الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا﴾ اسْتِئْنافٌ جِيءَ بِهِ لِتَقْرِيرِ ما فُصِّلَ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي و( ظُلْمًا ) إمّا حالٌ أيْ ظالِمِينَ، أوْ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ وقِيلَ: مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِيَّةِ أيْ أكْلَ ظُلْمٍ عَلى مَعْنى أكْلًا عَلى (p-215)وجْهِهِ، وقِيلَ: عَلى التَّمْيِيزِ وإنَّما عُلِّقَ الوَعِيدُ عَلى الأكْلِ بِذَلِكَ لِأنَّهُ قَدْ يَأْكُلُ مالَ اليَتِيمِ عَلى وجْهِ الِاسْتِحْقاقِ كالأُجْرَةِ والقَرْضِ مَثَلًا فَلا يَكُونُ ظُلْمًا ولا الآكِلُ ظالِمًا. وقِيلَ: ذَكَرَ الظُّلْمَ لِلتَّأْكِيدِ والبَيانِ لِأنَّ أكْلَ مالِ اليَتِيمِ لا يَكُونُ إلّا ظُلْمًا ومَن أخَذَ مالُ اليَتِيمِ قَرْضًا أوْ أُجْرَةً فَقَدْ أكَلَ مالَ نَفْسِهِ ولَمْ يَأْكُلْ مالَ اليَتِيمِ وفِيهِ مَنعٌ ظاهِرٌ. ﴿إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ﴾ أيْ مِلْءَ بُطُونِهِمْ، وشاعَ هَذا التَّعْبِيرُ في ذَلِكَ، وكَأنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ حَقِيقَةَ الظَّرْفِيَّةِ المُتَبادَرُ مِنها الإحاطَةُ بِحَيْثُ لا يُفَضَّلُ الظَّرْفُ عَنِ المَظْرُوفِ فَيَكُونُ الأكْلُ في البَطْنِ مِلْءَ البَطْنِ، وفي بَعْضِ البَطْنِ دُونَهُ، وهو المُرادُ في قَوْلِهِ: ؎كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكم تَعْفُوا فَإنَّ زَمانَكم زَمَنٌ خَمِيصُ ولا يُنافِي هَذا قَوْلَ الأُصُولِيِّينَ: إنَّ الظَّرْفَ إذا جُرَّ بِفي لا يَكُونُ بِتَمامِهِ ظَرْفًا بِخِلافِ المَقْدِرَةِ فِيهِ، فَنَحْوَ سِرْتُ يَوْمَ الخَمِيسِ لِتَمامِهِ وفي يَوْمِ الخَمِيسِ لِغَيْرِهِ، فَقَدْ قالَ عِصامُ المِلَّةِ: إنَّ هَذا مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، والبَصْرِيُّونَ لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُما كَما بُيِّنَ في النَّحْوِ، وقالَ شِهابُ الدِّينِ الظّاهِرُ: إنَّ ما ذَكَرَهُ أهْلُ الأُصُولِ فِيما يَصِحُّ جَرُّهُ بِفي ونَصْبُهُ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، وهَذا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّهُ لا يُقالُ: أكَلَ بَطْنَهُ بِمَعْنى في بَطْنِهِ فَلَيْسَ مِمّا ذَكَرَهُ أهْلُ الأُصُولِ في شَيْءٍ، وهو مِثْلُ جَعَلْتُ المَتاعَ في البَيْتِ فَهو صادِقٌ بِمَلْئِهِ وبِعَدَمِهِ لَكِنَّ الأصْلَ الأوَّلُ كَما ذَكَرُوهُ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ البُطُونِ لِلتَّأْكِيدِ والمُبالَغَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ﴾ والقَوْلُ لا يَكُونُ إلّا بِالفَمِ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ والقَلْبُ لا يَكُونُ إلّا في الصَّدْرِ، وقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ والطَّيْرُ لا يَطِيرُ إلّا بِجَناحٍ، فَقَدْ قالُوا: إنَّ الغَرَضَ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ التَّأْكِيدُ والمُبالَغَةُ، ثُمَّ المَظْرُوفُ هُنا المَفْعُولُ أيِ المَأْكُولُ لا الفاعِلُ، وتَحْقِيقُ ذَلِكَ عَلى ما نُقِلَ عَنِ التُّمُرْتاشِيِّ في الإيمانِ أنَّهُ إذا ذُكِرَ ظَرْفٌ بَعْدَ فِعْلٍ لَهُ فاعِلٌ ومَفْعُولٌ كَما إذا قُلْتَ: إنْ ضَرَبْتَ زَيْدًا في الدّارِ، أوْ في المَسْجِدِ فَكَذا فَإنْ كانا مَعًا فِيهِ فالأمْرُ ظاهِرٌ، وإنْ كانَ الفاعِلُ فِيهِ دُونَ المَفْعُولِ، أوْ بِالعَكْسِ فَإنْ كانَ الفِعْلُ مِمّا يَظْهَرُ أثَرُهُ في المَفْعُولِ كالضَّرْبِ والقَتْلِ والجَرْحِ فالمُعْتَبَرُ كَوْنُ المَفْعُولِ فِيهِ وإنْ كانَ مِمّا لا يَظْهَرُ أثَرُهُ فِيهِ كالشَّتْمِ فالمُعْتَبَرُ كَوْنُ الفاعِلِ فِيهِ، ولِذا قالَ بَعْضُ الفُقَهاءِ: لَوْ قالَ: إنْ شَتَمْتَهُ في المَسْجِدِ أوْ رَمَيْتَ إلَيْهِ فَشَرْطُ حِنْثِهِ كَوْنُ الفاعِلِ فِيهِ، ولَوْ قالَ: إنْ ضَرَبْتَهُ أوْ جَرَحْتَهُ أوْ قَتَلْتَهُ أوْ رَمَيْتَهُ فَشَرْطُهُ كَوْنُ المَفْعُولِ فِيهِ، وإنَّما كانَ الرَّمْيُ في الأوَّلِ مِمّا لا يَظْهَرُ لَهُ أثَرٌ لِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إرْسالُ السَّهْمِ مِنَ القَوْسِ بِنِيَّتِهِ؛ وذَلِكَ مِمّا لا يَظْهَرُ لَهُ أثَرٌ في المَحَلِّ ولا يَتَوَقَّفُ عَلى وُصُولِ فِعْلِ الفاعِلِ، وفي الثّانِي مِمّا يَظْهَرُ لَهُ أثَرٌ لِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إرْسالُ السَّهْمِ، أوْ ما يُضاهِيهِ عَلى وجْهٍ يَصِلُ إلى المَرْمِيِّ إلَيْهِ فَيَجْرَحُهُ أوْ يُوجِعُهُ ويُؤْلِمُهُ، ولا شَكَّ أنَّ ما نَحْنُ فِيهِ مِن قَبِيلِ هَذا القِسْمِ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَتِمَّةُ الكَلامِ عَلى ذَلِكَ. والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِيَأْكُلُونَ وهو الظّاهِرُ، وقِيلَ: إنَّهُ حالٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ( نارًا 0 أيْ ما يَجُرُّ إلَيْها فالنّارُ مَجازٌ مُرْسَلٌ مِن ذِكْرِ المُسَبَّبِ وإرادَةِ السَّبَبِ، وجُوِّزَ في ذَلِكَ الِاسْتِعارَةُ عَلى تَشْبِيهِ ما أُكِلَ مِن أمْوالِ اليَتامى بِالنّارِ لِمَحْقِ ما مَعَهُ، واسْتَبْعَدَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، وذَهَبَ بَعْضُهم إلى جَوازِ حَمْلِهِ عَلى ظاهِرِهِ، فَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أنَّهُ قالَ: مَن أكَلَ مالَ اليَتِيمِ فَإنَّهُ يُؤْخَذُ بِمِشْفَرِهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُمْلَأُ فَمُهُ جَمْرًا ويُقالُ لَهُ كُلْ ما أكَلْتَهُ في الدُّنْيا ثُمَّ يَدْخُلُ السَّعِيرَ الكُبْرى. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: «حَدَّثَنِي النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ (p-216)لَيْلَةِ أُسَرِي بِهِ قالَ: ”نَظَرْتُ فَإذا أنا بِقَوْمٍ لَهم مَشافِرُ كَمَشافِرِ الإبِلِ وقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَن يَأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ ثُمَّ يَجْعَلُ في أفْواهِهِمْ صَخْرًا مِن نارٍ فَيَقْذِفُ في أجْوافِهِمْ حَتّى تَخْرُجَ مِن أسافِلِهِمْ ولَهم خُوارٌ وصُراخٌ فَقُلْتُ: يا جِبْرِيلُ مَن هَؤُلاءِ؟ قالَ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا“ ﴿وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾» أيْ سَيَدْخُلُونَ نارًا هائِلَةً مُبْهَمَةَ الوَصْفِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِضَمِّ ياءِ المُضارَعَةِ، والباقُونَ بِفَتْحِها، وقُرِئَ ( وسَيَصَلَّوْنَ ) بِتَشْدِيدِ اللّامِ، وفي «الصَّحّاحِ» يُقالُ: صَلَيْتُ اللَّحْمَ وغَيْرَهُ أصْلِيهِ صَلْيًا مِثْلَ رَمَيْتُهِ رَمْيًا إذا شَوَيْتَهُ، وصَلَيْتُ الرَّجُلَ نارًا إذا أدْخَلْتَهُ وجَعَلْتَهُ يَصْلاها فَإنْ ألْقَيْتَهُ فِيها إلْقاءً كَأنَّكَ تُرِيدُ الإحْراقَ قُلْتُ: أصْلَيْتُهُ بِالألِفِ وصَلَّيْتُهُ تَصْلِيَةً، ويُقالُ: صَلّى بِالأمْرِ إذا قاسى حَرَّهُ وشِدَّتَهُ، قالَ الطُّهَوِيُّ: ؎ولا تَبْلى بَسالَتُهم وإنْ هم ∗∗∗ صَلُوا " بِالحَرْبِ حِينًا بَعْدَ حِينِ وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ أصْلَ الصَّلْيِ القُرْبُ مِنَ النّارِ وقَدِ اسْتُعْمِلَ هُنا في الدُّخُولِ مَجازًا، وظاهِرُ كَلامِ البَعْضِ أنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ يَتَعَدّى بِالباءِ فَيُقالُ: صَلِيَ بِالنّارِ، وذَكَرَ الرّاغِبُ أنَّهُ يَتَعَدّى بِالباءِ تارَةً أوْ بِنَفْسِهِ أُخْرى ولَعَلَّهُ بِمَعْنَيَيْنِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ ما في «الصَّحّاحِ»، والسَّعِيرُ فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ مِن سَعَّرْتُ النّارَ إذا أوْقَدْتَها وألْهَبْتَها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أنَّ السَّعِيرَ وادٍ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ، وظاهِرُ الآيَةِ أنَّ هَذا الحُكْمَ عامٌّ لِكُلِّ مَن يَأْكُلُ مالَ اليَتِيمِ مُؤْمِنًا كانَ أوْ مُشْرِكًا، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ أنَّهُ قالَ: هَذِهِ الآيَةُ لِأهْلِ الشِّرْكِ حِينَ كانُوا لا يُورِثُونَهم أيِ اليَتامى ويَأْكُلُونَ أمْوالَهم، ولا يَخْفى أنَّهُ إنْ أرادَ أنَّ حُكْمَ الآيَةِ خاصٌّ بِأهْلِ الشِّرْكِ فَقَطْ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وإنْ أرادَ أنَّها نَزَلَتْ فِيهِمْ فَلا بَأْسَ بِهِ إذِ العِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وفي بَعْضِ الأخْبارِ «أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلى النّاسِ واحْتَرَزُوا عَنْ مُخالَطَةِ اليَتامى بِالكُلِّيَّةِ فَصَعُبَ الأمْرُ عَلى اليَتامى فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ تُخالِطُوهُمْ﴾ الآيَةَ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب