الباحث القرآني

﴿وإنِ امْرَأةٌ خافَتْ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ أحْكامٍ لَمْ تُبَيَّنْ قَبْلُ. وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ««خَشِيَتْ سَوْدَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - أنْ يُطَلِّقَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ لا تُطَلِّقْنِي واجْعَلْ يَوْمِي لِعائِشَةَ، فَفَعَلَ، ونَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ»». وأخْرَجَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ: ««أنَّ ابْنَةَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةِ كانَتْ عِنْدَ رافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَكَرِهَ مِنها أمْرًا إمّا كِبْرًا أوْ غَيْرَهُ، فَأرادَ طَلاقَها فَقالَتْ: لا تُطَلِّقْنِي واقْسِمْ لِي ما بَدا لَكَ فاصْطَلَحا عَلى صُلْحٍ فَجَرَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ ونَزَلَ القُرْآنُ»». وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُجاهِدٍ، أنَّها نَزَلَتْ في أبِي السّائِبِ. أيْ: وإنْ خافَتِ امْرَأةٌ خافَتْ، فَهو مِن بابِ الِاشْتِغالِ، وزَعَمَ الكُوفِيُّونَ أنَّ (امْرَأةٌ) مُبْتَدَأٌ وما بَعْدَهُ الخَبَرُ ولَيْسَ بِالمَرْضِيِّ، وقَدَّرَ بَعْضُهم هَنا كانَتْ لِاطِّرادِ حَذْفِ كانَ بَعْدَ إنَّ، ولَمْ يَجْعَلْهُ مِنَ الِاشْتِغالِ، وهو مُخالِفٌ لِلْمَشْهُورِ بَيْنَ الجُمْهُورِ. والخَوْفُ إمّا عَلى حَقِيقَتِهِ أوْ بِمَعْنى التَّوَقُّعِ أيْ: وإنِ امْرَأةٌ تَوَقَّعَتْ لِما ظَهَرَ لَها مِنَ المَخايِلِ ﴿مِن بَعْلِها﴾ أيْ: زَوْجِها، وهو مُتَعَلِّقٌ بِـ(خافَتْ) أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿نُشُوزًا﴾ أيِ: اسْتِعْلاءً وارْتِفاعًا بِنَفْسِهِ عَنْها إلى غَيْرِها لِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ، ويُطْلَقُ عَلى كُلٍّ مِن صِفَةِ أحَدِ الزَّوْجَيْنِ ﴿أوْ إعْراضًا﴾ أيِ: انْصِرافًا بِوَجْهِهِ أوْ بِبَعْضِ مَنافِعِهِ الَّتِي كانَتْ لَها مِنهُ، وفي البَحْرِ: النُّشُوزُ أنْ يَتَجافى عَنْها، بِأنْ يَمْنَعَها نَفْسَهُ ونَفَقَتَهُ، والمَوَدَّةَ الَّتِي بَيْنَهُما، وأنْ يُؤْذِيَها بِسَبٍّ أوْ ضَرْبٍ مَثَلًا، والإعْراضُ أنْ يُقَلِّلَ مُحادَثَتَها ومُؤانَسَتَها لِطَعْنٍ في سِنٍّ، أوْ دَمامَةٍ، أوْ شَيْنٍ في خَلْقٍ أوْ خُلُقٍ، أوْ مَلالٍ، أوْ طُمُوحِ عَيْنٍ إلى أُخْرى، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وهو أخَفُّ مِنَ النُّشُوزِ ﴿فَلا جُناحَ﴾ أيْ: فَلا حَرَجَ ولا إثْمَ ﴿عَلَيْهِما﴾ أيِ: المَرْأةِ وبَعْلِها حِينَئِذٍ. ﴿أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا﴾ أيْ: في أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما، بِأنْ تَتْرُكَ المَرْأةُ لَهُ يَوْمَها كَما فَعَلَتْ سَوْدَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أوْ تَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ ما يَجِبُ لَها مِن نَفَقَةٍ أوَكِسْوَةٍ، أوْ تَهَبَهُ المَهْرَ، أوْ شَيْئًا مِنهُ، أوْ تُعْطِيَهُ مالًا لِتَسْتَعْطِفَهُ بِذَلِكَ، وتَسْتَدِيمَ المُقامَ في حِبالِهِ، وصُدِّرَ ذَلِكَ بِنَفْيِ الجُناحِ لِنَفْيِ ما يُتَوَهَّمُ مِن أنَّ ما يُؤْخَذُ كالرِّشْوَةِ فَلا يَحِلٌّ. وقَرَأ غَيْرُ أهْلِ الكُوفَةِ (يَصّالَحا) بِفَتْحِ الياءِ، وتَشْدِيدِ الصّادِ، وألِفٍ بَعْدَها، وأصْلُهُ (يَتَصالَحا) فَأُبْدِلَتِ التّاءُ صادًا، وأُدْغِمَتْ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ (يَصَّلَحا) بِالفَتْحِ والتَّشْدِيدِ (p-162)مِن غَيْرِ ألِفٍ، وأصْلُهُ (يَصْطَلِحا) فَخُفِّفَ بِإبْدالِ الطّاءِ المُبْدَلَةِ مِن تاءِ الِافْتِعالِ صادًّا، وأُدْغِمَتِ الأُولى فِيها، لا أنَّهُ أُبْدِلَتِ التّاءُ ابْتِداءً صادًّا وأُدْغِمَ كَما قالَ أبُو البَقاءِ؛ لِأنَّ تاءَ الِافْتِعالِ يَجِبُ قَلْبَها طاءٌ بَعْدَ الأحْرُفِ الأرْبَعَةِ. وقُرِئَ (يَصْطَلِحا) وهو ظاهِرٌ و(صُلْحًا) عَلى قِراءَةِ أهْلِ الكُوفَةِ إمّا مَفْعُولٌ بِهِ عَلى مَعْنى يُوَقِّعا الصُّلْحَ، أوْ بِواسِطَةِ حَرْفٍ أيْ: يُصْلِحُ، والمُرادُ بِهِ ما يُصْلَحُ بِهِ، و(بَيْنَهُما) ظَرْفٌ ذُكِرَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ لا يَطَّلِعَ النّاسُ عَلى ما بَيْنَهُما بَلْ يَسْتُرانِهِ عَنْهُمْ، أوْ حالٌ مِن (صُلْحًا) أيْ: كائِنًا بَيْنَهُما، وإمّا مَصْدَرٌ مَحْذُوفُ الزَّوائِدِ، أوْ مِن قَبِيلِ (أنْبَتَها اللَّهُ نَباتًا) و(بَيْنَهُما) هو المَفْعُولُ عَلى أنَّهُ اسْمٌ بِمَعْنى التَّبايُنِ والتَّخالُفِ، أوْ عَلى التَّوَسُّعِ في الظَّرْفِ لا عَلى تَقْدِيرِ ما بَيْنَهُما كَما قِيلَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (بَيْنَهُما) ظَرْفًا، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أيْ: حالَهُما ونَحْوَهُ، وعَلى قِراءَةِ غَيْرِهِمْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ واقِعًا مَوْقِعَ (تَصالَحا) و(اصْطِلاحًا) وأنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِفِعْلٍ مُتَرَتِّبٍ عَلى المَذْكُورِ، أيْ: فَيُصْلِحُ حالَهُما (صُلْحًا) واحْتِمالُ هَذا في القِراءَةِ الأُولى بَعِيدٌ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ (يَصّالَحا) أوْ (يَصَّلَحا) بِصُلْحٍ أيْ: بِشَيْءٍ تَقَعُ بِسَبَبِهِ المُصالَحَةُ. ﴿والصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ أيْ: مِنَ الفُرْقَةِ وسُوءِ العِشْرَةِ، أوْ مِنَ الخُصُومَةِ، فاللّامُ لِلْعَهْدِ، وإثْباتُ الخَيْرِيَّةِ لِلْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ، والتَّقْدِيرُ أيْ: إنْ يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ فَهَذا أخْيَرُ مِنهُ، وإلّا فَلا خَيْرِيَّةَ فِيما ذُكِرَ، ويَجُوزُ أنْ لا يُرادَ بِـ(خَيْرٌ) التَّفْضِيلُ، بَلْ يُرادُ بِهِ المَصْدَرُ أوِ الصِّفَةُ، أيْ أنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الخُيُورِ، فاللّامُ لِلْجِنْسِ، وقِيلَ: إنَّ اللّامَ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ تَحْتَمِلُ العَهْدِيَّةَ والجِنْسِيَّةَ، والجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةٌ، وكَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ﴾ ولِذَلِكَ اغْتُفِرَ عَدَمُ تَجانُسِهِما؛ إذِ الأُولى اسْمِيَّةٌ والثّانِيَةُ فِعْلِيَّةٌ، ولا مُناسَبَةَ مَعْنًى بَيْنَهُما، وفائِدَةُ الأُولى التَّرْغِيبُ في المُصالَحَةِ، والثّانِيَةُ تَمْهِيدٌ لِلْعُذْرِ في المُماسَكَةِ والمَشاقَّةِ كَما قِيلَ. وحَضَرَ مُتَعَدٍّ لِواحِدٍ، وأحْضَرَ لِاثْنَيْنِ، والأوَّلُ هو (الأنْفَسُ) القائِمُ مَقامَ الفاعِلِ، والثّانِي (الشُّحَّ) والمُرادُ: أحْضَرَ اللَّهُ تَعالى (الأنْفُسُ الشُّحَّ) وهو البُخْلُ مَعَ الحِرْصِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ القائِمُ مَقامَ الفاعِلِ هو الثّانِي، أيْ: إنَّ الشُّحَّ جُعِلَ حاضِرًا لَها لا يَغِيبُ عَنْها أبَدًا، أوْ أنَّها جُعِلَتْ حاضِرَةً لَهُ مَطْبُوعَةً عَلَيْهِ، فَلا تَكادُ المَرْأةُ تَسْمَحُ بِحُقُوقِها مِنَ الرِّجالِ ولا الرَّجُلُ يَكادُ يَجُودُ بِالإنْفاقِ وحُسْنِ المُعاشَرَةِ مَثَلًا عَلى الَّتِي لا يُرِيدُها. وذَكَرَ شَيْخُ الإسْلامِ أنَّ في ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلصُّلْحِ وتَقْرِيرًا لَهُ، يُحَثُّ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَيْهِ، لَكِنْ لا بِالنَّظَرِ إلى حالِ نَفْسِهِ فَإنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي التَّمادِي في الشِّقاقِ، بَلْ بِالنَّظَرِ إلى حالِ صاحِبِهِ، فَإنْ شُحَّ نَفْسِ الرَّجُلِ وعَدَمَ مَيْلِها عَنْ حالَتِها الجِبِلِّيَّةِ بِغَيْرِ اسْتِمالَةٍ مِمّا يَحْمِلُ المَرْأةَ عَلى بَذْلِ بَعْضِ حُقُوقِها إلَيْهِ لِاسْتِمالَتِهِ، وكَذا شُحُّ نَفْسِها بِحُقُوقِها مِمّا يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلى أنْ يَقْنَعَ مِن قِبَلِها بِشَيْءٍ يَسِيرٍ ولا يُكَلِّفَها بَذْلَ الكَثِيرِ، فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ الصُّلْحِ الَّذِي هو خَيْرٌ. ﴿وإنْ تُحْسِنُوا﴾ في العِشْرَةِ مَعَ النِّساءِ، ﴿وتَتَّقُوا﴾ النُّشُوزَ والإعْراضَ، وإنْ تَظافَرَتِ الأسْبابُ الدّاعِيَةُ إلَيْهِما، وتَصْبِرُوا عَلى ذَلِكَ، ولَمْ تَضْطَرُّوهُنَّ عَلى فَوْتِ شَيْءٍ مِن حُقُوقِهِنَّ أوْ بَذْلِ ما يَعِزُّ عَلَيْهِنَّ. ﴿فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ﴾ مِنَ الإحْسانِ والتَّقْوى، أوْ بِجَمِيعِ ما تَعْمَلُونَ، ويَدْخُلُ فِيهِ ما ذُكِرَ دُخُولًا أوَّلِيًّا ﴿خَبِيرًا﴾ فَيُجازِيكم ويُثِيبُكم عَلى ذَلِكَ، وقَدْ أقامَ سُبْحانَهُ كَوْنَهُ عالِمًا مُطَّلِعًا أكْمَلَ اطِّلاعٍ عَلى أعْمالِهِمْ مَقامَ مُجازاتِهِمْ وإثابَتِهِمْ عَلَيْها، الَّذِي هو في الحَقِيقَةِ جَوابُ الشَّرْطِ إقامَةَ السَّبَبِ مَقامَ المُسَبَّبِ، ولا يَخْفى ما في خِطابِ الأزْواجِ بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ، والتَّعْبِيرِ عَنْ رِعايَةِ حُقُوقِهِنَّ بِالإحْسانِ، ولَفْظِ التَّقْوى المُنْبِئِ عَنْ كَوْنِ النُّشُوزِ والإعْراضِ مِمّا يُتَوَقّى مِنهُ، وتَرْتِيبِ الوَعْدِ الكَرِيمِ عَلى ذَلِكَ مِن لُطْفِ الِاسْتِمالَةِ، والتَّرْغِيبِ في حُسْنِ المُعامَلَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب