الباحث القرآني

﴿واللاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكُمْ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ بَعْضِ الأحْكامِ المُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجالِ والنِّساءِ إثْرَ بَيانِ أحْكامِ المَوارِيثِ، و( اللّاتِي ) جَمْعُ الَّتِي عَلى غَيْرِ قِياسٍ، وقِيلَ: هي صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْجَمْعِ، ومَوْضِعُها رَفْعٌ عَلى الِابْتِداءِ، والفاحِشَةُ ما اشْتَدَّ قُبْحُهُ، واسْتُعْمِلَتْ كَثِيرًا في الزِّنا لِأنَّهُ مِن أقْبَحِ القَبائِحِ، وهو المُرادُ هُنا عَلى الصَّحِيحِ، والإتْيانُ في الأصْلِ المَجِيءُ، وفي «الصَّحّاحِ» يُقالُ: أتَيْتُهُ أتْيًا قالَ الشّاعِرُ: ؎فاخْتَرْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ أتْيِ العَسْكَرِ وأتَوْتُهُ أتْوَةً لُغَةٌ فِيهِ، ومِنهُ قَوْلُ الهُذَلِيِّ: ؎كُنْتُ إذا أتَوْتُهُ مِن غَيْبِ وفِي «القامُوسِ» أتَوْتُهُ أتْوَةً وأتَيْتُهُ أتْيًا وإتْيانًا وإتْيانَةً بِكَسْرِهِما، ومَأْتاةً وإتِيًّا كَعِتِيٍّ، ويُكْسَرُ جِئْتُهُ، وقَدْ يُعَبَّرُ بِهِ كالمَجِيءِ والرَّهَقِ والغِشِيِّ عَنِ الفِعْلِ، وشاعَ ذَلِكَ حَتّى صارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، وهو المُرادُ هُنا فالمَعْنى يَفْعَلْنَ الزِّنا أيْ يَزْنِينَ، والتَّعْبِيرُ بِذَلِكَ لِمَزِيدِ التَّهْجِينِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ ( يَأْتِينَ ) بِالفاحِشَةِ - فالإتْيانُ عَلى أصْلِهِ المَشْهُورِ، و( مِن ) مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن فاعِلِ ( يَأْتِينَ ) والمُرادُ مِنَ النِّساءِ كَما قالَ السُّدِّيُّ وأخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ - النِّساءَ اللّاتِي قَدْ أُنْكِحْنَ وأُحْصِنَّ ومِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ ﴿فاسْتَشْهِدُوا﴾ أيْ فاطْلُبُوا أنْ يَشْهَدَ ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ بِإتْيانِهِنَّ الفاحِشَةَ ﴿أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ أيْ أرْبَعَةً مِن رِجالِ المُؤْمِنِينَ وأحْرارِهِمْ قالَ الزُّهْرِيُّ: «مَضَتِ السُّنَّةُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أنْ لا تُقْبَلَ شَهادَةُ النِّساءِ في الحُدُودِ»، واشْتَرَطَ الأرْبَعَةُ في الزِّنا تَغْلِيظًا عَلى المُدَّعِي وسَتْرًا عَلى العِبادِ، وقِيلَ: لِيَقُومَ نِصابُ الشَّهادَةِ كامِلًا عَلى كُلٍّ واحِدٍ مِنَ الزّانِيَيْنِ كَسائِرِ الحُقُوقِ ولا يَخْفى ضَعْفُهُ، والجُمْلَةُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ والفاءُ مَزِيدَةٌ فِيهِ لِتَضَمُّنِ مَعْنى الشَّرْطِ، وجازَ الإخْبارُ بِذَلِكَ لِأنَّ (p-235)الكَلامَ صارَ في حُكْمِ الشَّرْطِ حَيْثُ وصَلَتِ اللّاتِي بِالفِعْلِ قالَهُ أبُو البَقاءِ وذَكَرَ أنَّهُ إذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْسُنِ النَّصْبُ عَلى الِاشْتِغالِ لِأنَّ تَقْدِيرَ الفِعْلِ قَبْلَ أداةِ الشَّرْطِ لا يَجُوزُ، وتَقْدِيرُهُ بَعْدَ الصِّلَةِ يَحْتاجُ إلى إضْمارِ فِعْلٍ غَيْرِ فاسْتَشْهِدُوا لِأنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يَعْمَلَ النَّصْبُ في اللّاتِي، وذَلِكَ لا يَحْتاجُ إلَيْهِ مَعَ صِحَّةِ الِابْتِداءِ وأجازَ قَوْمٌ النَّصْبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ اقْصِدُوا اللّاتِي أوْ تَعَمَّدُوا، وقِيلَ: الخَبَرُ مَحْذُوفٌ والتَّقْدِيرُ فِيما يُتْلى عَلَيْكم حُكْمُ اللّاتِي، فالجارُّ والمَجْرُورُ هو الخَبَرُ وحُكْمٌ هو المُبْتَدَأُ فَحُذِفا لِدَلالَةِ فاسْتَشْهَدُوا لِأنَّهُ الحُكْمُ المَتْلُوُّ عَلَيْهِمْ، والخِطابُ قِيلَ: لِلْحُكّامِ، وقِيلَ: لِلْأزْواجِ. ﴿فَإنْ شَهِدُوا﴾ عَلَيْهِنَّ بِالإتْيانِ. ﴿فَأمْسِكُوهُنَّ﴾ أيْ فاحْبِسُوهُنَّ عُقُوبَةً لَهُنَّ ﴿فِي البُيُوتِ﴾ واجْعَلُوها سِجْنًا عَلَيْهِنَّ ﴿حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ﴾ المُرادُ بِالتَّوَفِّي أصْلُ مَعْناهُ أيِ الِاسْتِيفاءُ وهو القَبْضُ تَقُولُ: تَوَفَّيْتُ مالِي عَلى فُلانٍ واسْتَوْفَيْتُهُ إذا قَبَضْتَهُ. وإسْنادُهُ إلى المَوْتِ بِاعْتِبارِ تَشْبِيهِهِ بِشَخْصٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَهُناكَ اسْتِعارَةٌ بِالكِنايَةِ والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، والمَعْنى حَتّى يَقْبِضَ أرْواحَهُنَّ المَوْتُ ولا يَجُوزُ أنْ يُرادَ مِنَ التَّوَفِّي مَعْناهُ المَشْهُورُ إذْ يَصِيرُ الكَلامُ بِمَنزِلَةِ حَتّى يُمِيتَهُنَّ المَوْتُ ولا مَعْنى لَهُ إلّا أنْ يُقَدَّرَ مُضافٌ يُسْنَدُ إلَيْهِ الفِعْلُ أيْ مَلائِكَةُ المَوْتِ، أوْ يُجْعَلَ الإسْنادُ مَجازًا مِن إسْنادِ ما لِلْفاعِلِ الحَقِيقِيِّ إلى أثَرِ فِعْلِهِ. ﴿أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا﴾ أيْ مَخْرَجًا مِنَ الحَبْسِ بِما يَشْرَعُهُ مِنَ الحَدِّ لَهُنَّ قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وأخْرَجَ الإمامانِ الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وغَيْرُهُما عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ وارْبَدَّ وجْهُهُ»، وفي لَفْظٍ لِابْنِ جَرِيرٍ «يَأْخُذُهُ كَهَيْئَةِ الغِشِيِّ لِما يَجِدُ مِن ثِقَلِ ذَلِكَ فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ ذاتَ يَوْمٍ فَلَمّا سُرِّيَ عَنْهُ قالَ: ”خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ ورَجْمٌ بِالحِجارَةِ والبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ نَفْيُ سَنَةٍ»“ ورَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ قالَ: كانَتِ المَرْأةُ أوَّلَ الإسْلامِ إذا شَهِدَ عَلَيْها أرْبَعَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عُدُولٌ بِالزِّنا حُبِسَتْ في السَّجْنِ فَإنْ كانَ لَها زَوْجٌ أخَذَ المَهْرَ مِنها ولَكِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْها مِن غَيْرِ طَلاقٍ ولَيْسَ عَلَيْها حَدٌّ ولا يُجامِعُها. ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ كانَتِ المَرْأةُ في بَدْءِ الإسْلامِ إذا زَنَتْ حُبِسَتْ في البَيْتِ وأخَذَ زَوْجُها مَهْرَها حَتّى جاءَتِ الحُدُودُ فَنَسَخَتْها، وحِكايَةُ النَّسْخِ قَدْ ورَدَتْ في غَيْرِ ما طَرِيقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ ورُوِيَتْ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ، وأبِي عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، والنّاسِخُ عِنْدَ بَعْضِ آيَةِ الجَلَدِ عَلى ما في سُورَةِ النُّورِ وعِنْدَ آخَرِينَ إنَّ آيَةَ الحَبْسِ نُسِخَتْ بِالحَدِيثِ، والحَدِيثُ مَنسُوخٌ بِآيَةِ الجَلَدِ، وآيَةُ الجَلَدِ بِدَلائِلِ الرَّجْمِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «مِنَ الجائِزِ أنْ لا تَكُونَ الآيَةُ مَنسُوخَةً بِأنْ يُتْرَكَ ذِكْرُ الحَدِّ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالكِتابِ والسُّنَّةِ، ويُوصِي بِإمْساكِهِنَّ في البُيُوتِ بَعْدَ أنْ يَحْدُدْنَ صِيانَةً لَهُنَّ عَنْ مَثَلِ ما جَرى عَلَيْهِنَّ بِسَبَبِ الخُرُوجِ مِنَ البُيُوتِ والتَّعَرُّضِ لِلرِّجالِ، ويَكُونُ السَّبِيلُ عَلى هَذا النِّكاحِ المُغْنِي عَنِ السِّفاحِ» وقالَ الشَّيْخُ أبُو سُلَيْمانَ الخَطّابِيُّ في «مَعالِمِ السُّنَنِ»: إنَّهُ لَمْ يَحْصُلِ النَّسْخُ في الآيَةِ ولا في الحَدِيثِ وذَلِكَ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ إمْساكَهُنَّ في البُيُوتِ مَمْدُودٌ إلى غايَةِ أنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعالى لَهُنَّ سَبِيلًا، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ السَّبِيلَ كانَ مُجْمَلًا فَلَمّا قالَ ﷺ: «خُذُوا عَنِّي» إلى آخِرِ ما في الحَدِيثِ صارَ ذَلِكَ بَيانًا لِما في تِلْكَ الآيَةِ لا ناسِخًا لَهُ، وصارَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ آيَةِ الجَلْدِ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَكَ في سُورَةِ البَقَرَةِ ما يَنْفَعُكَ في تَحْقِيقِ هَذا المَقامِ فَتَذَكَّرْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب