الباحث القرآني
﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ﴾ عَلى أنَّهُ كالتَّعْلِيلِ لِوُجُوبِ العَمَلِ، وما بَيْنَهُما مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ومَن أحْسَنُ دِينًا﴾ اعْتِراضٌ، أيْ: إنَّ جَمِيعَ ما في العُلُوِّ والسُّفْلِ مِنَ المَوْجُوداتِ لِلَّهِ تَعالى خَلْقًا ومِلْكًا لا يَخْرُجُ مِن مَلَكُوتِهِ شَيْءٌ مِنها، فَيُجازِي كُلًّا بِمُوجَبِ أعْمالِهِ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وأنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ﴾ إلَخْ، بِناءً عَلى أنَّ مَعْناهُ اخْتارَهُ واصْطَفاهُ، أيْ: هو مالِكٌ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ فَيَخْتارُ مَن يُرِيدُهُ مِنهم كَإبْراهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَهو لِبَيانِ أنَّ اصْطَفاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ تَعالى.
وقِيلَ: لِبَيانِ أنَّ اتِّخاذَهُ تَعالى إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -خَلِيلًا لَيْسَ لِاحْتِياجِهِ سُبْحانَهُ إلى ذَلِكَ لِشَأْنٍ مِن شُئُونِهِ كَما هو دَأْبُ المَخْلُوقِينَ - فَإنَّ مَدارَ خُلَّتِهِمُ افْتِقارُ بَعْضِهِمْ إلى بَعْضٍ في مَصالِحِهِمْ - بَلْ لِمُجَرَّدِ تَكْرِمَتِهِ وتَشْرِيفِهِ، وفِيهِ أيْضًا إشارَةٌ إلى أنْ خُلَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لا تُخْرِجُهُ عَنِ العُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعالى.
﴿وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ إحاطَةُ عِلْمٍ وقُدْرَةٍ بِناءً عَلى أنَّ حَقِيقَةً الإحاطَةِ في الأجْسامِ، فَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ، فَلا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وارْتِكابِ المَجازِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الخَلَفُ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِهِ ما قَبْلَهُ عَلى سائِرِ وُجُوهِهِ.
* * *
هَذا، ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ: ﴿وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ﴾ أيْ: سافَرْتُمْ في أرْضِ الِاسْتِعْدادِ لِمُحارَبَةِ عَدُوِّ النَّفْسِ، أوْ تَحْصِيلِ أحْوالِ الكِمالاتِ (فَلا جُناحَ عَلَيْكم أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) أيْ: تَنْقُصُوا مِنَ (p-157)الأعْمالِ البَدَنِيَّةِ ﴿إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ: حُجِبُوا عَنِ الحَقِّ مِن قُوى الوَهْمِ والتَّخَيُّلِ، وحاصِلُهُ التَّرْخِيصُ لِأرْبابِ السُّلُوكِ عِنْدَ خَوْفِ فِتْنَةِ القُوى أنْ يَنْقُصُوا مِنَ الأعْمالِ البَدَنِيَّةِ ويَزِيدُوا في الأعْمالِ القَلْبِيَّةِ كالفِكْرِ والذِّكْرِ؛ لِيَصِفُوَ القَلْبُ، ويُشْرِقَ نُورُهُ عَلى القُوى، فَتَقِلَّ غائِلَتُها، فَتَزْكُوَ عِنْدَ ذَلِكَ الأعْمالُ البَدَنِيَّةُ، ولا يَجُوزُ عِنْدَ أهْلِ الِاخْتِصاصِ تَرْكُ الفَرائِضِ لِذَلِكَ كَما زَعَمَهُ بَعْضُ الجَهَلَةِ.
﴿وإذا كُنْتَ فِيهِمْ﴾ ولَمْ تَكُنْ غائِبًا عَنْهم بِسَيْرِكَ في غَيْبِ الغَيْبِ، وجَلالِ المُشاهِدَةِ، وعائِمًا في بِحارِ «لِي مَعَ اللَّهِ تَعالى وقْتٌ لا يَسَعُنِي فِيهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ» ﴿فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ أيِ: الأعْمالَ البَدَنِيَّةَ ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ ولِيَفْعَلُوا كَما تَفْعَلُ ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ مِن قُوى الرُّوحِ، ويَجْمَعُوا حَواسَّهم لِيَتَأتّى لَهُمُ المُشابَهَةُ، أوْ لِيَقِفُوا عَلى ما في فِعْلِكَ مِنَ الأسْرارِ فَلا تُضِلُّهُمُ الوَساوِسُ ﴿فَإذا سَجَدُوا﴾ وبَلَغُوا الغايَةَ في مَعْرِفَةِ ما أقَمْتَهُ لَهُمْ، وأتَوْا بِهِ عَلى وجْهِهِ ﴿فَلْيَكُونُوا مِن ورائِكُمْ﴾ ذابِّينَ عَنْكُمُ اعْتِراضَ الجاهِلِينَ، أوْ قائِمِينَ بِحَوائِجِكُمُ الضَّرُورِيَّةِ ﴿ولْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى﴾ مِنهم ﴿لَمْ يُصَلُّوا﴾ بَعْدُ ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ ولْيَفْعَلُوا فِعْلَكَ ﴿ولْيَأْخُذُوا حِذْرَهم وأسْلِحَتَهُمْ﴾ كَما أخَذَ الأوَّلُونَ أسْلِحَتَهُمْ، وإنَّما أمَرَ هَؤُلاءِ بِأخْذِ الحَذَرِ أيْضًا حَثًّا لَهم عَلى مَزِيدِ الِاحْتِياطِ؛ لِئَلّا يُقَصِّرُوا فِيها، يُرادُ مِنهُمُ اتِّكالًا عَلى الأخْذِ بَعْدُ مِمَّنْ أخَذَ أوَّلًا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وحاصِلُ هَذا الإشارَةُ إلى أنَّ تَعْلِيمَ الشَّرائِعِ والآدابِ لِلْمُرِيدِينَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ لِطائِفَةٍ طائِفَةٍ مِنهُمْ؛ لِيَتَمَكَّنَ ذَلِكَ لَدَيْهِمْ أتَمَّ تَمَكُّنٍ، وقِيلَ: الطّائِفَةُ الأوْلى إشارَةٌ إلى الخَواصِّ، والثّانِيَةُ إلى العَوامِّ، ولِهَذا اكْتُفِيَ في الأوَّلِ بِالأمْرِ بِأخْذِ الأسْلِحَةِ، وفي الثّانِي أمْرُ الحَذَرِ أيْضًا ﴿ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهم قُوى النَّفْسِ الأمّارَةِ ﴿لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكُمْ﴾ وهي قُوى الرُّوحِ ﴿وأمْتِعَتِكُمْ﴾ وهي المَعارِفُ الإلَهِيَّةُ ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكم مَيْلَةً واحِدَةً﴾ ويَرْمُونَكم بِنِبالِ الآفاتِ والشُّكُوكِ ويُهْلِكُونَكم ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم إنْ كانَ بِكم أذًى﴾ بِأنْ أصابَكم شُؤْبُوبٌ ﴿مِن مَطَرٍ﴾ يَعْنِي مَطَرَ سَحائِبِ التَّجَلِّياتِ ﴿أوْ كُنْتُمْ مَرْضى﴾ بِحُمّى الوَجْدِ والغَرامِ، وعَجَزْتُمْ عَنْ أعْمالٍ القُوى الرُّوحانِيَّةِ ﴿أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ﴾ وتَتْرُكُوا أعْمالَ تِلْكَ القُوى، حَتّى يَتَجَلّى ذَلِكَ السَّحابُ، ويَنْقَطِعَ المَطَرُ، وتَهْتَزَّ أرْضُ قُلُوبِكم بِأزْهارِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى، وتُطْفَأ حُمّى الوَجْدِ بِمِياهِ القُرْبِ ﴿وخُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ عِنْدَ وضْعِ أسْلِحَتِكُمْ، واحْفَظُوا قُلُوبَكم مِنَ الِالتِفاتِ إلى غَيْرِ اللَّهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ تَعالى ﴿أعَدَّ لِلْكافِرِينَ﴾ مِنَ القُوى النَّفْسانِيَّةِ ﴿عَذابًا مُهِينًا﴾ أيْ: مُذِلًّا لَهُمْ، وذَلِكَ عِنْدَ حِفْظِ القَلْبِ، وتَنُّورِ الرُّوحِ.
﴿فَإذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ﴾ أيْ: أدَّيْتُمُوها ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ في جَمِيعِ الأحْوالِ ﴿قِيامًا﴾ في مَقامِ الرُّوحِ بِالمُشاهَدَةِ ﴿وقُعُودًا﴾ في مَحَلِّ القَلْبِ بِالمُكاشَفَةِ ﴿وعَلى جُنُوبِكُمْ﴾ أيْ: تَقَلُّباتِكم في مَكانِ النَّفْسِ بِالمُجاهِدَةِ ﴿فَإذا اطْمَأْنَنْتُمْ﴾ ووَصَلْتُمْ إلى مَحَلِّ البَقاءِ ﴿فَأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ فَأدُّوها عَلى الوَجْهِ الأتَمِّ لِسَلامَةِ القَلْبِ حِينَئِذٍ عَنِ الوَساوِسِ النَّفْسانِيَّةِ، الَّتِي هي بِمَنزِلَةِ الحَدَثِ عِنْدَ أهْلِ الِاخْتِصاصِ ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ فَلا تَسْقُطُ عَنْهم ما دامَ العَقْلُ والحَياةُ ﴿ولا تَهِنُوا في ابْتِغاءِ القَوْمِ﴾ الَّذِينَ يُحارِبُونَكم وهُمُ النَّفْسُ وقُواها ﴿فَإنَّهم يَأْلَمُونَ﴾ مِنكم لِمَنعِكم لَهم عَنْ شَهَواتِهِمْ ﴿كَما تَأْلَمُونَ﴾ مِنهم لِمُعارَضَتِهِمْ لَكم عَنِ المَسِيرِ إلى اللَّهِ تَعالى ﴿وتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ أيْ: تَأْمُلُونَ مِنهُ سُبْحانَهُ ﴿ما لا يَرْجُونَ﴾ لِأنَّكم تَرْجُونَ التَّنَعُّمَ بِجَنَّةِ القُرْبِ والمُشاهَدَةِ، ولا يَخْطُرُ ذَلِكَ لَهم بِبالٍ، أوْ تَخافُونَ القَطِيعَةَ وهم لا يَخافُونَها ﴿وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ فَيَعْلَمُ أحْوالَكم وأحْوالَهم ﴿حَكِيمًا﴾ فَيَفِيضُ عَلى القَوابِلِ حَسَبَ القابِلِيّاتِ.
﴿إنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ أيْ: عِلْمَ تَفاصِيلِ الصِّفاتِ وأحْكامِ تَجَلِّياتِها ﴿بِالحَقِّ﴾ مُتَلَبِّسًا ذَلِكَ الكِتابَ بِالصِّدْقِ، أوْ قائِمًا أنْتَ بِالحَقِّ لا بِنَفْسِكَ ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ﴾ خَواصِّهِمْ وعَوامِّهِمْ ﴿بِما أراكَ اللَّهُ﴾ أيْ: بِما عَلَّمَكَ اللَّهُ سُبْحانَهُ (p-158)مِنَ الحِكْمَةِ ﴿ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ﴾ الَّذِينَ لَمْ يُؤَدُّوا أمانَةَ اللَّهِ تَعالى، الَّتِي أُودِعَتْ عِنْدَهم في الأزَلِ مِمّا ذُكِرَ في اسْتِعْدادِهِمْ مِن إمْكانِ طاعَتِهِ وامْتِثالِ أمْرِهِ ﴿خَصِيمًا﴾ تَدْفَعُ عَنْهُمُ العِقابَ، وتُسَلِّطُ الخَلْقَ عَلَيْهِمْ بِالذُّلِّ والهَوانِ، أوْ تَقُولُ لِلَّهِ تَعالى: يا رَبِّ لِمَ خَذَلْتَهم وقَهَرْتَهُمْ؛ فَإنَّهم ظالِمُونَ، ولِلَّهِ تَعالى الحُجَّةُ البالِغَةُ عَلَيْهِمْ.
﴿واسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ مِنَ المَيْلِ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الرَّحْمَةُ الَّتِي أحاطَتْ بِكَ ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فَيَفْعَلُ ما تَطْلُبُهُ مِنهُ وزِيادَةً ﴿ولا تُجادِلْ﴾ أحَدًا عَنِ ﴿الَّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ﴾ بِتَضْيِيعِ حُقُوقِها ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كانَ خَوّانًا﴾ لِنَفْسِهِ ﴿أثِيمًا﴾ مُرْتَكِبًا الإثْمَ، مَيّالًا مَعَ الشَّهَواتِ.
﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ﴾ بِكِتْمانِ رَذائِلِهِمْ وصِفاتِ نُفُوسِهِمْ ﴿ولا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾ بِإزالَتِها وقَلْعِها ﴿وهُوَ مَعَهُمْ﴾ مُحِيطٌ بِظَواهِرِهِمْ وبَواطِنِهِمْ ﴿إذْ يُبَيِّتُونَ﴾ أيْ: يُدَبِّرُونَ في ظُلْمَةِ عالَمِ النَّفْسِ والطَّبِيعَةِ ﴿ما لا يَرْضى مِنَ القَوْلِ﴾ مِنَ الوَهْمِيّاتِ والتَّخَيُّلاتِ الفاسِدَةِ ﴿وكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ فَيُجازِيهِمْ حَسَبَ أعْمالِهِمْ.
﴿ومَن يَعْمَلْ سُوءًا﴾ بِظُهُورِ صِفَةٍ مِن صِفاتِ نَفْسِهِ ﴿أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ بِنَقْصِ شَيْءٍ مِن كِمالاتِها ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ ويَطْلُبُ مِنهُ سَتْرَ ذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ والتَّذَلُّلِ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴿يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فَيَسْتُرُ ويُعْطِي ما يَقْتَضِيهِ الِاسْتِعْدادُ ﴿ومَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾ بِإظْهارِ بَعْضِ الرَّذائِلِ ﴿أوْ إثْمًا﴾ بِمَحْوِ ما في الِاسْتِعْدادِ ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ بِأنْ يَقُولَ: حَمَلَنِي اللَّهُ تَعالى عَلى ذَلِكَ، أوْ حَمَلَنِي فُلانٌ عَلَيْهِ ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا﴾ حَيْثُ فَعَلَ ونَسَبَ فِعْلَهُ إلى الغَيْرِ، ولَوْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَعِدَّةً لِذَلِكَ طالِبَةً لَهُ بِلِسانِ الِاسْتِعْدادِ في الأزَلِ لَمْ يُفِضْ عَلَيْهِ ولَمْ يَبْرُزْ إلى ساحَةِ الوُجُودِ، ولِذا أفْحَمَ إبْلِيسُ اللَّعِينُ أتْباعَهُ بِما قَصَّ اللَّهُ تَعالى لَنا مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ وعَدَكم وعْدَ الحَقِّ﴾ إلى أنْ قالَ: ﴿فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أنْفُسَكُمْ).﴾
﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ﴾ أيْ: تَوْفِيقُهُ وإمْدادُهُ لِسُلُوكِ طَرِيقِهِ ورَحْمَتِهِ، حَيْثُ وهَبَ لَكَ الكَمالَ المُطْلَقَ ﴿لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنهم أنْ يُضِلُّوكَ وما يُضِلُّونَ إلا أنْفُسَهُمْ﴾ لِعَوْدِ ضَرَرِهِ عَلَيْهِمْ، وحِفْظِكَ في قِلاعِ اسْتِعْدادِكَ عَنْ أنْ يَنالَكَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ (وأنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ) الجامِعَ لِتَفاصِيلِ العِلْمِ والحِكْمَةِ، الَّتِي هي أحْكامُ تِلْكَ التَّفاصِيلِ مَعَ العَمَلِ ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ مِن عِلْمِ عَواقِبِ الخَلْقِ وعِلْمِ ما كانَ وما سَيَكُونُ ﴿وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ حَيْثُ جَعَلَكَ أهْلًا لِمَقامِ ﴿قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى﴾ ومَنَّ عَلَيْكَ بِما لا يُحِيطُ بِهِ سِوى نِطاقُ الوُجُودِ.
﴿لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِن نَجْواهُمْ﴾ وهو ما كانَ مِن جِنْسِ الفُضُولِ، والأمْرِ الَّذِي لا يَعْنِي (إلّا) نَجْوى ﴿مَن أمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ وأرْشَدَ إلى فَضِيلَةِ السَّخاءِ النّاشِئِ مِنَ العِفَّةِ ﴿أوْ مَعْرُوفٍ﴾ قَوْلِيٍّ كَتَعَلُّمِ عِلْمٍ، أوْ فِعْلِيٍّ كَإغاثَةِ مَلْهُوفٍ ﴿أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ﴾ الَّذِي هو مِن بابِ العَدْلِ ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ ويَجْمَعُ بَيْنَ الكِمالاتِ ﴿ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ﴾ لا لِلرِّياءِ والسُّمْعَةِ مِن كُلِّ ما يَعُودُ بِهِ الفَضِيلَةُ رَذِيلَةً (فَسَوْفَ يُؤْتِيهِ اللَّهُ) تَعالى ﴿أجْرًا عَظِيمًا﴾ ويُدْخِلُهُ جَنّاتِ الصِّفاتِ.
﴿ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ﴾ أيْ: يُخالِفْ ما جاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أوِ العَقْلُ المُسَمّى عِنْدَهم بِالرَّسُولِ النَّفْسِيِّ ﴿ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ: غَيْرَ ما عَلَيْهِ أصْحابُ النَّبِيِّ ﷺ ومَنِ اقْتَفى أثَرَهم مِنَ الأخْيارِ أوِ القُوى الرُّوحانِيَّةِ ﴿نُوَلِّهِ ما تَوَلّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ الحِرْمانِ ﴿وساءَتْ مَصِيرًا﴾ لِمَن يَصْلاها.
﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلا إناثًا﴾ وهي الأصْنامُ المُسَمّاةُ بِالنُّفُوسِ؛ إذْ كُلُّ مَن يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ تَعالى فَهو عابِدٌ لِنَفْسِهِ، مُطِيعٌ لِهَواها، أوِ المُرادُ بِالإناثِ المُمْكَناتِ؛ لِأنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ مُحْتاجٌ ناقِصٌ مِن جِهَةِ إمْكانِهِ، مُنْفَعِلٌ مُتَأثِّرٌ عِنْدَ تَعَيُّنِهِ، فَهو أشْبَهُ كَلِّ شَيْءٍ بِالأُنْثى ﴿وإنْ يَدْعُونَ إلا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ وهو شَيْطانُ الوَهْمِ، حَيْثُ قَبِلُوا إغْواءَهُ وأطاعُوهُ ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ أيْ: أبْعَدَهُ عَنْ رِياضِ قُرْبِهِ ﴿وقالَ لأتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ وهم غَيْرُ المُخْلِصِينَ الَّذِينَ اسْتُثْنُوا (p-159)فِي آيَةٍ أُخْرى ﴿ولأُضِلَّنَّهُمْ﴾ عَنِ الطَّرِيقِ الحَقِّ ﴿ولأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ الأمانِيَّ الفاسِدَةَ، مِن كَسْبِ اللَّذّاتِ الفانِيَةِ ﴿ولآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ﴾ أيْ: فَلْيَقْطَعُنَّ آذانَ نُفُوسِهِمْ عَنْ سَماعِ ما يَنْفَعُهم ﴿ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ وهي الفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها مِنَ التَّوْحِيدِ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا﴾ ووَحَّدُوا، وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، واسْتَقامُوا ﴿سَنُدْخِلُهم جَنّاتٍ﴾ جَنَّةِ الأفْعالِ، وجَنَّةِ الصِّفاتِ، وجَنَّةِ الذّاتِ.
﴿لَيْسَ﴾ أيْ: حُصُولُ المَوْعُودِ ﴿بِأمانِيِّكم ولا أمانِيِّ أهْلِ الكِتابِ﴾ بَلْ لا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ فِيما يَقْتَضِيهِ، وفي المَثَلِ: «إنَّ التَّمَنِّي رَأْسُ مالِ المُفْلِسِ» ﴿ومَن أحْسَنُ دِينًا﴾ أيْ: حالًا ﴿مِمَّنْ أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ وسَلَّمَ نَفْسَهُ إلَيْهِ وفَنِيَ فِيهِ ﴿وهُوَ مُحْسِنٌ﴾ مُشاهِدٌ لِلْجَمِيعِ في عَيْنِ التَّفْضِيلِ، سالِكٌ طَرِيقَ الإحْسانِ بِالِاسْتِقامَةِ في الأعْمالِ ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ في التَّوْحِيدِ ﴿حَنِيفًا﴾ مائِلًا عَنِ السُّوى ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلا﴾ حَيْثُ تَخَلَّلَتِ المَعْرِفَةُ جَمِيعَ أجْزائِهِ مِن حَيْثُ ما هو مُرَكَّبٌ، فَلَمْ يَبْقَ جَوْهَرٌ فَرْدٌ إلّا وقَدْ حَلَّتْ فِيهِ مَعْرِفَةُ رَبِّهِ - عَزَّ وجَلَّ - فَهو عارِفٌ بِهِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنهُ، ومِن هُنا قِيلَ: إنَّ دَمَ الحَلّاجِ لَمّا وقَعَ عَلى الأرْضِ انْكَتَبَ بِكُلِّ قَطْرَةٍ مِنهُ (اللَّهُ) وأنْشَدَ:
؎ما قُدَّ لِي عُضْوٌ ولا مِفْصَلُ إلّا وفِيهِ لَكم ذِكْرُ
﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ لِأنَّ كُلَّ ما بَرَزَ في الوُجُودِ فَهو شَأْنٌ مِن شُئُونِهِ سُبْحانَهُ ﴿وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ مِن حَيْثُ إنَّهُ الَّذِي أفاضَ عَلَيْهِ الجُودَ، وهو رَبُّ الكَرَمِ والجُودِ، لا رَبَّ غَيْرُهُ، ولا يُرْجى إلّا خَيْرُهُ.
{"ayah":"وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءࣲ مُّحِیطࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق