الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِما ذُكِرَ آنِفًا ﴿وظَلَمُوا﴾ مُحَمَّدًا - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِإنْكارِ نُبُوَّتِهِ، وكِتْمانِ نُعُوتِهِ الجَلِيلَةِ، أوِ النّاسَ بِصَدِّهِمْ لَهم عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، والمُرادُ أنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الكُفْرِ وهَذا النَّوْعِ مِنَ الظُّلْمِ ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ لِاسْتِحالَةِ تَعَلُّقِ المَغْفِرَةِ بِالكافِرِ، والآيَةُ في اليَهُودِ عَلى الصَّحِيحِ، وقِيلَ: إنَّها في المُشْرِكِينَ، وما قَبْلَها في اليَهُودِ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ المُرادَ مِنَ الظُّلْمِ ما لَيْسَ بِكُفْرٍ مِن سائِرِ أنْواعِ الكَبائِرِ، وحَمَلَ الآيَةَ عَلى مَعْنى: إنَّ الَّذِينَ كانَ بَعْضُهم كافِرِينَ وبَعْضُهم ظالِمِينَ أصْحابُ كَبائِرَ ( ﴿لَمْ يَكُنِ﴾ ) إلَخْ، ولا يَخْفى أنَّ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ، لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ إلّا اعْتِقادُ أنَّ العُصاةَ مُخَلَّدُونَ في النّارِ تَخْلِيدَ الكُفّارِ، والآيَةُ تَنْبُو عَنْ هَذا المُعْتَقَدِ؛ فَإنَّهُ قَدْ جُعِلَ فِيها الفِعْلانِ كِلاهُما صِلَةً لِلْمَوْصُولِ فَيَلْزَمُ وُقُوعُ الفِعْلَيْنِ جَمِيعًا مِن كُلِّ واحِدٍ مِن آحادِهِ، ألا تُراكَ إذا قُلْتَ: الزَّيْدُونَ قامُوا، فَقَدْ أسْنَدْتَ القِيامَ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن آحادِ الجَمْعِ، فَكَذَلِكَ لَوْ عَطَفْتَ عَلَيْهِ فِعْلًا آخَرَ لَزِمَ فِيهِ ذَلِكَ ضَرُورَةً، وسِياقُ الآيَةِ أيْضًا يَأْبى ذَلِكَ المَعْنى، لَكِنْ لَمْ يَزَلْ دَيْدَنُ المُعْتَزِلَةِ اتِّباعَ الهَوى فَلا يُبالُونَ بَأيِّ وادٍ وقَعُوا. ﴿ولا لِيَهْدِيَهم طَرِيقًا﴾ ﴿إلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ لِعَدَمِ اسْتِعْدادِهِمْ لِلْهِدايَةِ إلى الحَقِّ والأعْمالِ الصّالِحَةِ الَّتِي هي طَرِيقُ الجَنَّةِ، والمُرادُ مِنَ الهِدايَةِ المَفْهُومَةِ مِنَ الِاسْتِثْناءِ بِطَرِيقِ الإشارَةِ - كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ -: خَلْقُهُ سُبْحانَهُ لِأعْمالِهِمُ السَّيِّئَةِ المُؤَدِّيَةِ لَهم إلى جَهَنَّمَ حَسَبَ اسْتِعْدادِهِمْ، أوْ سُوقُهم إلى جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيامَةِ بِواسِطَةِ المَلائِكَةِ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ التَّعْبِيرَ بِالهِدايَةِ تَهَكُّمٌ إنْ لَمْ يُرَدْ بِها مُطْلَقُ الدَّلالَةِ، والطَّرِيقُ عَلى عُمُومِهِ، والِاسْتِثْناءِ مُتَّصِلٌ (p-23)كَما اخْتارَهُ أبُو البَقاءِ وغَيْرُهُ. وجَوَّزَ السَّمِينُ أنْ يُرادَ بِالطَّرِيقِ شَيْءٌ مَخْصُوصٌ، وهو العَمَلُ الصّالِحُ، والِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ ﴿خالِدِينَ فِيها﴾ حالٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ؛ لِأنَّ الخُلُودَ يَكُونُ بَعْدَ إيصالِهِمْ إلى جَهَنَّمَ، ولَوْ قُدِّرَ ( يُقِيمُونَ خالِدِينَ ) لَمْ يَلْتَئِمْ، وقِيلَ: يُمْكِنُ أنْ يُسْتَغْنى عَنْ جَعْلِهِ حالًا مُقَدَّرَةً بِأنَّ هَذا مِنَ الدَّلالَةِ المُوصِلَةِ إلى جَهَنَّمَ، أوِ الدَّلالَةِ إلى طَرِيقٍ يُوصِلُ إلَيْها، فَهو حالٌ عَنِ المَفْعُولِ بِاعْتِبارِ الإيصالِ لا الدَّلالَةِ، فَتَدَبَّرْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أبَدًا﴾ نُصِبَ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، رافِعٌ احْتِمالَ أنْ يُرادَ بِالخُلُودِ المُكْثُ الطَّوِيلُ ﴿وكانَ ذَلِكَ﴾ أيِ: انْتِفاءُ غُفْرانِهِ وهِدايَتِهِ سُبْحانَهُ إيّاهُمْ، وطَرْحُهم في النّارِ إلى الأبَدِ ﴿عَلى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ سَهْلًا لا صارِفَ لَهُ عَنْهُ، وهَذا تَحْقِيرٌ لِأمْرِهِمْ، وبَيانٌ لِأنَّهُ تَعالى لا يَعْبَأُ بِهِمْ ولا يُبالِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب