الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا﴾ هم قَوْمٌ تَكَرَّرَ مِنهُمُ الِارْتِدادُ، وأصَرُّوا عَلى الكُفْرِ، وازْدادُوا تَمادِيًا في الغَيِّ، وعَنْ مُجاهِدٍ، وابْنِ زَيْدٍ: أنَّهم أُناسٌ مُنافِقُونَ، أظْهَرُوا الإيمانَ، ثُمَّ ارْتَدُّوا، ثُمَّ أظْهَرُوا، ثُمَّ ارْتَدُّوا، ثُمَّ ماتُوا عَلى كُفْرِهِمْ. وجَعَلَها ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - عامَّةً لِكُلِّ مُنافِقٍ في عَهْدِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في البَرِّ والبَحْرِ. وعَنِ الحَسَنِ: أنَّهم طائِفَةٌ مِن (p-171)أهْلِ الكِتابِ أرادُوا تَشْكِيكَ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَكانُوا يُظْهِرُونَ الإيمانَ بِحَضْرَتِهِمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ: قَدْ عَرَضَتْ لَنا شُبْهَةٌ فَيَكْفُرُونَ، ثُمَّ يُظْهِرُونَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: قَدْ عَرَضَتْ لَنا شُبْهَةٌ أُخْرى فَيَكْفُرُونَ، ويَسْتَمِرُّونَ عَلى الكُفْرِ إلى المَوْتِ، وذَلِكَ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالَتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلى الَّذِينَ آمِنُوا وجْهَ النَّهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ . وقِيلَ: هُمُ اليَهُودُ، آمَنُوا بِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ثُمَّ كَفَرُوا بِعِبادَتِهِمُ العَجَلَ حِينَ غابَ عَنْهُمْ، ثُمَّ آمَنُوا عِنْدَ عَوْدِهِ إلَيْهِمْ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ ﷺ- ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتادَةَ. وقالَ الزَّجّاجُ والفَرّاءُ: إنَّهم آمَنُوا بِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَهُ، ثُمَّ آمَنُوا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا بِنَبِيِّنا، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وأُورِدَ عَلى ذَلِكَ بِأنَّ الَّذِينَ ازْدادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ ﷺ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ثُمَّ كافِرِينَ بِعِبادَةِ العِجْلِ أوْ بِشَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ مُؤْمِنِينَ بِعَوْدِهِ إلَيْهِمْ، أوْ بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ كافِرِينَ بِعِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بَلْ هم إمّا مُؤْمِنِينَ بِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ – وغَيْرِهِ، أوْ كُفّارٌ لِكُفْرِهِمْ بِعِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ – والإنْجِيلِ. وأُجِيبَ بِأنَّهُ لَمْ يُرِدْ عَلى هَذا قَوْمٌ بِأعْيانِهِمْ، بَلِ الجِنْسَ، ويَحْصُلُ التَّبْكِيتُ عَلى اليَهُودِ المَوْجُودِينَ بِاعْتِبارٍ ما صَدَرَ مِن بَعْضِهِمْ كَأنَّهُ صَدَرَ مِن كُلِّهِمْ. والَّذِي يَمِيلُ القَلْبُ إلَيْهِ أنَّ المُرادَ قَوْمٌ تَكَرَّرَ مِنهُمُ الِارْتِدادُ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونُوا مُنافِقِينَ أوْ غَيْرَهُمْ، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - أنَّهُ قالَ في المُرْتَدِّ: «إنْ كُنْتُ لَمُسْتَتِيبُهُ ثَلاثًا» ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ، وإلى رَأْيِ الإمامِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - ذَهَبَ بَعْضُ الأئِمَّةِ، فَقالَ: يَقْتَلُ المُرْتَدُّ في الرّابِعَةِ ولا يُسْتَتابُ، وكَأنَّهُ أرادَ أنَّهُ لا فائِدَةَ مِنَ الِاسْتِتابَةِ إذْ لا مَنفَعَةَ، وعَلَيْهِ فالمُرادُ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم سَبِيلا﴾ أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ أصْلًا وإنْ تابُوا، وعَلى القَوْلِ المَشْهُورِ الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ: المُرادُ مِن نَفْيِ المَغْفِرَةِ والهِدايَةِ نَفْيُ ما يَقْتَضِيهِما وهو الإيمانُ الخاصُّ الثّابِتُ، ومَعْنى نَفْيِهِ اسْتِبْعادُ وُقُوعِهِ، فَإنَّ مَن تَكَرَّرَ مِنهُمُ الِارْتِدادَ وازْدِيادَ الكُفْرِ والإصْرارَ عَلَيْهِ صارُوا بِحَيْثُ قَدْ ضُرِبَتْ قُلُوبُهم بِالكُفْرِ، وتَمَرَّنَتْ عَلى الرِّدَّةِ، وكانَ الإيمانُ عِنْدَهم أدْوَنَ شَيْءٍ وأهْوَنَهُ، فَلا يَكادُونَ يَقْرَبُونَ مِنهُ قِيدَ شِبْرٍ لِيَتَأهَّلُوا لِلْمَغْفِرَةِ، وهِدايَةِ سَبِيلِ الجَنَّةِ، لا أنَّهم لَوْ أخْلَصُوا الإيمانَ لَمْ يُقْبَلْ مِنهُمْ، ولَمْ يُغْفَرْ لَهم. وخَصَّ بَعْضُهم عَدَمَ الِاسْتِتابَةِ بِالمُتَلاعِبِ المُسْتَخِفِّ إذا قامَتْ قَرِينَةٌ عَلى ذَلِكَ، وخَبَرُ (كانَ) في أمْثالِ هَذا المَوْضِعِ مَحْذُوفٌ، وبِهِ تَتَعَلَّقُ اللّامُ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ البَصْرِيُّونَ، أيْ: ما كانَ اللَّهُ تَعالى مُرِيدًا لِلْغُفْرانِ لَهُمْ، ونَفْيُ إرادَةِ الفِعْلِ أبْلَغُ مِن نَفْيِهِ. وذَهَبَ الكُوفِيُّونَ إلى أنَّ اللّامَ زائِدَةٌ، والخَبَرَ هو الفِعْلُ، وضُعِّفَ بَأنَّ ما بَعْدَها قَدِ انْتَصَبَ، فَإنْ كانَ النَّصْبُ بِاللّامِ نَفْسِها فَلَيْسَتْ بِزائِدَةٍ، وإنْ كانَ بِـ(أنْ) فَفاسِدٌ لِما فِيهِ مِنَ الإخْبارِ بِالمَصْدَرِ عَنِ الذّاتِ، وأُجِيبَ بِاخْتِيارِ الشِّقِّ الأوَّلِ، وأنَّهُ لا مانِعَ مِنَ العَمَلِ مَعَ الزِّيادَةِ كَما في حُرُوفِ الجَرِّ الزّائِدَةِ، وبِاخْتِيارِ الشِّقِّ الثّانِي، وامْتِناعُ الإخْبارِ بِالمَصْدَرِ عَنِ الذّاتِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ دالًّا بِصِيغَتِهِ عَلى فاعِلٍ وعَلى زَمانٍ دُونَ زَمانٍ، والفِعْلُ المُصَدَّرُ بِـ(أنْ) يَدُلَّ عَلَيْهِما فَيَجُوزُ الإخْبارُ بِهِ - وإنْ لَمْ يَجُزْ بِالمَصْدَرِ - ولا يَخْفى ما فِيهِ، فَإنَّ الإخْبارَ عَلى هَذا بِالفِعْلِ لا بِالمَصْدَرِ، وإنَّ أُوِّلَ المَصْدَرُ بِاسْمِ الفاعِلِ لا بِهِ أيْضًا، فافْهَمْ. واخْتارَ قَوْمٌ في القَوْمِ ما ذَهَبَ إلَيْهِ مُجاهِدٌ، وأُيِّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأنَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ ووُضِعَ فِيهِ (بَشِّرْ) مَوْضِعَ (أنْذِرْ) تَهَكُّمًا بِهِمْ، فَفي الكَلامِ اسْتِعارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، وقِيلَ: مَوْضِعَ (أخْبِرْ) فَهُناكَ مَجازٌ مُرْسَلٌ تَهَكُّمِيٌّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب