الباحث القرآني
والخِطابُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ لِلْمُؤْمِنِينَ الصّادِقِينَ بِلا خِلافٍ، والمَوْصُولُ إمّا بَدَلٌ مِنَ ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ﴾ أوْ صِفَةٌ لِلْمُنافِقِينَ فَقَطْ، إذْ هُمُ المُتَرَبِّصُونَ دُونَ الكافِرِينَ.
وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ وغَيْرُهُ كَوْنَهُ صِفَةً لَهُما، أوْ مَرْفُوعًا أوْ مَنصُوبًا عَلى الذَّمِّ، وجَعْلُهُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ الجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ لا يَخْلُو مِن تَكَلُّفٍ، والتَّرَبُّصُ الِانْتِظارُ، والظّاهِرُ مِن كَلامِ البَعْضِ أنَّ مَفْعُولَهُ مُقَدَّرٌ، والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أيْ: يَنْتَظِرُونَ وُقُوعَ أمْرٍ بِكُمْ، وكَلامُ الرّاغِبِ يَقْتَضِي أنَّهُ يَتَعَدّى بِالباءِ؛ لِأنَّهُ مِنِ (انْتَظَرَ بِالسِّلْعَةِ غَلاءَ السِّعْرِ).
والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ لَكم فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ﴾ لِتَرْتِيبِ مَضْمُونِهِ عَلى ما قَبْلَها، فَإنَّ حِكايَةَ تَرَبُّصِهِمْ مُسْتَتْبِعَةٌ لِحِكايَةِ ما يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ، أيْ: فَإنِ اتَّفَقَ لَكم فَتْحٌ وظَفَرٌ عَلى الأعْداءِ ﴿قالُوا﴾ أيْ: لَكم ﴿ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ نُجاهِدُ عَدُوَّكم فَأعْطُونا نَصِيبًا مِنَ الغَنِيمَةِ ﴿وإنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ أيْ: حَظٌّ مِنَ الحَرْبِ، فَإنَّها سِجالٌ ﴿قالُوا﴾ أيِ: المُنافِقُونَ لِلْكُفّارِ ﴿ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ: ألَمْ نَغْلِبْكم ونَتَمَكَّنْ مِن قَتْلِكم وأسْرِكم فَأبْقَيْنا عَلَيْكُمْ، أوْ: ألَمْ نَغْلِبْكم بِالتَّفَضُّلِ ونُطْلِعْكم عَلى أسْرارِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – وأصْحابِهِ، ونَكْتُبْ إلَيْكم بِأخْبارِهِمْ حَتّى غَلَبْتُمْ عَلَيْهِمْ ﴿ونَمْنَعْكم مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ: نَدْفَعْ عَنْكم صَوْلَةَ المُؤْمِنِينَ بِتَخْذِيلِنا إيّاهُمْ، وتَثْبِيطِنا لَهُمْ، وتَوانِينا في مُظاهَرَتِهِمْ، وإلْقائِنا عَلَيْهِمْ ما ضَعُفَتْ بِهِ قُلُوبُهم عَنْ قِتالِكُمْ، فاعْرِفُوا لَنا هَذا الحَقَّ عَلَيْكُمْ، وهاتُوا نَصِيبَنا مِمّا أصَبْتُمْ، وقِيلَ: المَعْنى: ألَمْ نَغْلِبْكم عَلى رَأْيِكم بِالمُوالاةِ لَكُمْ، (ونَمْنَعْكم مِنَ) الدُّخُولِ في جُمْلَةِ (المُؤْمِنِينَ)، وهو خِلافُ الظّاهِرِ.
وأصْلُ الِاسْتِحْواذِ الِاسْتِيلاءُ، وكانَ القِياسُ فِيهِ اسْتَحاذَ يَسْتَحِيذُ اسْتِحاذَةً بِالقَلْبِ، لَكِنْ صَحَّتْ فِيهِ الواوُ وكَثُرَ ذَلِكَ فِيهِ، وفي نَظائِرَ لَهُ حَتّى أُلْحِقَ بِالمَقِيسِ، (p-175)وعُدَّ فَصِيحًا، وقالَ أبُو زَيْدٍ: إنَّهُ قِياسِيٌّ، وعَلى كُلِّ حالٍ لا يُرَدُّ عَلى فَصاحَةِ القُرْآنِ، كَما حُقِّقَ في مَوْضِعِهِ.
وقُرِئَ (ونَمْنَعَكُمْ) بِالنَّصْبِ بِإضْمارِ (أنْ) والتَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُنْ مِنّا الِاسْتِحْواذُ والمَنعُ، كَقَوْلِكَ: لا تَأْكُلِ السَّمَكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ، سُمِّيَ ظَفَرُ المُسْلِمِينَ فَتْحًا وما لِلْكافِرِينَ نَصِيبًا لِتَعْظِيمِ شَأْنِ المُسْلِمِينَ وتَخْسِيسِ حَظِّ الكافِرِينَ، وقِيلَ: سُمِّيَ الأوَّلُ فَتْحًا إشارَةً إلى أنَّهُ مِن مَداخِلِ فَتْحِ دارِ الإسْلامِ، بِخِلافِ ما لِلْكافِرِينَ فَإنَّهُ لا فَتْحٌ لَهم في اسْتِيلائِهِمْ بَلْ سَيَنْطَفِئُ ضِياءُ ما نالُوا.
﴿فاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ فَيُثِيبُ أحِبّاءَهُ ويُعاقِبُ أعْداءَهُ، وأمّا في الدُّنْيا فَأنْتُمْ وهم سَواءٌ في العِصْمَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى وسَلَّمَ: ««فَإذا قالُوها فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهم وأمْوالَهُمْ»» وفي الكَلامِ قِيلَ: تَغْلِيبٌ، وقِيلَ: حَذْفٌ، أيْ: بَيْنَكم وبَيْنَهم.
﴿ولَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾ أيْ: يَوْمَ القِيامَةِ، وحِينَ الحُكْمِ، كَما قَدْ يُجْعَلُ ذَلِكَ في الدُّنْيا ابْتِلاءً واسْتِدْراجًا، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - وابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أوْ في الدُّنْيا، أيْ: لَمْ يَجْعَلْ لَهم عَلى المُؤْمِنِينَ سُلْطانًا تامًّا بِالِاسْتِئْصالِ، أوْ جُحَّةً قائِمَةً عَلَيْهِمْ مُفْحِمَةً لَهُمْ، وحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ السُّدِّيِّ، ويَجُوزُ إبْقاءُ الكَلامِ عَلى إطْلاقِهِ؛ لِيَشْمَلَ الدُّنْيا والآخِرَةَ، ولَعَلَّهُ الأوْلى.
واحْتَجَّ الشّافِعِيَّةُ بِالآيَةِ عَلى فَسادِ شِراءِ الكافِرِ العَبْدَ المُسْلِمَ؛ لِأنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكانَ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ وسَبِيلٌ بِتَمَلُّكِهِ، ونَحْنُ نَقُولُ: يَصِحُّ ولَكِنْ يُمْنَعُ مِنِ اسْتِخْدامِهِ والتَّصَرُّفِ فِيهِ إلّا بِالبَيْعِ والإخْراجِ عَنْ مِلْكِهِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَبِيلٌ عَلَيْهِ.
واحْتَجَّ بِظاهِرِها بَعْضُ الأصْحابِ عَلى وُقُوعِ الفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِرِدَّةِ الزَّوْجِ؛ لِأنَّ عَقْدَ النِّكاحِ يُثْبِتُ لِلزَّوْجِ سَبِيلًا في إمْساكِها في بَيْتِهِ، وتَأْدِيبِها، ومَنعِها مِنَ الخُرُوجِ، وعَلَيْها طاعَتُهُ فِيما يَقْتَضِيهِ عَقْدُ النِّكاحِ، والمُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ شامِلٌ لِلْإناثٍ، وكَذا الكافِرُ إذا أسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ، وضُعِّفَ بِأنَّ الِارْتِدادَ لا يَنْفِي أنْ يَكُونَ النِّكاحُ إذا عادَ إلى الإيمانِ قَبْلَ مُضِيِّ العِدَّةِ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ حِينَ الكُفْرِ لا سَبِيلَ لَهُ، ونَفْيُ السَّبِيلِ بِوُقُوعِ الفُرْقَةِ وبَعْدَ وُقُوعِ الفُرْقَةِ لا بُدَّ لِحُدُوثِ العُلْقَةِ مِن مُوجِبٍ، وهو ظاهِرٌ، فَإنْ كانَ العَوْدُ يَكُونُ الِارْتِدادُ كالطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ، والعَوْدُ كالرَّجْعَةِ فَلا ضَعْفَ فِيهِ.
وأنْتَ تُعْلَمُ أنَّهُ إذا كانَ نَفْيُ السَّبِيلِ في الآخِرَةِ أوْ في الدُّنْيا بِالِاسْتِئْصالِ أوِ السَّبِيلُ بِمَعْنى الحُجَّةِ لا مُتَمَسَّكَ في الآيَةِ لِأصْحابِنا، ولا الشّافِعِيَّةِ، فَلا تَغْفَلْ.
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحࣱ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَـٰفِرِینَ نَصِیبࣱ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَیۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۚ فَٱللَّهُ یَحۡكُمُ بَیۡنَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۗ وَلَن یَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ سَبِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق