوْلى.
وقَوْلُهُمْ: إنَّ المَسِيحَ إنْسانٌ كُلِّيٌّ باطِلٌ مِن أرْبَعَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ أنَّ الإنْسانَ الكُلِّيَّ لا اخْتِصاصَ لَهُ بِجُزْئِيٍّ دُونَ جُزْئِيٍّ مِنَ النّاسِ، وقَدِ اتَّفَقَتِ النَّصارى أنَّ المَسِيحَ مَوْلُودٌ مِن مَرْيَمَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - وعِنْدَ ذَلِكَ فَإمّا أنْ يُقالَ أنَّ إنْسانَ مَرْيَمَ أيْضًا كُلِّيٌّ كَما حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أوْ جُزْئِيٌّ، فَإنْ كانَ كُلِّيًّا فَإمّا أنْ يَكُونَ هو عَيْنَ إنْسانِ المَسِيحِ أوْ غَيْرِهِ، فَإنْ كانَ عَيْنَهُ لَزِمَ أنْ يُولَدَ الشَّيْءُ مِن نَفْسِهِ وهو مُحالٌ، ثُمَّ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ المَسِيحُ مَرْيَمَ ومَرْيَمُ المَسِيحَ، ولَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ، وإنْ كانَ غَيْرَهُ فالإنْسانُ الكُلِّيُّ ما يَكُونُ عامًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمِيعٍ، وطَبِيعَتُهُ جُزْءٌ مِن مَعْنى كُلِّ إنْسانٍ ويَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنْ يَكُونَ إنْسانُ المَسِيحِ بِطَبِيعَتِهِ جُزْءًا مِن مَفْهُومِ إنْسانِ مَرْيَمَ وبِالعَكْسِ، وذَلِكَ مُحالٌ، وإنْ كانَ إنْسانُ مَرْيَمَ جُزْئِيًّا فَمِن ضَرُورَةِ كَوْنِ المَسِيحِ مَوْلُودًا عَنْها أنْ يَكُونَ الكُلِّيُّ الصّالِحُ لِاشْتِراكِ الكَثْرَةِ مُنْحَصِرًا في الجُزْئِيِّ الَّذِي لا يَصْلُحُ لِذاتِهِ وهو مُمْتَنِعٌ.
الثّانِي أنَّ النَّصارى مُجْمِعُونَ عَلى أنَّ المَسِيحَ كانَ مَرْئِيًّا ومُشارًا إلَيْهِ، والكُلِّيُّ لَيْسَ كَذَلِكَ.
الثّالِثُ أنَّهم قائِلُونَ: إنَّ الكَلِمَةَ حَلَّتْ في المَسِيحِ إمّا بِجِهَةِ الِاتِّحادِ أوْ لا بِجِهَةِ الِاتِّحادِ، فَلَوْ كانَ المَسِيحُ إنْسانًا كُلِّيًّا لَما اخْتَصَّ بِهِ بَعْضُ أشْخاصِ النّاسِ دُونَ البَعْضِ، ولَما كانَ المَوْلُودُ مِن مَرْيَمَ مُخْتَصًّا بِحُلُولِ الكَلِمَةِ دُونَ غَيْرِهِ، ولَمْ يَقُولُوا بِهِ.
الرّابِعُ أنَّ المَلْكانِيَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ القَتْلَ وقَعَ عَلى اللّاهُوتِ والنّاسُوتِ، ولَوْ كانَ ناسُوتُ المَسِيحِ كُلِّيًّا لَما تُصُوِّرَ وُقُوعُ الجُزْئِيِّ عَلَيْهِ.
وأمّا ما ذَهَبَ إلَيْهِ نُسْطُورُ مِنَ أنَّ الأقانِيمَ ثَلاثَةٌ فالكَلامُ مَعَهُ في الحَصْرِ عَلى طِرْزِ ما تَقَدَّمَ.
وقَوْلُهُ: لَيْسَتْ عَيْنَ ذاتِهِ ولا غَيْرَ ذاتِهِ فَإنْ أرادَ بِذَلِكَ ما أرادَ بِهِ الأشْعَرِيُّ في قَوْلِهِ: إنَّ الصِّفاتِ لا عَيْنَ ولا غَيْرَ فَهو حَقٌّ، وإنْ أرادَ غَيْرَهُ فَغَيْرُ مَفْهُومٍ، وأمّا تَفْسِيرُهُ العِلْمَ بِالكَلِمَةِ فالنِّزاعُ مَعَهُ في هَذا الإطْلاقِ لَفْظِيٌّ، ثُمَّ لا يَخْلُو إمّا أنْ يُرِيدَ بِالكَلِمَةِ الكَلامَ النَّفْسِيَّ أوِ الكَلامَ اللِّسانِيَّ، والكَلامُ في ذَلِكَ مَعْرُوفٌ.
وقَوْلُهُ: إنَّ الكَلِمَةَ اتَّحَدَتْ بِالمَسِيحِ بِمَعْنى أنَّها أشْرَقَتْ عَلَيْهِ لا حاصِلَ لَهُ؛ لِأنَّهُ إمّا أنْ يُرِيدَ بِإشْراقِ الكَلِمَةِ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ما هو مَفْهُومٌ مِن مِثالِهِ وهُوَ أنْ يَكُونَ مَطْرَحًا لِشُعاعِها عَلَيْهِ، أوْ يُرِيدُ أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ كَتَعَلُّقِ العِلْمِ القَدِيمِ بِالمَعْلُوماتِ، أوْ يُرِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ ذاتَ شُعاعٍ، وفي جِهَةٍ مِن مَطْرَحِ شُعاعِها، ويَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنْ تَكُونَ جِسْمًا، وأنْ لا تَكُونَ صِفَةً لِلْجَوْهَرِ القَدِيمِ، وهو مُحالٌ.
وإنْ كانَ الثّانِيَ فَهو حَقٌّ غَيْرَ أنَّ تَعَلُّقَ الأُقْنُومِ بِالمَسِيحِ بِهَذا التَّفْسِيرِ لا يَكُونَ خاصَّةً.
وإنْ كانَ الثّالِثَ فَلا بُدَّ مِن تَصْوِيرِهِ لِيَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ.
وأمّا قَوْلُ بَعْضِ النُّسْطُورِيَّةِ: إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الأقانِيمِ الثَّلاثَةِ إلَهٌ حَيٌّ ناطِقٌ فَهو باطِلٌ بِأدِلَّةِ إبْطالِ التَّثْلِيثِ.
وأمّا مَن أثْبَتَ مِنهم لِلَّهِ تَعالى صِفاتٍ أُخَرَ كالقُدْرَةِ والإرادَةِ ونَحْوِهِما فَقَدْ أصابَ، خَلا أنَّ القَوْلَ بِإخْراجِها عَنْ كَوْنِها مِنَ الأقانِيمِ مَعَ أنَّها مُشارِكَةٌ لَها في كَوْنِها مِنَ الصِّفاتِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ، والفَرْقُ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ باطِلٌ، كَما عَلِمْتَ.
وأمّا قَوْلُهُمُ: المَسِيحُ إنْسانٌ تامٌّ، وإلَهٌ تامٌّ، وهُما جَوْهَرانِ: قَدِيمٌ وحادِثٌ فَطَرِيقُ رَدِّهِ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: التَّعَرُّضُ لِإبْطالِ كَوْنِ الأُقْنُومِ المُتَّحِدِ بِجَسَدِ المَسِيحِ إلَهًا، وذَلِكَ بِأنْ يُقالَ: إمّا أنْ يَقُولُوا: بِأنَّ ما اتَّحَدَ بِجَسَدِ المَسِيحِ هو إلَهٌ فَقَطْ، أوْ أنَّ كُلَّ أُقْنُومٍ إلَهٌ كَما ذَهَبَتْ إلَيْهِ المَلْكانِيَّةُ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ: فَهو مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ الأوْلَوِيَّةِ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فَهو مُمْتَنِعٌ أيْضًا لِما تَقَدَّمَ.
الثّانِي أنَّهُ إذا كانَ المَسِيحُ مُشْتَمِلًا عَلى الأُقْنُومِ والنّاسُوتِ الحادِثِ، فَإمّا أنْ يَقُولُوا بِالِاتِّحادِ أوْ بِحُلُولِ الأُقْنُومِ في النّاسُوتِ أوْ حُلُولِ النّاسُوتِ في الأُقْنُومِ، أوْ أنَّهُ لا حُلُولَ لِأحَدِهِما في الآخَرِ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَهو باطِلٌ بِما سَبَقَ في إبْطال الِاتِّحادِ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فَهو باطِلٌ بِما يُبْطِلُ حُلُولَ الصِّفَةِ القَدِيمَةِ في غَيْرِ ذاتِ اللَّهِ تَعالى وحُلُولَ الحادِثِ في القَدِيمِ، وإنْ كانَ الثّالِثَ فَإمّا أنْ يُقالَ بِتَجاوُرِهِما واتِّصالِهِما أوْ لا، فَإنْ قِيلَ بِالأوَّلِ فَإمّا أنْ يُقالَ بِانْفِصالِ الأُقْنُومِ القَدِيمِ عَنِ الجَوْهَرِ الحادِثِ أوْ لا يُقالَ بِهِ، فَإنْ قِيلَ بِالِانْفِصالِ فَهو مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ ما يَدُلُّ عَلى إبْطال انْتِقالِ الصِّفَةِ عَنِ المَوْصُوفِ، الثّانِي أنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ قِيامُ صِفَةٍ حالَ مُجاوَرَتِها لِلنّاسُوتِ بِنَفْسِها، وهو مُحالٌ، وإنْ لَمْ يَقِلْ بِانْفِصالِ الأُقْنُومِ عَنِ الجَوْهَرِ القَدِيمِ يَلْزَمُ مِنهُ أنْ يَكُونَ ذاتُ الجَوْهَرِ القَدِيمِ مُتَّصِلَةً بِجَسَدِ المَسِيحِ ضَرُورَةَ اتِّصال أُقْنُومِها بِهِ، وعِنْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ اتِّحادُ الأُقْنُومِ بِالنّاسُوتِ أوْلى مِنِ اتِّحادِ الجَوْهَرِ القَدِيمِ بِهِ، ولَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ، وإنْ لَمْ يَقُلْ بِتَجاوُرِهِما واتِّصالِهِما فَلا مَعْنى لِلِاتِّحادِ بِجَسَدِ المَسِيحِ، ولَيْسَ القَوْلُ بِالِاتِّحادِ مَعَ عَدَمِ الِاتِّصالِ بِجَسَدِ المَسِيحِ أوْلى مِنَ العَكْسِ.
وأمّا قَوْلُ مَن قالَ مِنهُمْ: إنَّ الإلَهَ واحِدٌ، وإنَّ المَسِيحَ وُلِدَ مِن مَرْيَمَ، وأنَّهُ عَبْدٌ صالِحٌ مَخْلُوقٌ، إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى شَرَّفَهُ بِتَسْمِيَتِهِ ابْنًا فَهو كَما يَقُولُ المُوَحِّدُونَ ولا خِلافَ مَعَهم في غَيْرِ إطْلاقِ اسْمِ الِابْنِ.
وأمّا قَوْلُ بَعْضِ اليَعْقُوبِيَّةِ: إنَّ الكَلِمَةَ انْقَلَبَتْ لَحْمًا ودَمًا، وصارَ الإلَهُ هو المَسِيحَ فَهو أظْهَرُ بُطْلانًا مِمّا تَقَدَّمَ، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ أنَّهُ لَوْ جازَ انْقِلابُ الأُقْنُومِ لَحْمًا ودَمًا مَعَ اخْتِلافِ حَقِيقَتِهِما لَجازَ انْقِلابُ المُسْتَحِيلِ مُمْكِنًا، والمُمْكِنِ مُسْتَحِيلًا، والواجِبِ مُمْكِنًا أوْ مُمْتَنِعًا، والمُمْكِنِ أوِ المُمْتَنِعِ واجِبًا، ولَمْ يَبْقَ لِأحَدٍ وُثُوقٌ بِشَيْءٍ مِنَ القَضايا البَدِيهِيَّةِ، ولِجازَ انْقِلابُ الجَوْهَرِ عَرَضًا والعَرَضِ جَوْهَرًا، واللَّحْمِ والدَّمِ أُقْنُومًا، والأُقْنُومِ ذاتًا، والذّاتِ أُقْنُومًا، والقَدِيمِ حادِثًا، والحادِثِ قَدِيمًا، ولَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِنَ العُقَلاءِ.
الثّانِي أنَّهُ لَوِ انْقَلَبَ الأُقْنُومُ لَحْمًا ودَمًا فَإمّا أنْ يَكُونَ هو عَيْنَ الدَّمِ واللَّحْمِ اللَّذَيْنِ كانا لِلْمَسِيحِ أوْ زائِدًا عَلَيْهِ مُنْضَمًّا إلَيْهِ، والأوَّلُ ظاهِرُ الفَسادِ، والثّانِي لَمْ يَقُولُوا بِهِ.
وأمّا ما نُقِلَ عَنْ يُوحَنّا مِن قَوْلِهِ: في البَدْءِ كانَتِ الكَلِمَةُ، والكَلِمَةُ عِنْدَ اللَّهِ، واللَّهُ هو الكَلِمَةُ، فَهو مِمّا انْفَرَدَ بِهِ، ولَمْ يُوجَدْ في شَيْءٍ مِنَ الأناجِيلِ، والظّاهِرُ أنَّهُ كَذِبٌ، فَإنَّهُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِ القائِلِ: الدِّينارُ عِنْدَ صَيْرَفِيٍّ، والصَّيْرَفِيُّ هو الدِّينارُ، ولا يَكادُ يَتَفَوَّهُ بِهِ عاقِلٌ، وكَذا قَوْلُهُ: إنَّ الكَلِمَةَ صارَتْ جَسَدًا وحَلَّتْ فِينا غَيْرُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ، وعَلى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ يَحْتَمِلُ التَّقْدِيمَ والتَّأْخِيرَ أيْ: إنَّ الجَسَدَ الَّذِي صارَ بِالتَّسْمِيَةِ كَلِمَةً حَلَّ فِينا، وعَنى بِذَلِكَ الجَسَدِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ويُحْتَمَلُ أنَّهُ أشارَ بِذَلِكَ إلى بُطْرُسَ كَبِيرِ التَّلامِيذِ، ووَصِيِّ المَسِيحِ، فَإنَّهُ أقامَ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِتَدْبِيرِ دِينِهِ، وكانَتِ النَّصارى تَفْزَعُ إلَيْهِ عَلى ما تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُهُمْ، فَكَأنَّهُ يَقُولُ: إنْ ذَهَبَتِ الكَلِمَةُ أيْ: عِيسى الَّذِي سَمّاهُ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ مِن بَيْنِنا فَإنَّها لَمْ تَذْهَبْ حَتّى صارَتْ جَسَدًا وحَلَّ فِينا، يُرِيدُ أنَّ تَدْبِيرَها حاضِرٌ في جَسَدٍ بَيْنَنا، وهو بُطْرُسُ.
ومِنَ النّاسِ مَن خَرَّجَ كَلامَهُ عَلى إسْقاطِ هَمْزَةِ الإنْكارِ عِنْدَ إخْراجِهِ مِنَ العِبْرانِيِّ إلى اللِّسانِ العَرَبِيِّ، والمُرادُ: أصارَتْ، وفِيهِ بُعْدٌ.
ومِنَ العَجَبِ العَجِيبِ أنَّ يُوحَنّا ذَكَرَ أنَّ المَسِيحَ قالَ لِتَلامِيذِهِ: إنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدِي وتَشْرَبُوا دَمِي فَلا حَياةَ لَكم بَعْدِي؛ لِأنَّ جَسَدِي مَأْكَلُ حَقٍّ، ودَمِي مَشْرَبُ حَقٍّ، ومَن يَأْكُلْ جَسَدِي ويَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وأثْبُتْ فِيهِ، فَلَمّا سَمِعَ تَلامِيذُهُ هَذِهِ الكَلِمَةَ قالُوا: ما أصْعَبَها! مَن يُطِيقُ سَماعَها؟! فَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنهم عَنْ صُحْبَتِهِ، فَإنَّ هَذا مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هو الكَلِمَةُ، والكَلِمَةُ صارَتْ جَسَدًا في غايَةِ الإشْكالِ؛ إذْ فِيهِ أمْرُ الحادِثِ بِأكْلِ اللَّهِ تَعالى القَدِيمِ الأزَلِيِّ وشُرْبِهِ، والحَقُّ أنَّ شَيْئًا مِنَ الكَلامَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ، فَلا نَتَحَمَّلُ مُؤْنَةَ التَّأْوِيلِ.
وأمّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللّاهُوتَ ظَهَرَ بِالنّاسُوتِ فَصارَ هو هُوَ، فَإمّا أنْ يُرِيدُوا بِهِ أنَّ اللّاهُوتَ صارَ عَيْنَ النّاسُوتِ كَما يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُمْ: صارَ هو هُوَ، فَيَرْجِعُ إلى تَجْوِيزِ انْقِلابِ الحَقائِقِ، وهو مُحالٌ كَما عَلِمْتَ، وإمّا أنْ يُرِيدُوا بِهِ أنَّ اللّاهُوتَ اتَّصَفَ بِالنّاسُوتِ فَهو أيْضًا مُحالٌ؛ لِما ثَبَتَ مِنِ امْتِناعِ حُلُولِ الحادِثِ بِالقَدِيمِ، أوْ أنَّ النّاسُوتَ اتَّصَفَ بِاللّاهُوتِ وهو أيْضًا مُحالٌ؛ لِامْتِناعِ حُلُولِ القَدِيمِ بِالحادِثِ.
وأمّا مَن قالَ مِنهُمْ: بِأنَّ جَوْهَرَ الإلَهِ القَدِيمِ وجَوْهَرَ الإنْسانِ المُحْدَثِ تَرَكَّبا وصارا جَوْهَرًا واحِدًا هو المَسِيحُ فَباطِلٌ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ ما ذُكِرَ مِن إبْطالِ الِاتِّحادِ.
الثّانِي أنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ النّاسُوتِ لاهُوتًا بِتَرَكُّبِهِ مَعَ اللّاهُوتِ أوْلى مِن جَعْلِ اللّاهُوتِ ناسُوتًا مِن جِهَةِ تَرَكُّبِهِ مَعَ النّاسُوتِ، ولَمْ يَقُولُوا بِهِ، وأمّا جَوْهَرُ الفَحْمَةِ إذا أُلْقِيَتْ في النّارِ فَلا نُسَلِّمُ أنَّهُ صارَ بِعَيْنِهِ جَوْهَرَ النّارِ، بَلْ صارَ مُجاوِرًا لِجَوْهَرِ النّارِ، وغايَتُهُ أنَّ بَعْضَ صِفاتِ جَوْهَرِ الفَحْمَةِ وأعْراضِها بَطَلَتْ بِمُجاوَرَةِ جَوْهَرِ النّارِ، أمّا أنَّ جَوْهَرَ أحَدِهِما صارَ جَوْهَرَ الآخَرِ فَلا.
وأمّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الِاتِّحادَ بِالنّاسُوتِ الجُزْئِيِّ دُونَ الكُلِّيِّ فَمُحالٌ لِأدِلَّةِ إبْطالِ الِاتِّحادِ وحُلُولِ القَدِيمِ بِالحادِثِ، وبِذَلِكَ يَبْطُلُ قَوْلَهُمْ: إنَّ مَرْيَمَ ولَدَتْ إلَهًا، وقَوْلُهُمُ: القَتْلُ وقَعَ عَلى اللّاهُوتِ والنّاسُوتِ مَعًا عَلى أنَّهُ يُوجِبُ مَوْتَ الإلَهِ وهو بَدِيهِيُّ البُطْلانِ.
وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ المَسِيحَ مَعَ اتِّحادِ جَوْهَرِهِ قَدِيمٌ مِن وجْهٍ، مُحْدَثٌ مِن وجْهٍ فَباطِلٌ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ جَوْهَرُ المَسِيحِ مُتَّحِدًا لا كَثْرَةَ فِيهِ فالحُدُوثُ إمّا أنْ يَكُونَ لِعَيْنِ ما قِيلَ بِقِدَمِهِ أوْ لِغَيْرِهِ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَهو مُحالٌ، وإلّا لَكانَ الشَّيْءُ الواحِدُ قَدِيمًا لا أوَّلَ لَهُ، حادِثًا لَهُ أوَّلُ وهو مُتَناقِضٌ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فَهو خِلافُ المَفْرُوضِ.
وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ الكَلِمَةَ مَرَّتْ بِمَرْيَمَ كَمُرُورِ الماءِ في المِيزابِ فَيَلْزَمُ مِنهُ انْتِقالُ الكَلِمَةِ، وهو مُمْتَنِعٌ كَما لا يَخْفى، وبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ الكَلِمَةَ كانَتْ تَدْخُلُ جَسَدَ المَسِيحِ تارَةً وتُفارِقُهُ أُخْرى.
وقَوْلُهُمْ: إنَّ ما ظَهَرَ مِن صُورَةِ المَسِيحِ في النّاسُوتِ لَمْ يَكُنْ جِسْمًا بَلْ خَيالًا كالصُّورَةِ المَرْئِيَّةِ في المِرْآةِ باطِلٌ؛ لِأنَّ مِن أصْلِهِمْ أنَّ المَسِيحَ إنَّما أحْيا المَيِّتَ وأبْرَأ الأكْمَهَ والأبْرَصَ بِما فِيهِ مِنَ اللّاهُوتِ، فَإذًا كانَ ما ظَهَرَ فِيهِ مِنَ اللّاهُوتِ لا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ هو خَيالٌ مَحْضٌ لا يَصْلُحُ لِحُدُوثِ ما حَدَثَ عَنِ الإلَهِ عَنْهُ.
والقَوْلُ بِأنَّ أُقْنُومَ الحَياةِ مَخْلُوقٌ حادِثٌ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِقِيامِ الأدِلَّةِ عَلى قِدَمِ الصِّفاتِ، فَهو قَدِيمٌ أزَلِيٌّ كَيْفَ وأنَّهُ لَوْ كانَ حادِثًا لَكانَ الإلَهُ قَبْلَهُ غَيْرَ حَيٍّ؟! ومَن لَيْسَ بِحَيٍّ لا يَكُونُ عالِمًا ولا ناطِقًا.
وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّ المَسِيحَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ العالَمِ وهو خالِقٌ لِكُلِّ شَيْءٍ باطِلٌ؛ لِقِيامِ الأدِلَّةِ عَلى أنَّهُ كانَ اللَّهُ تَعالى ولا شَيْءَ غَيْرُهُ.
وأمّا الأمانَةُ الَّتِي هم بِها مُتَقَرِّبُونَ وبِما حَوَتْهُ مُتَعَبِّدُونَ فَبَيانُ اضْطِرابِها وتَناقُضِها وتَهافُتِها مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ أنَّ قَوْلَهُمْ: نُؤْمِنُ بِالواحِدِ الأبِ صانِعِ كُلِّ شَيْءٍ يُناقِضُ قَوْلَهُمْ: وبِالرَّبِّ الواحِدِ المَسِيحِ إلَخْ، مُناقِضَةً لا تَكادُ تَخْفى.
الثّانِي أنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّ يَسُوعَ المَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ تَعالى بِكْرُ الخَلائِقِ مُشْعِرٌ بِحُدُوثِ المَسِيحِ؛ إذْ لا مَعْنى لِكَوْنِهِ ابْنَهُ إلّا تَأخُّرُهُ عَنْهُ، إذِ الوالِدُ والوَلَدُ لا يَكُونانِ مَعًا في الوُجُودِ، وكَوْنُهُما مَعًا مُسْتَحِيلٌ بِبَداهَةِ العُقُولِ؛ لِأنَّ الأبَ لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ ولَدَ ولَدًا لَمْ يَزَلْ أوْ لَمْ يَكُنْ، فَإنْ قالُوا: ولَدَ ولَدًا لَمْ يَزَلْ، قُلْنا: فَما ولَدَ شَيْئًا، إذِ الِابْنُ لَمْ يَزَلْ، وإنْ ولَدَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فالوَلَدُ حادِثٌ مَخْلُوقٌ، وذَلِكَ مُكَذِّبٌ لِقَوْلِهِمْ: إلَهٌ حَقٌّ، مِن إلَهٍ حَقٍّ، مِن جَوْهَرِ أبِيهِ، وأنَّهُ أتْقَنَ العَوالِمَ بِيَدِهِ، وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.
الثّالِثُ أنَّ قَوْلَهُمْ: إلَهٌ حَقٌّ مِن إلَهٍ حَقٍّ مِن جَوْهَرِ أبِيهِ يُناقِضُهُ قَوْلُ المَسِيحِ في الإنْجِيلِ - وقَدْ سُئِلَ عَنْ يَوْمِ القِيامَةِ - فَقالَ: لا أعْرِفُهُ ولا يَعْرِفُهُ إلّا الأبُ وحْدَهُ، فَلَوْ كانَ مِن جَوْهَرِ الأبِ لَعَلِمَ ما يَعْلَمُهُ الأبُ، عَلى أنَّهُ لَوْ جازَ أنْ يَكُونَ إلَهٌ ثانٍ مِن إلَهٍ أوَّلَ لَجازَ أنْ يَكُونَ إلَهٌ ثالِثٌ مِن إلَهٍ ثانٍ، ولَما وقَفَ الأمْرُ عَلى غايَةٍ، وهو مِحالٌ.
الرّابِعُ أنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّ يَسُوعَ أتْقَنَ العَوالِمَ بِيَدِهِ، وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ باطِلٌ مُكَذِّبٌ لِما في الإنْجِيلِ؛ إذْ يَقُولُ مَتّى: هَذا مَوْلِدُ يَسُوعَ المَسِيحِ بْنِ داوُدَ، وأيْضًا خالِقُ العالَمِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ سابِقًا عَلَيْهِ، وأنّى بِسَبْقِ المَسِيحِ وقَدْ ولَدَتْهُ مَرْيَمُ ؟! وأيْضًا في الإنْجِيلِ: إنَّ إبْلِيسَ قالَ لِلْمَسِيحِ: اسْجُدْ لِي وأُعْطِيَكَ جَمِيعَ العالَمِ، وأُمَلِّكَكَ كُلَّ شَيْءٍ، ولا زالَ يَسْحَبُهُ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ، ويَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُرادِهِ، ويَطْمَعُ في تَعَبُّدِهِ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ خالِقُ العالَمِ مَحْصُورًا في يَدِ بَعْضِ العالَمِ؟! نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الضَّلالَةِ.
الخامِسُ أنَّ قَوْلَهُمُ: المَسِيحُ الإلَهُ الحَقُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّماءِ لِخَلاصِ النّاسِ، وتَجَسَّدَ مِن رُوحِ القُدُسِ وصارَ إنْسانًا وحُبِلَ بِهِ ووُلِدَ فِيهِ عِدَّةُ مَفاسِدَ:
مِنها أنَّ المَسِيحَ لا يَخُصُّ مُجَرَّدَ الكَلِمَةِ ولا مُجَرَّدَ الجَسَدِ، بَلْ هو اسْمٌ يَخُصُّ هَذا الجَسَدَ الَّذِي ولَدَتْهُ مَرْيَمُ - عَلَيْها السَّلامُ - ولَمْ تَكُنِ الكَلِمَةُ في الأزَلِ مَسِيحًا، فَبَطَلَ أنْ يَكُونَ هو الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّماءِ.
ومِنها أنَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّماءِ لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ الكَلِمَةَ أوِ النّاسُوتَ، فَإنْ زَعَمُوا أنَّ الَّذِي نَزَلَ هو النّاسُوتُ فَكَذِبٌ صُراحٌ؛ لِأنَّ ناسُوتَهُ مِن مَرْيَمَ، وإنْ زَعَمُوا أنَّهُ اللّاهُوتُ فَيُقالُ: لا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ الذّاتَ أوِ العِلْمَ المُعَبَّرَ عَنْهُ بِالكَلِمَةِ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ لَزِمَ لُحُوقُ النَّقائِصِ لِلْبارِي عَزَّ اسْمُهُ، وإنْ كانَ الثّانِيَ لَزِمَ انْتِقالُ الصِّفَةِ وبَقاءُ البارِي بِلا عِلْمٍ، وذَلِكَ باطِلٌ.
ومِنها أنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّما نَزَلَ لِخَلاصِ مَعْشَرِ النّاسِ يُرِيدُونَ بِهِ أنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا عَصى أوْثَقَ سائِرَ ذُرِّيَّتِهِ في حِبالَةِ الشَّيْطانِ، وأوْجَبَ عَلَيْهِمُ الخُلُودَ في النّارِ، فَكانَ خَلاصُهم بِقَتْلِ المَسِيحِ وصَلْبِهِ والتَّنْكِيلِ بِهِ، وذَلِكَ دَعْوى لا دَلالَةَ عَلَيْها، هَبْ أنّا سَلَّمْناها لَهُمْ، لَكِنْ يُقالُ: أخْبِرُونا مِمَّ هَذا الخَلاصُ الَّذِي تَعَنّى الإلَهُ الأزَلِيُّ لَهُ؟ وفَعَلَ ما فَعَلَ بِنَفْسِهِ لِأجْلِهِ؟ ولِمَ خَلَّصَكُمْ؟ ومِمَّنْ خَلَّصَكُمْ؟ وكَيْفَ اسْتَقَلَّ بِخَلاصِكم دُونَ الأبِ والرُّوحِ، والرُّبُوبِيَّةُ بَيْنَهُمْ؟! وكَيْفَ ابْتُذِلَ وامْتُهِنَ في خَلاصِكم دُونَ الأبِ والرُّوحِ؟! فَإنْ زَعَمُوا أنَّ الخَلاصَ مِن تَكالِيفِ الدُّنْيا وهُمُومِها أكْذَبَهُمُ الحِسُّ، وإنْ كانَ مِن تَكالِيفِ الشَّرْعِ وأنَّهم قَدْ حُطَّ عَنْهُمُ الصَّلاةُ والصَّوْمُ مَثَلًا أكْذَبَهُمُ المَسِيحُ والحَوارِيُّونَ بِما وضَعُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكالِيفِ، وإنْ زَعَمُوا أنَّهم قَدْ خَلَصُوا مِن أحْكامِ الدّارِ الآخِرَةِ فَمَنِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا مِنهم لَمْ يُؤاخَذْ أكْذَبَهُمُ الإنْجِيلُ والنُّبُوّاتُ؛ إذْ يَقُولُ المَسِيحُ في الإنْجِيلِ: إنِّي أُقِيمُ النّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ عَنْ يَمِينِي وشِمالِي فَأقُولُ لِأهْلِ اليَمِينِ: فَعَلْتُمْ كَذا وكَذا فاذْهَبُوا إلى النَّعِيمِ المُعَدِّ لَكم قَبْلَ تَأْسِيسِ الدُّنْيا، وأقُولُ لِأهْلِ الشِّمالِ: فَعَلْتُمْ كَذا وكَذا، فاذْهَبُوا إلى العَذابِ المُعَدِّ لَكم قَبْلَ تَأْسِيسِ العالَمِ.
السّادِسُ أنَّ قَوْلَهُمْ: وتَجَسَّدَ مِن رُوحِ القُدُسِ باطِلٌ بِنَصِّ الإنْجِيلِ؛ إذْ يَقُولُ مَتّى في الفَصْلِ الثّانِي مِنهُ: إنَّ يُوحَنّا المَعْمَدانِيَّ حِينَ عَمَّدَ المَسِيحَ جاءَتْ رُوحُ القُدُسِ إلَيْهِ مِنَ السَّماءِ في صِفَةِ حَمامَةٍ، وذَلِكَ بَعْدَ ثَلاثِينَ مِن عُمُرِهِ.
السّابِعُ أنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّ المَسِيحَ نَزَلَ مِنَ السَّماءِ، وحَمَلَتْ بِهِ مَرْيَمُ، وسَكَنَ في رَحِمَها مُكَذَّبٌ بِقَوْلِ لُوقا الإنْجِيلِيِّ إذْ يَقُولُ في قَصَصِ الحَوارِيِّينَ في الفَصْلِ الرّابِعَ عَشَرَ مِنهُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى هو خالِقُ العالَمِ بِما فِيهِ، وهو رَبُّ السَّماءِ والأرْضِ، لا يَسْكُنُ الهَياكِلَ، ولا تَنالُهُ أيْدِي الرِّجالِ، ولا يَحْتاجُ إلى أيِّ شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ؛ لِأنَّهُ الَّذِي أعْطى النّاسَ الحَياةَ، فَوُجُودُنا بِهِ وحَياتُنا وحَرَكاتُنا مِنهُ، فَقَدْ شَهِدَ لُوقا بِأنَّ البارِيَ وصِفاتِهِ لا تَسْكُنُ الهَياكِلَ ولا تَنالُهُ الرِّجالُ بِأيْدِيها، وهَذا يُنافِي كَوْنَ الكَلِمَةِ سَكَنَتْ في هَيْكَلِ مَرْيَمَ، وتَحَوَّلَتْ إلى هَيْكَلِ المَسِيحِ.
الثّامِنُ أنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّهُ بَعْدَ أنْ قُتِلَ وصُلِبَ قامَ مِن بَيْنِ الأمْواتِ وصَعِدَ إلى السَّماءِ، وجَلَسَ عَنْ يَمِينِ أبِيهِ مِنَ الكَذِبِ الفاحِشِ المُسْتَلْزِمِ لِلْحُدُوثِ.
التّاسِعُ أنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّ يَسُوعَ هَذا الرَّبُّ الَّذِي صُلِبَ وقُتِلَ مُسْتَعِدٌّ لِلْمَجِيءِ تارَةً أُخْرى لِفَصْلِ القَضاءِ بَيْنَ الأمْواتِ والأحْياءِ بِمَنزِلَةِ قَوْلِ القائِلِ:
لَألْفَيَنَّكَ بَعْدَ المَوْتِ تَنْدُبُنِي وفي حَياتِي ما زَوَّدْتَنِي زادا
إذْ زَعَمُوا أنَّهُ في المَرَّةِ الأُولى عَجَزَ عَنْ خَلاصِ نَفْسِهِ حَتّى تَمَّ عَلَيْهِ مِن أعْدائِهِ ما تَمَّ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلى خَلاصِهِمْ بِجُمْلَتِهِمْ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ.
العاشِرُ أنَّ قَوْلَهُمْ: ونُؤْمِنُ بِمَعْمُودِيَّةٍ واحِدَةٍ لِغُفْرانِ الذُّنُوبِ فِيهِ مُناقَضَةٌ لِأُصُولِهِمْ؛ وذَلِكَ أنَّ اعْتِقادَ النَّصارى أنَّهُ لَمْ تُغْفَرْ خَطاياهم بِدُونِ قَتْلِ المَسِيحِ ولِذَلِكَ سَمَّوْهُ جَمَلَ اللَّهِ تَعالى الَّذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ الخَطايا، ودَعَوْهُ مُخَلِّصَ العالَمِ مِنَ الخَطِيئَةِ، فَإذا آمَنُوا بِأنَّ المَعْمُودِيَّةَ الواحِدَةَ هي الَّتِي تَغْفِرُ خَطاياهم وتُخَلِّصُ مِن ذُنُوبِهِمْ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأنَّهُ لا حاجَةَ إلى قَتْلِ المَسِيحِ لِاسْتِقْلالِ المَعْمُودِيَّةِ بِالخَلاصِ والمَغْفِرَةِ، فَإنْ كانَ التَّعْمِيدُ كافِيًا لِلْمَغْفِرَةِ فَقَدِ اعْتَرَفُوا أنَّ وُقُوعَ القَتْلِ عَبَثٌ، وإنْ كانَتْ لا تَحْصُلُ إلّا بِقَتْلِهِ فَما فائِدَةُ التَّعْمِيدِ، وما هَذا الإيمانُ؟!
فَهَذِهِ عَشَرَةُ وُجُوهٍ كامِلَةٍ في رَدِّ تِلْكَ الأمانَةِ، وإظْهارِ ما لَهم فِيها مِنَ الخِيانَةِ، ومَن أمْعَنَ نَظَرَهُ رَدَّها بِأضْعافِ ذَلِكَ، وقالَ أبُو الفَضْلِ المالِكِيُّ بَعْدَ كَلامٍ:
بَطَلَتْ أمانَتُهم فَمِن مَضْمُونِها ∗∗∗ ظَهَرَتْ خِيانَتُها خِلالَ سُطُورِها
بَدَأُوا بِتَوْحِيدِ الإلَهِ وأشْرَكُوا ∗∗∗ عِيسى بِهِ فالخُلْفُ في تَعْبِيرِها
قالُوا بِأنَّ إلَهَهم عِيسى الَّذِي ∗∗∗ ذَرَّ الوُجُودَ عَلى الخَلِيقَةِ كُلِّها
خَلَقَ أُمَّهُ قَبْلَ الحُلُولِ بِبَطْنِها ∗∗∗ ما كانَ أغْنى ذاتِهِ عَنْ مِثْلِها
هَلْ كانَ مُحْتاجًا لِشُرْبِ لِبانِها ∗∗∗ أوْ أنْ يُرَبّى في مَواطِنِ حِجْرِها
جَعَلُوهُ رَبًّا جَوْهَرًا مِن جَوْهَرٍ ∗∗∗ ذَهَبُوا لِما لا يَرْتَضِيهِ أُولُو النُّهى
قالُوا وجاءَ مِنَ السَّماءِ عِنايَةً ∗∗∗ لِخَلاصِ آدَمَ مِن لَظاهُ وحَرِّها
قَدْ تابَ آدَمُ تَوْبَةً مَقْبُولَةَ ∗∗∗ فَضَلالُهم جَعَلَ الفِداءَ بِغَيْرِها
لَوْ جاءَ في ظُلَلِ الغَمامِ وحَوْلَهُ ∗∗∗ شَرَفًا مَلائِكَةُ السَّماءِ بِأسْرِها
وفَدى الَّذِي بِيَدَيْهِ أحْكَمَ طِينَهُ ∗∗∗ بِالعَفْوِ عَنْ كُلِّ الأُمُورِ وسَتْرِها
ثُمَّ اجْتَباهُ مُحَبَّبًا ومُفَضَّلًا ∗∗∗ ووَقاهُ مِن غَيِّ النُّفُوسِ وشَرِّها
كُنْتُمْ تُحِلُّونَ الإلَهَ مَقامَهُ ∗∗∗ فِيما تَراهُ نُفُوسُكم مِن شِرْكِها
مِن غَيْرِ أنْ يَحْتاجَ في تَخْلِيصِهِ ∗∗∗ كُلُّ الخَلائِقِ أنْ تَبُوءَ بِضُرِّها
ويُشِينُهُ الأعْدا بِما لا يَرْتَضِي ∗∗∗ مِن كَيْدِها وبِما دَهى مِن مَكْرِها
هَذِي أمانَتُهم وهَذا شَرْحُها ∗∗∗ اللَّهُ أكْبَرُ مِن مَعانِي كُفْرِها
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ لا حُجَّةَ لِلنَّصارى القائِلِينَ بِالتَّثْلِيثِ بِما رُوِيَ عَنْ مَتّى التِّلْمِيذِ أنَّهُ قالَ: إنَّ المَسِيحَ عِنْدَما ودَّعَهم قالَ: اذْهَبُوا وعَمِّدُوا الأُمَمَ بِاسْمِ الرَّبِّ والِابْنِ ورُوحِ القُدُسِ، ومِن هُنا جَعَلُوا مُفْتَتَحَ الإنْجِيلِ ذَلِكَ، كَما أنَّ مُفْتَتَحَ القُرْآنِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ويُوهِمُ كَلامُ بَعْضٍ مِنّا أنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّماءِ كالبَسْمَلَةِ عِنْدَنا؛ لِأنّا نَقُولُ عَلى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوايَةِ - ودُونَها خَرْطُ القَتادِ -: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالأبِ المَبْدَأُ؛ فَإنَّ القُدَماءَ كانُوا يُسَمُّونَ المَبادِيَ بِالآباءِ، ومِنَ الِابْنِ الرَّسُولُ، وسُمِّيَ بِذَلِكَ تَشْرِيفًا وإكْرَمًا كَما سُمِّيَ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ – خَلِيلًا، أوْ بِاعْتِبارِ أنَّهم يُسَمُّونَ الآثارَ أبْناءً، وقَدْ رَوَوْا عَنِ المَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ قالَ: إنِّي ذاهِبٌ إلى أبِي وأبِيكُمْ، وقالَ: لا تُعْطُوا صَدَقاتِكم قُدّامَ النّاسِ لِتُراءُوهُمْ؛ فَإنَّهُ لا يَكُونُ لَكم أجْرٌ عِنْدَ أبِيكُمُ الَّذِي في السَّماءِ.
ورُبَّما يُقالُ: إنَّ الِابْنَ بِمَعْنى الحَبِيبِ أوْ نَحْوِهِ، ويُشِيرُ إلى ذَلِكَ ما رَوَوْهُ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ عَقِيبَ وصِيَّةٍ وصّى بِها الحَوارِيِّينَ: لِكَيْ تَكُونُوا أبْناءَ أبِيكُمُ الَّذِي في السَّماءِ وتَكُونُوا تامِّينَ كَما أنَّ أباكُمُ الَّذِي في السَّماءِ تامٌّ، ويُرادُ بِرُوحِ القُدُسِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والمَعْنى عَمِّدُوا بِبَرَكَةِ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - والمَلَكِ المُؤَيِّدِ لِلْأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عَلى تَبْلِيغِ أوامِرِ رَبِّهِمْ.
وفِي كَشْفِ الغَيْنِ عَنِ الفَرْقِ بَيْنَ البَسْمَلَتَيْنِ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الغَنِيِّ النّابُلُسِيِّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - أنَّ بَسْمَلَةَ النَّصارى مُشِيرَةٌ إلى ثَلاثِ حَضَراتٍ لِلْأمْرِ الإلَهِيِّ الواحِدِ الأحَدِ الغَيْبِ المُطْلَقِ، فالأبُ إشارَةٌ إلى الرُّوحِ الَّذِي هو أوَّلُ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ تَعالى، كَما في الخَبَرِ، وهو المُسَمّى بِالعَقْلِ والقَلَمِ والحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، ويُضافُ إلى اللَّهِ تَعالى فَيُقالُ: رُوحُ اللَّهِ تَعالى؛ لِلتَّشْرِيفِ والتَّعْظِيمِ، كَناقَةِ اللَّهِ تَعالى، ورُوحُ القُدُسِ إشارَةً إلَيْهِ أيْضًا، بِاعْتِبارِ ظُهُورِهِ بِصُورَةِ البَشَرِ السَّوِيِّ النّافِخِ في دِرْعِ مَرْيَمَ، عَلَيْها السَّلامُ.
والِابْنُ إشارَةٌ إلى عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهو ابْنٌ لِذَلِكَ الرُّوحِ بِاعْتِبارِ أنَّ تَكَوُّنَهُ بِسَبَبِ نَفْخِهِ.
والأبُ هو الِابْنُ، والِابْنُ هو رُوحُ القُدُسِ في الحَقِيقَةِ، والغَيْبُ المُطْلَقُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنِ الثَّلاثَةِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ مِن حَيْثُ هو لا شَيْءَ مَعَهُ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ، فَبَسْمَلَةُ الإنْجِيلِ مِن مَقامِ الصِّفاتِ الإلَهِيَّةِ والأسْماءِ الرَّبّانِيَّةِ لا مِن مَقامِ الذّاتِ الأقْدَسِيَّةِ.
ثُمَّ لا يَتَوَهَّمَنَّ مُتَوَهِّمٌ أنَّ كَلِماتِ سادَتِنا الصُّوفِيَّةِ - قَدَّسَ اللَّهُ أسْرارَهم - تُدَنْدِنُ حَوْلَ كَلِماتِ النَّصارى، كَما يَزْعُمُهُ مَن لا اطِّلاعَ لَهُ عَلى تَحْقِيقِ كَلامِهِمْ ولا ذَوْقَ لَهُ في مَشْرَبِهِمْ، وذَلِكَ لِأنَّ القَوْمَ - نَفَعَنا اللَّهُ تَعالى بِهِمْ - مُبَرَّءُونَ عَمّا نَسَبَهُ المَحْجُوبُونَ إلَيْهِمْ مِنِ اعْتِقادِ التَّجْسِيمِ والعَيْنِيَّةِ والِاتِّحادِ والحُلُولِ.
أمّا إنَّهم لَمْ يَقُولُوا بِالتَّجْسِيمِ فَلِما تَقَرَّرَ عِنْدَهم مِن أنَّ الحَقَّ سُبْحانَهُ هو الوُجُودُ المَحْضُ، المَوْجُودُ بِذاتِهِ، القائِمُ بِذاتِهِ، المُتَعَيِّنُ بِذاتِهِ، وكُلُّ جِسْمٍ فَهو صُورَةٌ في الوُجُودِ المُنْبَسِطِ عَلى الحَقائِقِ، المُعَبَّرِ عَنْهُ بِالعَماءِ، مُتَعَيِّنَةٌ بِمُقْتَضى اسْتِعْدادِ ماهِيَّةِ المَعْدُومَةِ ولا شَيْءَ مِنَ الوُجُودِ المُجَرَّدِ مِنَ الماهِيَّةِ المُتَعَيَّنِ بِذاتِهِ بِالصُّورَةِ المُتَعَيَّنَةِ في الوُجُودِ المُنْبَسِطِ بِمُقْتَضى الماهِيَّةِ المَعْدُومَةِ فَلا شَيْءَ مِنَ الجِسْمِ بِالوُجُودِ المُجَرَّدِ عَنِ الماهِيَّةِ المُتَعَيَّنِ بِذاتِهِ، وتَنْعَكِسُ إلى لا شَيْءَ مِنَ الوُجُودِ المُجَرَّدِ عَنِ الماهِيَّةِ المُتَعَيَّنِ بِذاتِهِ وهو المَطْلُوبُ.
وأمّا إنَّهم لَمْ يَقُولُوا بِالعَيْنِيَّةِ؛ فَلِأنَّ الحَقَّ تَعالى هو ما عَلِمْتَ مِنَ الوُجُودِ المَحْضِ إلَخْ، والمَخْلُوقُ هو الصُّورَةُ الظّاهِرَةُ في الوُجُودِ، المُنْبَسِطُ عَلى الحَقائِقِ، المُتَعَيَّنُ بِحَسَبِ ماهِيَّتِهِ المَعْدُومَةِ، ولا شَيْءَ مِنَ المُجَرَّدِ عَنِ الماهِيَّةِ المُتَعَيَّنِ بِذاتِهِ بِالمُقْتَرِنِ بِالماهِيَّةِ المُتَعَيَّنِ بِحَسَبِها، ومِمّا يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْخِ الأكْبَرِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - في البابِ الثّامِنِ والخَمْسِينَ وخَمْسِمِائَةِ مِنَ الفُتُوحاتِ في حَضْرَةِ البَدِيعِ بَعْدَ بَسْطٍ: وهَذا يَدُلُّكَ عَلى أنَّ العالَمَ ما هو عَيْنُ الحَقِّ، وإنَّما ظَهَرَ في الوُجُودِ الحَقِّ، إذْ لَوْ كانَ عَيْنَ الحَقِّ ما صَحَّ كَوْنُهُ بَدِيعًا.
وقَوْلُهُ في هَذا البابِ أيْضًا في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلا هُوَ﴾ انْفَرَدَ سُبْحانَهُ بِعِلْمِها ونَفى العِلْمَ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ، فَأثْبَتَكَ في هَذِهِ الآيَةِ وأعْلَمَكَ أنَّكَ لَسْتَ هُوَ؛ إذْ لَوْ كُنْتَ هو لَعَلِمْتَ مَفاتِحَ الغَيْبِ بِذاتِكَ وما لا تَعْلَمُهُ إلّا بِمَوْقِفٍ فَلَسْتَ عَيْنَ المَوْقِفِ، وكَذا قالَ غَيْرُ واحِدٍ، وقالَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ إسْماعِيلُ بْنُ سُودِكِينَ في شَرْحِ التَّجَلِّياتِ نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ قُدِّسَ سِرُّهُ أيْضًا: لَمّا ظَهَرَتِ المُمَكَّناتُ بِإظْهارِ اللَّهِ تَعالى لَها وتَحَقَّقَ ذَلِكَ تَحَقُّقًا لا يُمْكِنُ لِلْمُمَكَّنِ أنْ يُزِيلَ هَذِهِ الحَقِيقَةَ أبَدًا فَبَقِيَ مُتَواضِعًا لِكِبْرِياءِ اللَّهِ تَعالى خاشِعًا لَهُ، وهَذِهِ سَجْدَةُ الأبَدِ، وهي عِبارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ العَبْدِ بِحَقِيقَتِهِ.
ومِن هُنا يُعْلَمُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
««كُنْتُ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ»» الحَدِيثَ، ولَمّا لاحَ مِن هَذا المَشْهَدِ لِبَعْضِ الضُّعَفاءِ لائِحٌ قالَ: أنا الحَقُّ، فَسَكِرَ وصاحَ، ولَمْ يَتَحَقَّقْ لِغَيْبَتِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، انْتَهى.
وأمّا أنَّهم لَمْ يَقُولُوا بِالِاتِّحادِ؛ فَلِأنَّ الِاتِّحادَ إمّا بِصَيْرُورَةِ الوُجُودِ المَحْضِ المُجَرَّدِ المُتَعَيَّنِ بِذاتِهِ وجُودًا مُقْتَرِنًا بِالماهِيَّةِ المَعْدُومَةِ مُتَعَيَّنًا بِحَسَبِها أوْ بِالعَكْسِ، وذَلِكَ مُحالٌ بِوَجْهَيْهِ؛ لِأنَّ التَّجَرُّدَ عَنِ الماهِيَّةِ ذاتِيٌّ لِلْحَقِّ تَعالى، والِاقْتِرانَ بِها ذاتِيٌّ لِلْمُمَكَّنِ، وما بِالذّاتِ لا يَزُولُ.
وفِي كِتابِ المَعْرِفَةِ لِلشَّيْخِ الأكْبَرِ قُدِّسَ سِرُّهُ: إذا كانَ الِاتِّحادُ مُصَيِّرَ الذّاتَيْنِ واحِدَةً فَهو مُحالٌ؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ عَيْنُ كُلٍّ مِنهُما مَوْجُودًا في حالِ الِاتِّحادِ فَهُما ذاتانِ، وإنْ عُدِمَتِ العَيْنُ الواحِدَةُ وثَبَتَتِ الأُخْرى فَلَيْسَتْ إلّا واحِدَةً.
وقالَ في كِتابِ الياءِ - وهو كِتابُ الهَوِّ -: الِاتِّحادُ مُحالٌ، وساقَ الكَلامَ، إلى أنْ قالَ: فَلا اتِّحادَ البَتَّةَ لا مِن طَرِيقِ المَعْنى، ولا مِن طَرِيقِ الصُّورَةِ.
وقالَ في البابِ الخامِسِ مِنَ الفُتُوحاتِ خِطابًا مِنَ الحَقِّ تَعالى لِلرُّوحِ الكُلِّيِّ: وقَدْ حَجَبْتُكِ عَنْ مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ إمْدادِي لَكِ بِالأسْرارِ الإلَهِيَّةِ إذْ لا طاقَةَ لَكِ بِحَمْلِ مُشاهَدَتِها، إذْ لَوْ عَرَفْتِها لا تَحْدُثُ الإنْيَةُ واتِّحادُ الإنْيَةِ مُحالٌ، فَمُشاهَدَتُكِ لِذَلِكَ مُحالٌ، هَلْ تَرْجِعُ إنْيَةُ المُرَكَّبِ إنْيَةَ البَسِيطِ، لا سَبِيلَ إلى قَلْبِ الحَقائِقِ.
وأمّا إنَّهم لَمْ يَقُولُوا بِالحُلُولِ؛ فَلِأنَّهم فَسَّرُوا الحُلُولَ تارَةً بِأنَّهُ الحُصُولُ عَلى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ، وتارَةً بِأنَّهُ كَوْنُ المَوْجُودِ في مَحَلٍّ قائِمًا بِهِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ الواجِبَ تَعالى - وهو الوُجُودُ المَحْضُ القائِمُ بِذاتِهِ المُتَعَيَّنُ كَذَلِكَ - يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ القِيامُ بِغَيْرِهِ.
قالَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ في البابِ الثّانِي والتِّسْعِينَ ومِائَتَيْنِ مِنَ الفُتُوحاتِ: نُورُ الشَّمْسِ إذا تَجَلّى في البَدْرِ يُعْطِي مِنَ الحِكَمِ ما لا يُعْطِيهِ مِنَ الحِكَمِ بِغَيْرِ البَدْرِ لا شَكَّ في ذَلِكَ، كَذَلِكَ الِاقْتِدارُ الإلَهِيُّ إذا تَجَلّى في العَبْدِ يُظْهِرُ الأفْعالَ عَنِ الخَلْقِ، فَهو وإنْ كانَ بِالِاقْتِدارِ الإلَهِيِّ لَكِنْ يَخْتَلِفُ الحُكْمُ؛ لِأنَّهُ بِواسِطَةِ هَذا المُجَلّى الَّذِي كانَ مِثْلَ المِرْآةِ لِتَجَلِّيهِ، وكَما يُعْلَمُ عَقْلًا أنَّ القَمَرَ في نَفْسِهِ لَيْسَ فِيهِ مِن نُورِ الشَّمْسِ شَيْءٌ، وأنَّ الشَّمْسَ ما انْتَقَلَتْ إلَيْها بِذاتِها وإنَّما كانَ لَها مُجَلًّى، كَذَلِكَ العَبْدُ لَيْسَ فِيهِ مِن خالِقِهِ شَيْءٌ ولا حَلَّ فِيهِ، وإنَّما هو مُجَلًّى لَهُ وخاصَّةٌ ومَظْهَرٌ لَهُ، انْتَهى.
وهَذا نَصٌّ في نَفْيِ الحُلُولِ، ومَنشَأُ غَلَطِ المَحْجُوبِينَ المُنْكِرِينَ عَدَمُ الفَهْمِ لِكَلامِ هَؤُلاءِ السّادَةِ - نَفَعَنا اللَّهُ تَعالى بِهِمْ - عَلى وجْهِهِ، وعَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الحُلُولِ والتَّجَلِّي، ولَمْ يَعْمَلُوا أنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُجَلّى لِشَيْءٍ لَيْسَ كَوْنَهُ مُحِلًّا لَهُ، فَإنَّ الظّاهِرَ في المِرْآةِ خارِجٌ عَنِ المِرْآةِ بِذاتِهِ قَطْعًا بِخِلافِ الحالِّ في مَحَلٍّ فَإنَّهُ حاصِلٌ فِيهِ، فالظُّهُورُ غَيْرُ الحُلُولِ فَإنَّ الظُّهُورَ في المَظاهِرِ لِلْواسِعِ القُدُّوسِ يُجامِعُ التَّنْزِيهَ بِخِلافِ الحُلُولِ، نَعَمْ، وقَعَ في كَلامِهِمُ التَّعْبِيرُ بِالحُلُولِ، ومُرادُهم بِهِ الظُّهُورَ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ:
يا قِبْلَتِي قابِلِينِي بِالسُّجُودِ فَقَدْ ∗∗∗ رَأيْتُ شَخْصًا لِشَخْصٍ فِيَّ قَدْ سَجَدا
لاهُوتُهُ حَلَّ ناسُوتِي فَقَدَّسَنِي ∗∗∗ إنِّي عَجِبْتُ لِمِثْلِي كَيْفَ ما عُبِدا
وكانَ الأوْلى بِحَسَبِ الظّاهِرِ عَدَمُ التَّعْبِيرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، ولَكِنْ لِلْقَوْمِ أحْوالٌ ومَقاماتٌ لا تَصِلُ إلَيْها أفْهامُنا، ولَعَلَّ عُذْرَهم واضِحٌ عِنْدَ المُنْصِفِينَ.
إذا عَلِمْتَ ذَلِكَ وتَحَقَّقْتَ اخْتِلافَ النَّصارى في عَقائِدِهِمْ فاعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما حَكى في بَعْضِ الآياتِ قَوْلَ بَعْضٍ مِنهم وفي بَعْضٍ آخَرَ قَوْلَ آخَرِينَ، وحِكايَةُ دَعْواهم أُلُوهِيَّةَ مَرْيَمَ - عَلَيْها السَّلامُ - كَدَعْواهم أُلُوهِيَّةَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِمّا نَطَقَ بِها القُرْآنُ، ولَمْ يُشَعْ ذَلِكَ عَنْهم صَرِيحًا، لَكِنْ يَلْزَمُهم ذَلِكَ بِناءً عَلى ما حَقَّقَهُ الإمامُ الرّازِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى.
والنَّصارى اليَوْمَ يُنْكِرُونَهُ، واللَّهُ تَعالى أصْدَقُ القائِلِينَ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ مُدَّعِيَ أُلُوهِيَّتَها - عَلَيْها السَّلامُ - صَرِيحًا طائِفَةٌ مِنهم هَلَكَتْ قَدِيمًا، كالطّائِفَةِ اليَهُودِيَّةِ الَّتِي تَقُولُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ تَعالى عَلى ما قِيلَ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ بالِغَ في زَجْرِ القائِلِينَ، فَأرْدَفَ سُبْحانَهُ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ عَزَّ مِن قائِلٍ:
﴿انْتَهُوا﴾ عَنِ القَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ
﴿خَيْرًا لَكُمْ﴾ قَدْ مَرَّ الكَلامُ في أوْجُهِ انْتِصابِهِ
﴿إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ﴾ أيْ: بِالذّاتِ، مُنَزَّهٌ عَنِ التَّعَدُّدِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ
﴿سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ﴾ أيْ: أُسَبِّحُهُ تَسْبِيحًا عَنْ، أوْ مِن أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ، أوْ سَبِّحُوهُ عَنْ أوْ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّ الوَلَدَ يُشابِهُ الأبَ، ويَكُونُ مِثْلَهُ، واللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ التَّشْبِيهِ والمَثَلِ، وأيْضًا الوَلَدُ إنَّما يُطْلَبُ لِيَكُونَ قائِمًا مَقامَ أبِيهِ إذا عُدِمَ ولِذا كانَ التَّناسُلُ، واللَّهُ تَعالى باقٍ لا يَتَطَرَّقُ ساحَتَهُ العَلِيَّةَ فَناءٌ، فَلا يَحْتاجُ إلى ولَدٍ، ولا حِكْمَةَ تَقْتَضِيهِ، وقَدْ عَلِمْتَ ما أوْقَعَ النَّصارى في اعْتِقادِهِمْ أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ابْنُ اللَّهِ تَعالى.
ومِنَ الِاتِّفاقاتِ الغَرِيبَةِ ما نَقَلَهُ مَوْلانا راغِبُ باشا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، مُلَخَّصًا مِن تَعْرِيفاتِ أبِي البَقاءِ قالَ: قالَ الإمامُ العَلّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّهِيرُ بِالبُوصِيرِيِّ - نَوَّرَ اللَّهُ تَعالى ضَرِيحَهُ -: إنَّ بَعْضَ النَّصارى انْتَصَرَ لِدِينِهِ وانْتَزَعَ مِنَ البَسْمَلَةِ الشَّرِيفَةِ دَلِيلًا عَلى تَقْوِيَةِ اعْتِقادِهِ في المَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وصِحَّةِ يَقِينِهِ بِهِ، فَقَلَّبَ حُرُوفَها، ونَكَّرَ مَعْرُوفَها، وفَرَّقَ مَأْلُوفَها، وقَدَّمَ فِيها وأخَّرَ، وفَكَّرَ وقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ عَبَسَ وبَسَرَ، ثُمَّ أدْبَرَ واسْتَكْبَرَ، فَقالَ: قَدِ انْتَظَمَ مِنَ البَسْمَلَةِ ابْنُ اللَّهِ المُحَرَّرُ، فَقُلْتُ لَهُ: حَيْثُ رَضِيتَ البَسْمَلَةَ بَيْنَنا وبَيْنَكَ حَكَمًا، وحُزْتَ مِنها أحْكامًا وحُكْمًا، فَلَتَنْصُرَنَّ البَسْمَلَةُ مِنّا الأخْيارَ عَلى الأشْرارِ، ولَتُفَضِّلَنَّ أصْحابَ الجَنَّةِ عَلى أصْحابِ النّارِ، إذْ قَدْ قالَتْ لَكَ البَسْمَلَةُ بِلِسانِ حالِها: إنَّما اللَّهُ رَبُّ المَسِيحِ، راحِمُ النَّحْرِ لا مِمَّ لَها المَسِيحُ رَبُّ، ما بَرِحَ اللَّهُ راحِمَ المُسْلِمِينَ، سَلِ ابْنَ مَرْيَمَ أحَلَّ لَهُ الحَرامُ، لا المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ المُحَرَّرُ، لا مَرْحَمَ لِلِئامِ أبْناءِ السَّحَرَةِ رَحْمَ حُرٍّ مُسْلِمٍ أنابَ إلى اللَّهِ، لِلَّهِ نَبِيٌّ مُسْلِمٌ حَرامُ الرّاحِ، رَبِحَ رَأْسُ مالِ كَلِمَةِ الإيمانِ، فَإنْ قُلْتَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - رَسُولٌ صَدَّقْتُكَ.
وقالَتْ: إيلُ أرْسَلَ الرَّحْمَةَ بِلَحْمٍ، وإيلُ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى بِلِسانِ كُتُبِهِمْ، وتَرْجَمَةُ بِلَحْمٍ بِبَيْتِ لَحْمٍ، وهو المَكانُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَدُلُّ عَلى إبْطالِ مَذْهَبِ النَّصارى.
ثُمَّ انْظُرْ إلى البَسْمَلَةِ قَدْ تُخْبَرُ أنَّ مِن وراءِ حَلِّها خُيُولًا ولُيُوثًا ومِن دُونِ طَلِّها سُيُولًا وغُيُوثًا، وتَحْسَبُنِي اسْتَحْسَنْتُ كَلِمَتَكَ البارِدَةَ فَنَسَجْتُ عَلى مِنوالِها وقابَلْتُ الواحِدَةَ بِعَشْرِ أمْثالِها، بَلْ أتَيْتُكَ بِما يُغْنِيكَ فَيَبْهَتُكَ، ويُسْمِعُكَ ما يُصِمُّكَ عَنِ الإجابَةِ فَيُصْمِتُكَ، فَتَعْلَمُ أنَّ هَذِهِ البَسْمَلَةَ مُسْتَقَرٌّ لِسائِرِ العُلُومِ والفُنُونِ، ومُسْتَوْدَعٌ لِجَوْهَرِ سِرِّها المَكْنُونِ، ألا تَرى أنَّ البَسْمَلَةَ إذا حَصَّلْتَ جُمْلَتَها كانَ عَدَدُها سَبْعَمِائَةٍ وسِتَّةً وثَمانِينَ، فَوافَقَ جُمَلَها، إنَّ مَثَلَ عِيسى كَآدَمَ، لَيْسَ لِلَّهِ مِن شَرِيكٍ بِحِسابِ الألْفِ الَّتِي بَعْدَ لامَيِ الجَلالَةِ، ولا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشاءُ بِإسْقاطِ ألِفِ الجَلالَةِ، فَقَدْ أجابَتْكَ البَسْمَلَةُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، وجاءَكَ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْها صَبْرًا، انْتَهى.
وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ ذَلِكَ في الباقِي بَعْدَ إسْقاطِ المُكَرَّرِ مِن حُرُوفِ المُعْجَمِ في أوائِلِ السُّوَرِ، حَيْثُ رَتَّبَ الشِّيعِيُّ مِنهُ ما ظَنَّهُ مُقَوِّيًا لِما هو عَلَيْهِ أعَنِي: صِراطُ عَلِيٍّ حَقًّا نُمْسِكُهُ، وقابَلْناهُ بِما يَبْهَتُهُ مُرَتَّبًا مِن هَذِهِ الحُرُوفِ أيْضًا، فَتَذَكَّرْ.
وقَرَأ الحَسَنُ ( إنْ يَكُونُ ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ ورَفْعِ النُّونِ، أيْ: سُبْحانَهُ ما يَكُونُ لَهُ ولَدٌ عَلى أنَّ الكَلامَ جُمْلَتانِ.
﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ التَّنْزِيهِ، وبَيانُ ذَلِكَ أنَّهُ سُبْحانَهُ مالِكٌ لِجَمِيعِ المَوْجُوداتِ عُلْوِيِّها وسُفْلِيِّها، لا يَخْرُجُ مِن مَلَكُوتِهِ شَيْءٌ مِنها، ولَوْ كانَ لَهُ ولَدٌ لَكانَ مِثْلَهُ في المالِكِيَّةِ فَلا يَكُونُ مالِكًا لِجَمِيعِها.
وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ إشارَةٌ إلى دَلِيلٍ آخَرَ؛ لِأنَّ الوَكِيلَ بِمَعْنى الحافِظِ، فَإذا اسْتَقَلَّ سُبْحانَهُ وتَعالى في الحِفْظِ لَمْ يَحْتَجْ إلى الوَلَدِ، فَإنَّ الوَلَدَ يُعِينُ أباهُ في حَياتِهِ ويَقُومُ مَقامَهُ بَعْدَ وفاتِهِ، واللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ هَذا، فَلا يُتَصَوَّرُ لَهُ ولَدٌ عَقْلًا، ويَكُونُ افْتِراؤُهُ حُمْقًا وجَهْلًا.